ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Saturday 11/02/2012/2012 Issue 14380

 14380 السبت 19 ربيع الأول 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

دلفت إلى مكتبي في الجامعة زهرتان من شابات هذا الوطن بعد تعيينهما أخيراً (وبعد انتظار دام لسنوات طوال) على وظائف أدراية في أحد الأقسام. كانت تنشدان المشورة في كيفية الحصول على بعثة دراسية لتحقيق أحلامهن في إتمام الدراسات العليا، حيث إن النظام لا يجيز ابتعاث الإداريين... فقط المعيدين؟ سألتهن إذا كانت هذه هي أنظمة الجامعة فماذا عن برنامج خادم الحرمين الشريفين في

دورته الثامنة والمقدم عبر وزارة التعليم العالي؟ ألا يفتح أحد النوافذ؟ ومتى سنعثر على خريجات من النساء يجدن الدعم من عائلاتهن أو أزواجهن لإنهاء الدراسات العليا في الخارج؟ أجابتا: النظام هنا أيضاً لا يسمح إذ لا يمكنك الدخول وتسجيل معلوماتك الإلكترونية إذا كنت قد تجاوزت السابعة والعشرين.

مدهش هذا التحديد، إذ تثار قضية العمر دائماً عند رغبة الإنسان في إتمام تعليمه أو الحصول على معرفة أكثر في حقل ما، فبرامج الدراسات العليا مثلاً في قطاعات كثيرة تحدد عمر ابتعاث أي موظف من أية جهة بأن لا يزيد عن الأربعين أو فوق ذلك بقليل. وهذا يعني ببساطة حرمان عشرات الآلاف من الموظفين والموظفات الراغبين في تحسين مستوياتهم الوظيفية والاجتماعية من فرصة الدراسة. والحجة المطروحة هنا هو أن حياة الموظف تنتهي بسن الستين كموظف، فإذا التحق بعد الأربعين بدراسة ما فلن تتمكن المؤسسة من الاستفادة منه بدرجة توازي ما تم استثماره فيه لتجاوزه إلى عمر الكهولة مع تقاعده عند الستين.

من المدهش أن الكثير من المسلمات التي بنيت عليها مؤسساتنا التعليمية والوظيفية بدأ العلم يناقشها ويضعفها، مثل حجة العمر عند الرغبة في الدراسة بعد الأربعين. هاورد جاردنر أحد علماء النفس المشهورين في العالم اليوم والأستاذ في جامعة هارفرد وصاحب نظرية الذكاءات المتعددة التي غيرت الرؤيا لكيف نتعلم وكيف نعلم (أي ندرس)، وفي كتاب جميل له ظهر مؤخراً تحت اسم «إعادة صياغة مفاهيم الحق والخير والجمال: رؤية للتربية في القرن الواحد والعشرين (2011)» بدأ يشكك في نظرية «بياجية» التي تقول «إن النمو العقلي للإنسان يكتمل في سن الثامنة عشرة». البحوث النفسية في الفترة الأخيرة تؤكد أن هناك مرحلة تالية لذلك تسمى مرحلة ما بعد التفكر أو التأمل. علماء النفس الآن يميزون المراحل التالية في عمر الإنسان حيث تتحقق معدلات مختلفة وعميقة من النمو الإدراكي مما يمكن الإنسان من النضج في مراحل لاحقة من حياته ومن رؤية مفاهيم حياتية كثيرة بطريقة عقلانية أكثر مما كان قادراً وهو في أول شبابه، مثلاً مفاهيم الصح والخطاء.. والخير والباطل وغير ذلك وإعادة صياغة رؤيته لها بطريقة مختلفة عميقة ومتأثرة بتجاربه المتنوعة التي مر بها في شبابه مما يمكنه من اتخاذ قرارات أكثر نضجاً وفائدة للمجتمع من حوله. والعلماء يرون أن هذه المرحلة تمثل بداية للقدرة على التفكير بطريقة منطقية في القضايا الأساسية التي تحيط بحياة الإنسان مثل الأمور السياسية والثقافية والبشرية والبيئة الخ.. فمثلاً في المجال السياسي: من المنطقي الافتراض بأن الإنسان في مرحلة المراهقة يكون قادراً على تفهم نظام أو أكثر من الأنظمة السياسية (ديمقراطية، ملكية، أوتوقراطية، فاشية الخ)، ولكن لن يكون لديه القدرة على التفكير فيها كنظام كلي والمقارنة بينها إلا في مراحل متأخرة أي ما بعد سن العشرين. لهذا، فالتطرف في وجهات النظر السياسية مرتبط بمراهقة وشباب مبكر، في حين يتراجع الكثيرون عن رؤاهم الأحادية إلى رؤيا أكثر اعتدالاً مع التقدم في العمر واكتساب مهارات عقلية متقدمة، وهي التي يتحدث عنها العلماء هنا. وبالتالي فما يحدث هو تغير في منهجية التفكير نتيجة للخبرة الحيايتية والعمر تسمح برؤية أوجه متعددة لأمر ما لم يكن واضحاً أيام الشباب أو المراهقة رغم توفر المعلومة. فالفارق مثلاً بين طالب خريج من الثانوية وطالب الدراسات العليا ليست فقط فرقاً في المعلومات بل هو فرق في منهجية التكير (.. systematic think) أي طريقة التفكير في الأشياء وفي الرؤية لها. وهو ما يعني أن المرحلة التي تلي مرحلة الشباب أنما هي مرحلة ثرية يتحقق فيها عمق في الاختيار والرؤية والتأمل مما يساعد الإنسان على اختيار ليس فقط ما يرغب في دراسته بل ما هو قادر على الإفادة فيه أكثر.

جاردنر أيضاً يشير إلى أننا والى عهد قريب كنا نعتقد بأن هناك مراحل ثلاث للنمو: الطفولة، الشباب ثم الكهولة. الآن بدأ العلماء في تمييز فترة زمنية جديدة في عمر الإنسان تمتد من الخمسين حتى الستين أو السبعين للكثير من البشر وليس كلهم، فالبعض يتأثر بشكل واضح بمشكلات الكهولة (بالتأكيد هنا بسبب السمنة وعدم ممارسة الرياضة وفكرة الاعتماد الاجتماعي للكبير في السن على من حولنا من أولاد)، لكن عدداً كبيراً من الناس حول العالم يظل مستمراً في أداء وظائفه العقلية والإدراكية بطريقة أكثر عمقاً وتفكراً وتبصراً كما هو ملاحظ اليوم في الكثير من بقاع العالم، وهاورد جاردنر نفسه تجاوز السبعين وكان يدرس لنا هذا الصيف في هارفرد من الساعة الثامنة صباحاً وحتى السادسة دون كلل أو ضعف!!! (حضرت معه دورة تعليمية هذا الصيف في كلية التربية للدراسات العليا في جامعة هارفرد).

هذا يعني ببساطة أن مفاهيم العمر والنشاط العقلي والقدرات الإدراكية والتي بنت عليها المؤسسات التربوية المختلفة الكثير من قوانينها لا يعتد بها اليوم، بل إن الدراسات تؤكد أن لدى الإنسان رجلاً كان أو امرأة قدرات كامنة عميقة وثرية لا تظهر بشكل جيد إلا بعد سن النضج وتخطي مرحلة الشباب مما يمكنه من الالتحاق بأية برامج دراسية أو تدريبية، بل هي ضرورة، لأن رؤية الإنسان لنفسه في هذا العصر اختلفت عما كان.

بالأمس الشايب هو من يبلغ الأربعين، واليوم سن الأربعين هي عز الشباب. كلنا أصبحنا نرى أنفسنا متجددين وفي حالة تعلم مستمرة ونطمح لتحسين رؤيتنا وواقعنا حتى لو تجاوزنا هذا السن بمراحل ولم نعد ذلك الرجل أو المرأة التي تفرض عليه مسلمات ثقافية الركون والتمسح بالضعف لكسب عطف من حولنا، فلماذا تقف قوانين بالية بنيت على مسلمات تهالكت اليوم مع حقائق العلم الجديدة في وجه طموحات عشرات الناضجات والناضجين من رجالات ونساء هذا الوطن. ربما هم يحتاجون إلى برنامج ابتعاث خاص منك يا خادم الحرمين الشريفين ينقذهم من عقدة البيروقراطية وكهولة قوانين المؤسسات.

 

لن يسمح لك بالالتحاق بالدراسة: أنت أكبر من اللازم؟!
د. فوزية البكر

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة