ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Tuesday 07/02/2012/2012 Issue 14376

 14376 الثلاثاء 15 ربيع الأول 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

منوعـات

      

حينما خرجت من مقبرة النسيم، مررت بالمكتب عند البوابة، واستلمت بطاقة هويتي، وبعد أن وقعت على ورقة تضمت معلومات عن المتوفى، استلمت النسخة الصفراء منها، ثم وضعتها في جيبي وخرجت.. توقفت لوهلة، والتفت نحو نصائب القبور الطينية، وأفكر في داخلي، هل أصبحت أمي مجرّد ورقة صفراء ترقد في جيبي الآن؟ هل هذه السيدة النبيلة التي حملت الطين واللبن مع أبي كي تبني بيتنا الأول في الشميسي ترقد الآن تحت الطين؟ هذه السيدة النبيلة التي وضعت بين يدي الكتاب الأول، هذه التي خطفت منّي كتابًا أبكاني ذات طفولة وخبأته في خزانة الملابس كي لا أحزن ولا أبكي، ها أنذا أبكي كطفل، وأنتِ لا تتركين في يدي سوى عباءتك، هذه السيدة النبيلة التي لا تكف عن الدعاء بين كل صلاة وصلاة «اجعل ما يفك حزائمي غيرك» ها أنذا قبل قليل فككت حزائمك ووضعت وجهك الطاهر تجاه القبلة، كنت أعمل بقوة وعزيمة وأن أضع اللبن حولك، كنت أعمل كرجل غريب لا تذرف له دمعة واحدة، لكنهم ما أن جذبوني خارج قبرك، وأهالوا التراب فوقك، انهال دمعي كالرمل، كنت أتلفت ذاهلاً وخائفًا تمامًا كما كنت في السادسة أثناء حفل زواج أختي الكبرى، وقد كنت أبكي خائفًا باحثًا عنك بين النساء، كنت أشعر آنذاك أنني فقدت، ها أنذا أفقدك اليوم إلى الأبد.

ما أصعب الفقد يا أميمتي، كم تذكرت وحشتك حينما رحلت أختي قبل سنوات خمس، وكم فهمت وقتها معنى دعوتك اليومية لي عند كل موقف صغير «اجعلي ما أذوق حزنك»، كم كنت أخشى الموت، ليس شغفًا بالحياة، بل خوفًا على حزنك العظيم عليّ حين أرحل، لأنني وقتذاك سأكون عاجزًا عن أن أواسيك، وأمسح دمعتك، فهل يمكن لميت أن يستيقظ ويخرج من قبره كي يواسي أمه المكلومة؟

كم هي صعبة حالة الفقد، وكم هي عاجزة اللغة أن تصفها، وأنا الذي قضيت ربع قرن مع الكلمات، أشعر بفرار الكلمات وضعفها، بل أشعر أن القاموس ذاته بات فقيرًا، متخاذلاً عن الوقوف بجانبي، بل حائرًا في رصد مئات، بل الآلاف التفاصيل اليومية الصغيرة التي تطوف في رأسي كالذئاب الحبيسة، تبحث عن مخرج كي تنهش الورق.

أليست الحالة أكبر بكثير من الكتابة؟

أليس الفقد والذاكرة الملأى بالذكريات أكبر من مجرد زاوية، أو بضعة مئات من الكلمات؟

إذن يجب أن أتوقف عن الكتابة، وأترك الحالة ووصفها لنص حر لا يرتبط بقارئ ينتظر مني أن أكتب عنه، عن ظروفه، عن معاناته، وهو ما نذرت له زاويتي تلك (نزهات) فاستميحكم عذرًا أن احتللت مساحتكم لأعبر عن حزن خاص وشخصي وحميم.

شكر وامتنان:

أشكر كل من حضر لمواساتي في فقد أمي يرحمها الله، سواء حضوريًا أو هاتفيًا أو برقيًا، أو عبر الرسائل ومواقع التواصل الاجتماعي، أشكر أصحاب السمو الملكي الأمراء، وأصحاب المعالي الوزراء، وفضيلة العلماء، والإعلاميين والأدباء، والأقارب والأصدقاء، وكل القراء الرائعين الذين غمروني بمحبتهم ومواساتهم..

غفر الله لأمي ورحمها وأسكنها الفردوس الأعلى، ولكل أمهاتكم، ولجميع موتى المسلمين.

 

نزهات
«اجعلي ما أذوق حزنك»
يوسف المحيميد

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة