Tuesday 27/12/2011/2011 Issue 14334

 14334 الثلاثاء 02 صفر 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

محليــات

      

قرأت كتاباً بعنوان «وفاة العقل» للكاتب فيليب هاورد، وهو محام وضع هذا الكتاب ليبين مدى تعقيد القانون الأمريكي، وفيه من المعلومات ما أذهلني، فيقول الكاتب إن القانون الأمريكي حالياً وصل إلى درجة من الضخامة لم يبلغها أي قانون آخر في تاريخ البشرية كلها. القانون الفدرالي مفصل بطريقة خيالية. دعونا أولاً نعرف معنى «فدرالي». أمريكا دولة مكونة من 50 ولاية لكل منها قوانينها الخاصة وشرطتها التي تنفذ تلك القوانين. بعض الولايات مثلاً تعدم القتلة، بينما بعضها لا تعترف بالإعدام ولا تقتل أحداً، وهكذا. لكن هناك قوانين تسري على جميع الولايات وهي القوانين الفدرالية، ومن هنا أتى اسم الشرطة الفدرالية (إف بي آي) والتي مهمتها فرض القوانين التي تشمل الدولة كاملة. القوانين الفدرالية هذه تضخمت بشكلٍ هائل. مثلاً، يستهجن الكاتب قوانين حماية البيئة، فيقول: إن الفكرة نفسها نبيلة، لكن طريقة تقنينها بشعة، فالجزء الخاص بالبيئة في القانون الفدرالي يصل حجمه إلى 17 مجلدا ضخما، ورغم هذا التفصيل فإنه لم ينفع كثيراً. الجزء المتعلق بالضرائب يبلغ من الحجم 36 ألف صفحة بالخط الصغير والأسطر المتقاربة، ويستنكر الكاتب كيفية أن يفهم المواطن العادي قوانين الضرائب إذا كان المحامون أنفسهم لا يفهمون أغلبها. جزء عن الأنظمة يبلغ من الطول 160 ألف صفحة. جزء آخر عن القوانين يبلغ أكثر من 200 ألف صفحة! كلها تشرح قوانين يمكن صياغتها في أقل من عشر معشار هذا العدد من الصفحات. تأملوا التالي: ماذا لو اكتشفت يوماً أن أرضية منزلك ضعيفة؟ ستتصل بأحد المهندسين وتتفقان على السعر فيصلح لك الأرضية وانتهت المسألة في سويعات. أما إذا كان هناك أرضية متهاوية في إحدى الدوائر الحكومية في نيويورك مثلاً فالإجراء كما يلي: يجتمع مديرو الدائرة مع وكالة حكومية اسمها وكالة الخدمات العامة وهدف الاجتماعات هو تفصيل المعلومات حرفاً حرفاً، مثلاً: هل يكتفي المهندس بإصلاح الأرضية وحدها أم عليه أن يعمل من الأساس؟ عشرات الصفحات مليئة بهذه الأسئلة الاعتباطية والتي تحاول إجابة كل سؤال يتخيله العقل. بعد إعداد الملف يقوم المسؤولون بمراجعته، بعدها يجتمع ملف مناقصة كبير مهمته أن يطلب عروضاً من الشركات. حتى لو كان المشروع صغيراً فإن ملف المناقصة يتكون من مئات الأوراق. بعدها تذهب المناقصة لجميع المسؤولين لمراجعته والتأكد أنه عادل. الآن تُرسَل المناقصة إلى عينة عشواية من الشركات، حتى لو كانت من أسوئها عملاً وسمعة، لكيلا تُتهم الحكومة بالمحاباة. بعد الاختيار يُرسل إليهم ملف المناقصة الضخم. بعدها يجلس 5 موظفين حكوميين في لجنة ويقوم كل منهم بتقييم العروض باستخدام نظام نقاط وبدون التشاور مع الآخرين. ثم تأتي لجنة عليا لمراجعة تقييماتهم، بعدها يقوم مكتب العمدة بمراجعة هذا كله. الآن فقط تبدأ المفاوضات مع المهندس، هذا لو كان يتذكر المشروع أصلاً لأن هذه المرحلة لا تأتي إلا بعد أشهر طويلة. بعد المفاوضات يقوم المراقب العام بمراجعة الوضع، ثم يذهب تقريره للعمدة والذي يراجعه قبل الموافقة عليه وإرسائه للشركة الفائزة. الآن فقط يبدأ المهندس بفحص الأرضية. لكن لو أتت إحدى الشركات التي لم تفز وقالت: إن أحد أطوار هذه المناقصة ظالم لهم فيجب تعليق المشروع إلى أن يقوم محامو الطرفين بحل المشكلة مما يأخذ سنين! إذا افترضنا أنه لم يعترض أحد فإن العملية تأخذ عادة ما لا يقل عن سنتين لأتفه مشروع، سواءً كان إصلاح أرضية أو تركيب دواليب إلخ. مشكلة أخرى هي أن القوانين لا تلغي القوانين التي قبلها، بل هي تتكوم! السبب هو أن إلغاء القوانين القديمة عملية شديدة التعقيد حتى أن السياسيين يئسوا من ذلك تماماً. يقول الكاتب أن سبب هذه الفوضى شيء بسيط: غياب استخدام العقل. إن استخدام العقل ضرورة لأن أوضاع البشر مختلفة ومعقدة ويستحيل أن تُحصر. لكن هذا ما يحاول القانون الأمريكي أن يصنعه: أن يحصركل المواقف والأفعال البشرية الممكنة، ومن هذا ما تفعله هيئة الصحة والسلامة المهنية، وهي إدارة حكومية تسعى لحماية العاملين من أخطار أماكن عملهم، فهذه الهيئة لديها أكثر من 4000 قانون شديدة التفصيل، والكثير منها غريبة. مثلاً هناك قانون يقضي بأن توضع المواد السامة في مخازن مغلقة. هذا جيد. لكن إحدى المواد «السامة» هو الرمل! هذا لأن الرمل يحوي مادة اسمها «سيليكا» وهي لا تضر إلا إذا كانت من ضمن بعض عمليات التعدين فتكون مسرطنة، لكن غير هذه الحالات المحدودة فالرمل لا يضر. إن المشكلة الكبرى هي أن من وضعوا القانون أرادوا الاحتياط، لذلك فصلوا القوانين بشكلٍ مكثف، ورغم أن هدفهم كان منع التلاعب والفساد، لكن كلما زادت التفصيلات زادت احتمالية التناقض بينها. عندما نُشر الكتاب عام 1995م أُحصي عدد الكلمات في قانون الولايات المتحد ة فإذا به يتعدى مائة مليون كلمة! ولا شك أنها زادت كثيراً منذ ذلك الحين، ول ما زاد عن حده انقلب إلى ضده.

 

الحديقة
عندما يحاول القانون إرضاء كل الناس
إبراهيم عبد الله العمار

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة