Friday 30/12/2011/2011 Issue 14337

 14337 الجمعة 05 صفر 1433 العدد

  
   

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الثقافية

 

قراءة في ديوان (تذكار) لعبدالفتّاح سمك

رجوع

 

كتب د. خليفة بن عربيّ

المطّلع على ديوان (تذكار) للأستاذ عبد الفتّاح سمك لن يغرب عن وعيه عمق التّجربة الشّعريّة المسيطرة على النّسق الشّعريّ وتراكماتها وامتدادها الزّمنيّ، فقد أودع الشّاعر في نصوصه كمًّا من خلاصات فكر وإتقان وصنعة نحتتها السّنون الطويلة الّتي تعايش فيها مع العمليّة الشّعريّة، ولذلك فإنّ ثمة ظواهر لافتة شكّلت ذلك النّسيج الممتلئ بمتشابكات تتداخل فيها مؤسِّساتٌ فكريّة ولغويّة وموضوعيّة، من أهمّها الظّاهرة اللّغويّة، حيث إنّ شاعرنا ينطلق من منظومة لغويّة متمثّلة في معجمٍ ثرٍّ من الألفاظ الرّصينة، والقواعد النّحويّة اللّغويّة الموروثة وما يتّصل بها من لغة فصيحة.

بيد أنّ ملمح الإسقاط التّاريخيّ وما يتّصل به من تراكمات أسطوريّة وسرديّات روائيّة وغيرها من ذلك الاسترجاع الماضويّ لأحداث مختلفةٍ متشبّثة في عدّة نواحٍ بالواقع الّذي يعيشه الشّاعر ونعيشه نحن، يجعل من تجربة (سمك) تجربةً متماسكة، تتشجّر فيها مساحات عدّة من الدِّلالات الفكريّة والنّفسيّة على نحو ما سنرى.

وتكمن أهمّيّة استحضار الرّمز التّاريخيّ في النّصّ الشّعريّ في أنّه تشخيص حسّيّ لصورة متخمة بالمعاني الواسعة والمختلفة، تَظْهر من خلاله قيمةُ الرّمز ووظيفته الدِّلالية، حيث تتّحد تلك الرّموز التّاريخيّة مع النّصّ الشّعريّ ليتشكّل لنا نسيجٌ إشاريّ مُستلهم من التّاريخ ومُستحضر في رحم الواقع في ومضات التقاء وتقارب بين الإطارَيْن، إضافة إلى تداخل الحركة الإنسانيّة بكلّ أطوارها الزّمانيّة المتمثّلة في الذّاكرة الجمعيّة كالتّاريخ والسّير والأسطورة...إلخ، لتندمج في قوالب حاضرة ماثلة للعيان، فتكون أقرب للثّقافة والشّعور الجمعيّين.

لقد سرد الشّاعر الوقائع التّاريخيّة على شكل اجتزائيّ وانتقائيّ لا يهدف إلى السّرد المقنّن للوقائع، بقدر ما يرنو إلى تحقيق غايات سياسيّة فكريّة، ولعلّ ممّا أُلِف في هذا الاستخدام أنّ استدعاء التّاريخ كثيراً ما يكون في لحظات الإخفاق والهزيمة، لتكون تلك اللّحظات مذكِّرةً بالمجد الأثيل، والتّاريخ المجيد، وهذا ما فعله شاعرنا في قصيدته (اعترافات تلميذ بمدرسة بحر البقر)، حيث وضعنا في البداية على قمّة المأساة الّتي حاقت بهذه المدرسة في رواية شفهيّة لتلميذ التهمت قذائف العدوّ بسماته وضحكاته وأتراحه: أحقا مات.. ولن ألقاه بعد اليوم.. دعوني أنزّف العبرات من قلبي لترويه.. فقد فارقته ظمآن حين تفجّر اللّهب.. دعوني.. لا أحبّ الصّمت.. رغم الجرح لن أصمت.. سأحكي كيف كان الأمس..

إنّ ذلك الأمس الّذي أراد الشّاعر التّلميذ أن يصفه لنا هو ومضات تاريخيّة لشخصيّات كانت تصنع المجد، وكانت عازلاً منيعًا لكلّ هجمات الأعداء: دعوني لا أحب الصّمت.. فليتفتق الجرح وكان يلفّنا الفرح.. إذا ما راح أستاذ (الموادّ) يقول عن أحمس أمير حارب الهكسوس كي تبقى لنا مصرا فتصرخ صرخة كبرى ونتحمس وعن عمرو جحافله تنثّ النّور والعطرا وتجتث المظالم تغرس الخيرا ونقرأ قصّة الأبطال بعد مدرِّس العربيّ فتلمع أعين بالشّوق والحبّ إنّ المنظور التّصوّريّ لسيرة التّاريخ يحرّك دِلالة الأحداث السّالفة لاستشفاف شخوص النّصر الماضيين، وإذا عددنا التّاريخ أساسَ تشكيل الهويّة البشريّة، أدركنا أنّ ذلك مرتبط بالمُدرك الذّهنيّ لفاعليّة الدّيمومة التّاريخيّة كي تبقى الأذهان معلّقة بخيوط الأمل في تكرار تلك اللّحظات حتّى في عمق الاندحار، ومن هنا تكتسب الهويّةُ سلطتها على القضايا القوميّة بوجه خاصّ، وبالتّحديد في وقت استثارة لحظات الهزيمة للرّوح الشّاعرة، فتأتي الرّموز التّاريخيّة باعتبارها محدثات ضرورية ومهمّة لمواجهة الوضع، وهذا ما حاول (سمك) أن يضعنا في إطاره، فعلى الرّغم من الهوّة الفارقة في التّاريخ والانتماء العقديّ بين (أُحمس) محرّر مصر وطارد الهكسوس، وبين (عمرو بن العاص) القائد الإسلاميّ فاتح مصر العظيم، إلاّ أنّ الفيصل المتقاطع بينهما هو تحرير مصر من الأعداء وردّهم، ومن هنا نشأت العلاقة الوامقة بينهما، وكلّ ذلك ناسب أن تُسترجع ذكراهما في موقف مؤلم ممتلئ بالهزيمة، لتتحوّل إلى نوع ما من الانتصار، انتصار العزيمة، وانتصار الفكرة، وانتصار الصّمود، والأهمّ انتصار التّاريخ، ويحسب للشّاعر أنّه يتجاوز مجرّد كون التّاريخ سردًا للأحداث، ومجرّد كونه إسقاطًا عاديًّا لها في الواقع، ليصل إلى حدّ الرّؤية الذّهنيّة والفكريّة، لتنقلب إلى همّ إعادة التّاريخ وتكراره، أو بمعنى آخر إعادة صياغته على أسس الماضي، لكنّ هذه الرّؤية، وهذا الأمل يجب أن لا ينقلب إلى مبالغة حالمة تفصل المتلقّي عن الواقع المرير، بل هو انطلاقة البداية للتّغيير، فالألم هو المحفّز والدّافع، والقراءة التّحليليّة النّافذة هي الّتي تضع الأمور في نصابها: ومات الحبّ في عينيه وذاب الحقد في شفتيه وفوق السّحب عند الشّرق..

 

رجوع

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة