ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Sunday 12/02/2012/2012 Issue 14381

 14381 الأحد 20 ربيع الأول 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

محاضرة

 

في جامعة الملك عبدالعـزيز بجـدة وضـمـن نشاط كرسي الأمير خالد الفيصل عن الاعتدال
رئيس التحرير يحاضر عن التجربة الصحفية بالمملكة في ضوء منهج الاعتدال السعودي

رجوع

 

 

 

 

 

 

 

 

 

جدة - متابعة - صلاح مخارش - فهد المشهوري - عبدالله دماس - عبدالقادر حسين:

رعى معالي مدير جامعة الملك عبد العزيز بجدة الدكتور أسامة طيب صباح يوم الاثنين الماضي 6-2-2012م المحاضرة التي ألقاها رئيس التحرير الزميل الأستاذ خالد المالك عن «التجربة الصحفية بالمملكة في ضوء منهج الاعتدال السعودي»، وذلك بحضور وكلاء ومسؤولي الجامعة وعدد من المثقفين والكتَّاب والأكاديميين والإعلاميين، بمشاركة عدد من الطلاب والطالبات بقاعة الندوات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجامعة.

وتأتي هذه المحاضرة ضمن سلسة الحوارات واللقاءات والمحاضرات التي أطلقها الكرسي منذ إنشائه، والتي استضافت عدداً من أصحاب السمو ونخبة من المتحدثين والخبراء والوزراء في مجالات عدة، فضلاً عن تنظيم ورش العمل والندوات والمعارض والمحاضرات، التي كان من أبرزها محاضرة سمو ولي العهد الأمير نايف بن عبد العزيز والأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة والأمير تركي الفيصل. ويأتي مفهوم الأمير خالد الفيصل للاعتدال في المجتمع السعودي والثقافة الدينية السعودية من نافذة جديدة، تنفتح على متغيِّرات العصر الحالي ومستجداته، وتضع التطبيق العملي البسيط للاعتدال في منهجية مؤصّلة تضمن ديمومتها وانتشارها واستثمارها خير استثمار، بما يعود بالنفع على المجتمع السعودي ثم الدين الإسلامي والعالم كله. وفيما يأتي نص المحاضرة:

لم يتركْ الأمير خالد الفيصل في محاضرته التي ألقاها هنا بعنوان (تأصيل منهج الاعتدال السعوديّ) فرصة لما يمكن أن يقال أو يضاف على ما تحدث به عن هذا الموضوع، بدءاً من قيام الدولة السعودية الأولى ثم الثانية وحتى مجيء الدولة السعودية الثالثة التي نعيش في ظلالها، فقد تتبع سموه التطورات والظروف التي واجهتْها، وركّز بشكل خاصّ وجميل على الدولة السعودية المعاصرة، مذكّرا بالمواجهة التي لم تهدأ أو تتوقف بين ظاهرتي التطرف والاعتدال، وكيف كانت الغلبة في النهاية ودائما لصالح ظاهرة الاعتدال.

***

وكما أقلق التطرف خالد الفيصل، فقد أقلقنا جميعا، وكما انحاز سموه إلى الاعتدال فجميعنا مع هذا المنهج، ومثلما نادى بأهمية أن نمارس حياتنا ونبني دولتنا بعمل يعتمد على الاعتدال، فإن عاقلا ورشيدا ومؤمنا بأن الحياة لا تستقيم إلا بالاعتدال لا يمكن أن يشذّ عن هذه القاعدة أو يفكر بما يخالفها، وبهذا المفهوم انتصر الاعتدال، وتحول إلى إستراتيجية لتأصيله في كل شؤون ومناحي الحياة دون أن تستثني وجها من أوجهها أو نمطا من أنماطها أو مسارا من مساراتها.

***

وما من دولة سادها التطرف، أو غزاها عدم الاعتدال، أو مارست فئات من أهلها شكلا من أشكال التطرف، إلا وكان مآلها التخريب والفوضى والاعتداء على حريات الآخرين، مثلما هو مشاهد الآن في كثير من الدول، حيث القتل والتدمير والإرهاب، وممارسة كل ما يرمز أو يؤدي إلى أعمال تخريبية يتم القيام بها عن عمد وعن ترصد، لتصل في النهاية إلى الهدف المطلوب في خلق بيئة مضطربة، يعتدي فيها القويّ على الضعيف، وتغيب فيها المصالح العامة، وتختفي معها القيادات وتسلْسل المسؤوليات التي تدير مصالح الأمة في ظروف تكون مهيأة لخلق مثل هذه الأجواء من الفوضى المؤذية التي لا يجد الناس فيها من يحتكمون إليه.

***

ولحسن الحظّ، فإن التطرف بمفهومه وطبيعته ومسمياته وقياداته وكلّ من ينضوي إلى تنظيمه، يواجه في هذه المرحلة من التاريخ رفضا وتصديا له بكلّ الوسائل والأساليب وفي كل الدول والمجتمعات، بعد أن اكتوتْ بناره دول العالم وشعوب الدنيا، وامتدت آثاره المدمرة إلى كلّ ما هو جميل أو يرمز إلى الجمال في هذه الحياة، ما يعني أن العالم أصبح اليوم متحدا ومتعاونا أو هكذا ينبغي أن يكون في مواجهة التطرف وكسر عظام رموزه وأتباعه، بما في ذلك تفكيك خلاياه وتنظيماته، ضمن مواجهة قصد منها التأكيد على الالتزام بمبدأ الاعتدال الذي يحاول هؤلاء اختطافه وتغييبه.

***

وما من شكّ في أن وسائل الإعلام المرئيّ والمسموع والمقروء تلعب دورا مهما ورئيسا ومؤثّرا في تأصيل منهج الاعتدال وفي محاربة التطرف إن هي التزمت برسالتها وتمسكت بالمبادئ التي قامت عليها، غير أن التطرف لا يخلو من قدرته على اختراق بعض وسائل الإعلام وتوظيفها لخدمة أهدافه، حيث جعل من التقنية ووسائل الاتصال المتاحة أمامه أدوات لاستخدامها في توسيع شبكته الإعلامية ضمن تجنيده لعناصر بشرية قادرة على تغليب مبدأ التطرف على مبدأ الاعتدال في طروحاتها وتنظيراتها، وهو ما يعني أن الإعلام بكلّ وسائله وأنواعه يمكن النظر إليه على أنه قوة كبيرة ومؤثّرة في الحرب الشرسة بين التطرف والاعتدال.

***

ومثلما تحدث الأمير خالد الفيصل في محاضرته هنا عن تأصيل منهج الاعتدال السعودي، بدءا بما اعتبر سموه أن الملك عبدالعزيز هو المؤسس الحقيقيّ لمنهج الاعتدال السعوديّ، مرورا بما أورده من شواهد على استمرار هذا النهج خلال تولي خمسة من الملوك سدة الحكم في البلاد هم على التوالي سعود وفيصل وخالد وفهد وعبدالله، ما يعني استمرار هذا النهج منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز وحتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وبما يؤكّد استمراره وديمومته في الماضي وحاليا وفي كل الحقب التاريخية القادمة، حتى وإن خرج من بني جلدتنا من تلبّس باسم الدين، أو من تأثر بالثقافة الغربية في جوانبها السلبية التي لا تنسجم مع هذا النهج، فحاول أن يقوّض منهج الاعتدال، ويثير من خلال ممارساته وتوجهاته ما يسيء إلى استقرار المملكة وأمن مواطنيها والمقيمين فيها.

***

أي أننا أمام رؤية قالها خالد الفيصل ليختصر بها موقفنا الرافض لظاهرة الإرهاب والغلو، ومحاولة نفر قليل منا فرض اقتناعاته على الأكثرية من المواطنين، وهي رؤية حددها سموّه بأنْ (لا للتطرف.. لا للتكفير.. لا للتغريب.. نعم للاعتدال)، وهي مفردات أو مصطلحات تمثّل الموقف العامّ المؤيّد لمنهج الاعتدال، فضلا عن تأصيله والذّبّ عنه، والدفاع عن كلّ ما يؤدي إلى استمراره وحمايته من هذا العبث الذي يمثّل ظاهرة خطيرة، لو أنها ووجهتْ باسترخاء، أو تم التعامل معها بالتردد وعدم استخدام القوة، إذ إنّ التعامل لو لم يكن على هذا النحو لما كان هذا الوطن يتمتع الآن بهذا المستوى المتقدم من الأمن والأمان في ممارسة الناس حياتهم بشكل معتدل ومتوازن وملبّ لرغبات وتطلعات المواطنين والمقيمين.

***

ومن اطلع على السياسة الإعلامية في المملكة العربية السعودية التي أقرّ مجلس الوزراء بنودها بتاريخ 14-5-1400هـ وتاريخ 4-6-1402هـ، سيلاحظ أنّ هذه السياسة الإعلامية تعتمد على منهج الاعتدال، وتؤصّل لكلّ ما يؤدّي إليه، وأنّ وسائل الإعلام ملتزمة بما ورد فيها، ما يعني أنّ طروحاتها تتفق مع التوجّه الإعلاميّ المعتدل الذي ينأى بنفسه عن التطرّف، ويشجع على الاعتدال، ويحرص على أن يكون فاعلا ومؤثرا في تغليب المصلحة العامة وخدمة الناس على غيرها.

***

ولعلّه من المناسب، ونحن نتحدث عن ظاهرة الاعتدال في الصحافة السعودية، أن نتوقف قليلا عند بعض ما ورد في الصيغة المعتمدة رسميا من مجلس الوزراء عن السياسة الإعلامية في المملكة، بحكم أنّ الصحافة السعودية تعدّ ضمن المنظومة الإعلامية السعودية، حيث نصّ هذا النظام على مجموعة مبادئ تتوافق وتنسجم مع ما هو مشاهد ومسموع ومقروء في وسائل إعلام المملكة، وأيّ منصف سوف يتأكد له عند مراجعته للسياسة الإعلامية ومطابقتها مع واقع الصحافة السعودية وما ينشر فيها، سيجد أنّ هذه السياسة الإعلامية إنما تؤكد على الاعتدال، وعلى تجنّب ما يؤدي إلى التطرّف أو يقود إلى الإضرار بالبلاد، وهو نفس التوجّه الذي يتطابق مع ما ينشر في الصحف المحلية.

***

فقد تضمّنت السياسة الإعلامية، على أن يعمل الإعلام السعوديّ على مناهضة التيارات الهدّامة، والحضّ على احترام النظام وتنفيذه، وأن يقاوم كلّ ما من شأنه أن يفسد نقاء المجتمع وصفاءه، وأن تقوم وسائل الإعلام بتوثيق روابط الحبّ والتآزر بين أفراد الشعب، وأن تعمّق عاطفة الولاء للوطن السعوديّ أرضا وكيانا في نفوس المواطنين، مع حضّهم على البذل له بسخاء، والإسهام الجادّ في خدمته وإعماره وصونه، وتوعية المواطن بواجبه الأساسيّ في ذلك، وأن يعتمد على الموضوعية في عرض الحقائق، والبعد عن المهاترات، وأن يقدّر بعمق شرف الكلمة، ووجوب صيانتها من العبث، وعليه أن يرتفع عن كلّ ما من شأنه أن يثير الضغائن، ويوقظ الفتن والأحقاد.

***

وفي ذات المنهجية للسياسة الإعلامية في تأصيل الاعتدال، فإنّ نظام المطبوعات الصادر عن مجلس الوزراء برقم 211 وتاريخ 1-9-1421هـ والمعتمد بالمرسوم الملكيّ رقم م- 32 وتاريخ 3-9-1421هـ، قد نصّ هو الآخر في كثير من موادّه على ما يمكن اعتباره تأصيلا للاعتدال، فقد دعا وسائل الإعلام فيما تنشره إلى تجنب ما يفضي إلى بروز ظاهرة التطرّف، وفي حال الترخيص لأيّ مطبوعة فإنه يجب عليها مراعاة ألا تفضي إلى ما يخلّ بأمن البلاد، أو يخدم مصالح أجنبية تتعارض مع المصلحة الوطنية، وألا تؤدي إلى إثارة النعرات، وبث الفرقة بين المواطنين، وكذلك ألا تؤدي إلى تحبيذ الإجرام والحثّ عليه.

***

فهذه النصوص تعني فيما تعنيه الدعوة إلى ترسيخ مبادئ الاعتدال، والبعد عن أيّ تصرّف يخلّ بهذه الدعوة أو يقود إلى ظاهرة التطرّف، ومن العدل أن يحْتكم حول مدى التزام الصحافة السعودية بذلك من خلال ما ينشر فيها من وجهات نظر وأخبار وتحقيقات، وأستطيع صادقا أن أقول إنّ صحافتنا تتمسّك بقوة والتزام مسؤول بهذه المعايير بوصفها شريكا في هذه المسؤولية، ولا يعني هذا عدم ظهور بعض التجاوزات غير المخطّط لها، والتي لا تنسجم مع هذا التوجّه، إذْ إنّ الصحافة كغيرها من المؤسسات والقطاعات وحتى الأفراد، لا تخلو من الأخطاء ومن الاجتهادات غير الموفّقة من كاتب أو صحفيّ، لكنْ بالمجمل، فإنّ وسائل الإعلام السعودية عموما والصحافة تحديدا، تؤدي بمسؤولية عالية ما هو مطلوب أو يفترض أن يكون مطلوبا منها، وعلى النحو الذي يمكن أن ينظر فيه إلى الصحافة على أنها شاهدة على نفسها بما تنشره ويكتب فيها.

***

على أن منهج الاعتدال في الإعلام السعودي ليس حالة طارئة، أو لهدف ينتهي بانتهاء الغرض الذي أُنشئ من أجله، وإنما هو منهج مستمر ودائم ومتواصل، تبناه مؤسس المملكة الملك عبدالعزيز - رحمه الله- بالمرسوم الملكي الذي أصدره عام 1368هـ - 1949م بمناسبة إنشاء الإذاعة السعودية ونقله لنا الدكتور هاشم عبده هاشم في محاضرته: الإعلام السعودي دراسة في الهوية الإسلامية، وجاء فيه وبالنص: (عدم شتم أحد أو التعريض بأحد أو المدح الذي لا محل له، مضيفاً: ويلاحظ في الأخبار الداخلية الواقع، وتلاحظ عاداتنا في السكوت على ما اعتدنا السكوت عليه، ونشر ما اعتدنا نشره).

وغني عن القول أن نشير إلى أن من يتابع ما تنشره الصحف في صفحاتها من مقالات وتحقيقات وأخبار تتناغم في اعتدالها وموضوعيتها مع ما أشار إليه الملك عبدالعزيز في المرسوم الملكي المشار إليه من عدم الشتم أو التعريض بالآخرين أو المبالغة في المدح، وكلها مفردات تعبِّر عن الاعتدال الذي رسمه الملك المؤسس لوسائل إعلامنا.

***

وكامتداد تاريخي لسياسة الاعتدال في صحفنا، أريد أن أذكركم بما قاله الملك سعود في مؤتمر صحفي عقده عام 1381هـ بحضور عدد من الصحفيين السعوديين (بحسب ما رواه الدكتور هاشم عبده هاشم - في محاضرة له بعنوان: الإعلام السعودي دراسة في الهوية الإسلامية) من أن الصحافة إما أنها رسول خير أو رسول غير ذلك، بأمل أن تكون رسل خير باتجاهاتها، مطالباً إياها بأن توجه الجمهور التوجيه الحسن، وأن لا تقول غير الحق حتى تحترم في الداخل والخارج. يضيف الملك سعود -رحمه الله- بأن الصحافة حرة في دائرة العقل والحكمة، وأنه لا يمنع الصحافة من النقد، وإنما يطلب منها أن يكون نقدها للمصلحة العامة، بعيداً عن الأهواء والأغراض والتوجهات المغرضة، مشيراً إلى أن النقد النزيه من هذا النوع هو الذي ينبغي أن تمارسه الصحف باعتباره يصب في خير الوطن. ومن يقرأ الصحف المحلية بتأمل سيجد أنها، وبعد أكثر من نصف قرن على هذا المؤتمر الصحفي للملك سعود، لا زالت تتمسك بهذا النهج في تعاطيها مع الكلمة، وأنها تلتزم بهذه السياسة في ممارسة دورها المعتدل بوصفه خيارها الذي ارتضته لنفسها، ورسالتها التي لم تحد عنها، وسياستها التي ميزتها ووضعتها في دائرة الاهتمام والتأثير في قرائها.

***

فيما عبَّر الملك فيصل - رحمه الله - عن رؤيته نحو الصحافة المحلية في منهج اعتدالي واضح يتوافق مع مشهد الاعتدال في الصحافة المحلية حالياً -بحسب ما نُشر في صحيفة البلاد عام 1379هـ- بأن قال: إنني أرحب بالنقد، ولكن بشرط أن يكون بنَّاءً، وإني لا أريد أن تكون صحافتنا مجالاً لتضارب الآراء، أو المحاولة أن يبني بعضنا مجداً على حساب الآخرين، فهذا - كما يقول الفيصل - يفقدها مهماتها الأساسية التي يجب أن تتجلى بها، مضيفاً: يجب على الصحافة أن تكون موجهة للأمة والرأي العام، والتوجيه مسؤولية كبرى.

***

ولم يكن عهد الملك خالد بن عبد العزيز - رحمه الله- غائباً عن تأكيده على أهمية أن تلتزم وسائل الإعلام ومنها الصحف المحلية بالمنهج المعتدل في تعاطيها مع قرائها، بل كان حريصاً في كل لقاءاته الإعلامية أن يؤكّد على أن الوسطية والاعتدال والموضوعية يجب أن تكون منهجاً لصحافتنا ولباقي وسائل الإعلام، فهو كما قال في لقاء صحفي نشر في صحيفة السياسة الكويتية بتاريخ 30-6-1979م يرى أن المملكة لا تتبع أسلوب الحملات الإعلامية، وفي مقابل ذلك فهي تؤمن بجدية الكلمة الهادفة، وبمناقشة الآراء بموضوعية، وكل هذه الأفكار تنسجم مع روح الاعتدال وتتناغم مع مبدأ الوسطية، وبالتالي فإنها تتوافق وتتفق مع ما يُنشر في صحفنا، ما لا يمكن لمنصف أن يقيم ما يُنشر منها بغير ما قاله الملك خالد بن عبد العزيز.

***

وكان الملك فهد - رحمه الله - من جانبه حاضراً في ترسيخ أهمية مبدأ الاعتدال فيما يُنشر في صحفنا المحلية من مقالات وآراء وأخبار، فقد أشار الدكتور محمد عبده يماني - رحمه الله - إلى شيء من ذلك في كتابه (أحاديث في الإعلام: معضلات الحاضر وإرهاصات المستقبل) بما قاله الملك فهد من أن الإعلام إذا استخدم للخير فقد أفاد، وإن استخدم للشر فقد أضر. وفي نظري فإنَّ صحافتنا قد ركزت على الخير ونأت بنفسها عن الشر في كل ما يُنشر فيها، وبالتالي فقد أفادت ولم تلحق الضرر، وذلك لاعتدالها في الطرح وتمسكها بما يؤدي إلى نشر الخير، ويجنبها بما يلقي بظلاله نحو الشر.

***

ولعلكم تتذكّرون دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، حين شدّد على أنْ يتحلّى الإعلام النزيه بالحرية المسؤولة، في كلمته بالمؤتمر الدولي عن مستقبل النشر الصحفيّ الذي عقد بالرياض بتاريخ 23-24 جمادى الأولى الموافق 18-19 مايو 2009 ، وهو بزعمي ما تلتزم به الصحافة السعودية، بدليل ما قاله الملك عبدالله في كلمته نصّا في هذا المؤتمر من أنّ (الإعلام السعوديّ بشكل عامّ والصحفيّ بشكل خاصّ منذ بداياته المبكرة على يد الملك عبدالعزيز آل سعود، وهو يتميز بالمصداقية الرفيعة، والشفافية العالية، والاتزان الواعي، وفهم الاحتياجات المتنامية للوطن والمواطن، والمساهمة الكبرى في القضايا المصيرية للأمّتين العربية والإسلامية والعالم بحكمة وبعد نظر). وهذه الشهادة من رأس الدولة تظهر بجلاء ووضوح وبما لا لبْس فيه، ظاهرة الاعتدال في مضمون ما ينشر في الصحافة السعودية، تناغما مع ما قاله الملك عبدالله في خطابه أيضا من أنّ (الإعلام يمثل إحدى الوسائل البالغة التأثير في رسم معالم التعايش والتفاعل وترسيخ مفهوم الحوار مع الحضارات الإنسانية).

***

إنّ التّقنية الرقمية، والإعلام الجديد، وهذا الانفتاح الإعلامي الهائل مع ثورة الاتصالات، يحمّل الصحافة مسؤولية أكبر، ويلقي عليها أعباء كثيرة لتحافظ على التزامها المعتدل في تعاملها مع المستجدات، وفي إطار ما يخدم رسالتها في تشجيع ظاهرة الاعتدال، وتوعية جمهور المتلقين بخطورة ما يتركه التطرّف من تأثيرات بالغة السوء في المجتمع وبين الأفراد وعلى مستوى الوطن. وأعتقد أني لست بحاجة للتأكيد لكم بأنّ الصحافة السعودية تعي دورها ومسؤوليتها في ذلك، وأنّ تغيّر الوسائل والآليات في الصحافة لا ينبغي أن يغيّر من إيمان العاملين في المؤسسات الصحفية بأهمية تشجيع الاعتدال بين جموع المواطنين والمقيمين، وأن يبقى الحوار بزخمه وتعدّد وجهات نظره وتشعّب موضوعاته ضمن إطار الالتزام بمنهجية الاعتدال، وفي ذلك وليس بغيره تكون الصحافة عنصرا فاعلا ومؤثرا في حماية الوطن والمواطن من ظاهرة التطرّف، وخصوصا أنّ الصحافة ينظر إليها على أنها جهة تعبّر عن هموم الناس وضمير الشعب وأنها لسان حاله، وبالتالي فينبغي أن تقنع الناس بأنها جهة موثوقة.

***

لقد أحسنتْ جامعة الملك عبدالعزيز صنعا في تبنّيها دورا رياديا هدفه خدمة منهج الاعتدال السعوديّ حين لم تكتف بكرسيّ الأمير خالد الفيصل ومحاضرته عن تأصيل منهج الاعتدال السعودي، وإنما استقطبت مجموعة من المسؤولين والمثقفين لإظهار المزيد من الآراء ووجهات النظر حول ظاهرة الاعتدال، لإشباع هذا الموضوع المهمّ حقّه من النقاش والحوار وتبادل الآراء، ومن ثمّ لتمكين مجتمعنا من التعرّف على التفاصيل الدقيقة بحسب تجارب ورؤية كلّ من شرف بأن يكون ضيفا على جامعة المؤسس، ومتحدثا عن القيمة الحقيقية لالتزامنا أفرادا ومجتمعات بالاعتدال في كل مشارب الحياة ودروبها، وصولا إلى استمرار التعايش بين المواطنين وكأنهم أسرة واحدة.

***

فها هو وليّ العهد الأمير نايف بن عبدالعزيز الذي يقود منهج الاعتدال السعوديّ، ويتعامل بمنهج معتدل مع كلّ من أخذ بمنهج التطرّف منحى له وأسلوب حياة، لتقويض الأمن وترويع المواطنين والمقيمين، دون أن يفكر بمستقبل الوطن ومصلحة المواطنين، ها هو الأمير نايف يقول ومن منبر هذه الجامعة في مشاركته ضمن سلسلة محاضرات كرسيّ الأمير خالد الفيصل: (إنّ الاعتدال هو منهجنا الذي قامت عليه مرتكزاتنا السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية)، ويضيف سموّه أنّ المملكة تتعامل مع قضاياها في الداخل والخارج بمنهج معتدل بعيدا عن الغلو، وأنّ الإرهاب الذي أضرّ ببلادنا وفقدْنا بسببه بعضا من أبنائنا، كان تعاملنا معه بمنهج معتدل تمثّل في مناصحة معتنقي الفكر المتطرّف، ومحاولة ردّهم إلى صوابهم ونهج وطنهم المعتدل، ويؤكد الأمير نايف أنّ الاعتدال في الفكر والسلوك مطلب دينيّ نصّ عليه القرآن {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً} مثلما هو مطلب حضاريّ لتعايش الشعوب وتحالف الأمم لمصلحة البشرية ونشر السلام في ربوع العالم، مشيرا سموّه إلى أهمية تعليم أبنائنا القيم الفاضلة التي تدعو إلى التسامح والتحلّي بروح الاعتدال، داعيا الشباب إلى أن يكون الاعتدال خلقهم والوسطية فعلهم). ويمكنني القول ودون تردّد أو تحفّظ، إنّ التوجّه العامّ للصحافة السعودية ينسجم مع ما دعا إليه وتحدث عنه سموّ وليّ العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية الأمير نايف بن عبدالعزيز، بل إنّ المواطنين جميعا إذا ما استثنينا الفئة الضالة، يؤمنون بالاعتدال ويلتزمون بالوسطية، وينكرون على من يتجاوزها إلى غيرها، ممن يمارس التطرّف والغلوّ والتغريب، أو يستجيب للإملاءات الخارجية ضمن أجندة تقوم بأدوار خطيرة في خدمة أعداء الوطن والأمة.

***

ولا شكّ أن الاحتفاظ بهذه الهوية المعتدلة يعد سمة في تعامل صحافتنا مع قرائها، وأن تمسّكها بمنهج الاعتدال في تعاطيها مع القضايا واهتمام الناس، يتطلب من القائمين عليها أن يدركوا أن هناك من لا يرضيه هذا الموقف منها، وأن هؤلاء يبحثون عن ثغرات قد يجدونها للتأثير في مسار منهجها المعتدل باستخدام كلّ المبررات والأفكار كمظلة لتحقيق ما يتعارض مع هذا الهدف، ما يعني الحاجة إلى مزيد من الحرص والاهتمام للحيلولة دون تمكينهم من أن ينجحوا في كسب الجولة، وبالتالي الانتقال بالصحف إلى مربع التطرف، وتوظيفها لاحقا أداة أو وسيلة لخدمة الإرهاب.

***

بل إن المسؤولية في ذلك لا تقع على القائمين على الصحف فقط، وإنما يتحمّل المسؤولية ويشارك فيها جمهور القراء، إذ إن صناعة الصحافة بكل تعقيداتها تعتمد في جزء كبير من نجاحها على تفاعل القراء مع ما ينشر فيها، واستجابتهم لتوجهاتها المعتدلة، ومساندتهم لها في خطواتها المتزنة، وإنكار كلّ ما يخالف هذا التوجه المعتدل، والتأكيد على أن الوسطية في المواقف إنما تعتمد على الاعتدال الذي لا يجردها من الثبات على مواقفها المبدئية في الانتصار للحقّ والخير، ودعمها للقيم، ملتزمة في ذلك بخطّها الإسلامي، وهويّتها العربية، في عالم إعلاميّ يواجه الكثير من التحديات.

***

وهذه التحديات التي تواجهها الصحف المحلية تتمثّل في مدى قدرتها في عصر تدفّق المعلومات، وتعدّد قنوات الاتصال، وانتشار الإعلام الجديد، وهذا التطور الهائل في التقنية الرقمية، وتنامي ثورة الاتصالات، على الثبات في التزامها بمنهج الاعتدال، منسجمة في ذلك مع ما أعلنه وتحدث عنه سمو وليّ العهد الأمير نايف بن عبدالعزيز ضمن نشاط كرسيّ الأمير خالد الفيصل لتأصيل منهج الاعتدال السعوديّ، حين قال: (إن الاعتدال منهج إسلاميّ مصدره كتاب الله وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم) وزاد على ذلك ضمن اهتمامه بالاعتدال في التعاطي مع كلّ القضايا قائلا: (إن المملكة تتعامل مع قضاياها في الداخل والخارج بمنهج معتدل).

***

وفي ظلّ ذلك، فلا بد من الاصطفاف نحو ما يكرّس مفهوم الاعتدال في صحافتنا، مع الإبقاء على وجهات النظر المختلفة في معالجة ما يسْتجدّ من قضايا، ضمن الوسطية وأدب الحوار واحترام الرأي الآخر، واعتبار حرية الرأي بضوابطها الدينية والأخلاقية مشروعنا الدائم والثابت، لتكون الصحافة المحلية كما نريدها ذات رسالة ودور وقدوة في ترسيخ هذه القيم، وبذلك نبعدها عن أيّ دور مشبوه، على أن يكون هذا المفهوم وفْق اقتناعاتنا وإيماننا ورغبتنا في المصالحة مع أنفسنا ومع الآخرين.

***

ولا بدّ لي من الاعتراف بأن الصفحات الرياضية في صحفنا لم تنسجمْ بعد مع هذا التوجه كباقي الصفحات الأخرى في غير هذا التخصص، وأنها كثيرا ما تتجاوز مفهوم الاعتدال في بعض آرائها ومناقشاتها وتحليلاتها، فتجنح بذلك إلى إثارة القراء، وخلق نوع من الصراعات بين المنتمين للأندية الرياضية، بما لا فائدة ولا جدوى منه، وبما قد يؤثّر سلبا على المسارات الأخرى المعتدلة في الصحيفة، ومن ثمّ خلق بيئة غير صحية في مجتمعنا وبين المواطنين، وهو ما يعني أهمية أن تقوم هذه الصفحات ومن يكتب فيها بمراجعة مواقفهم لتكون مع بقية الصفحات في مركب الاعتدال الواحد.

***

ولا بدّ من القول أيضا، ونحن نتحدث عن ظاهرة الاعتدال في الصحافة السعودية، إن الصحف تدخل ضمن منظومة وسائل الإعلام السعودية، وكلّها تلتزم بالاعتدال شعارا لها، وكلّها تتقيد بالوسطية في تعاطيها الإعلاميّ مع قرائها ومشاهديها. ولا أعرف أن وسيلة منها شذّت أو نحتْ عن هذا المفهوم، إلا أن يكون اجتهادا لم يوفقْ من قام به، وحينئذ علينا أن ننظر إليه باعتبار أنه اجتهاد لم يكن في محلّه، وحالة لا تأثير منها على السياق العامّ في السياسات التي تنضوي ضمن مفهوم الاعتدال، وتلتزم به وسائل الإعلام المقروء والمسموع والمشاهد.

***

وبالتأكيد، فإن ما تتناقله المواقع الإلكترونية من تعليقات وأخبار، وإن كان مصدرها كتّابا وإعلاميين سعوديين، فإنها لا تدخل ضمن تقييم الإعلام السعوديّ وموقفه من الاعتدال، فهذه المواقع لا يوجد لها ضوابط أو قوانين بعد، وهي حاليا في مرحلة التأسيس، وللتّوّ بدأت وزارة الثقافة والإعلام تسنّ نظاما لها وتعطي تراخيص لأصحابها، ما يجعلها عند خضوعها لهذا التنظيم محكومة بأخلاقيات ومسؤوليات المهنة، مثلها في ذلك مثل الصحف الورقية، وبالتالي، فسوف يكون منهجها -كما أتوقع- الاعتدال في الطرح، وتعاطيها الإعلاميّ منسجما مع الوسطية، وهدفها بثّ الخير، ونشر الفضيلة، وخدمة الناس على النحو الذي يستجيب لتحقيق المصلحة والفائدة للوطن والمواطن.

***

على أن ثقافة الاعتدال وممارستها بمهنية عالية في وسائل الإعلام السعودية لا تمثل شيئا كبيرا إذا لم يصاحبْها تفاعل من المتلقي، وتجاوب في التأكيد عليها وتأصيلها كمشروع ملزم لمن يمتهن العمل بالصحافة، وحسبي أنني أقول ما أقوله لكم عن معرفة لصيقة بكلّ الزملاء الذين يمارسون هذا النوع من العمل، وعن معرفة أيضا بكلّ المرامي والأهداف النبيلة التي يطرحونها ضمن دائرة اهتمامهم بمفهوم الاعتدال الذي يرون ضرورة أن يسود ما ينشر في الصحف وما تكتبه الأقلام، دون أي تنازل عن مبدأ حرية الرأي وحقّ الصحفيّ والكاتب في التعبير عن رأيه ووجهة نظره طالما أنه لا يعتدي بذلك على حرية وحقوق الآخرين.

***

والصحافة السعودية - كما يعرف الجميع - ليستْ لها انتماءات فيما عدا الانتماء للوطن وللعروبة وللإسلام، وبالتالي فهي تلتزم بأخلاقيات المهنة وشرف الرسالة، ولا تجد نفسها في غير الوسطيّة والاعتدال، والتوازن في ممارسة العمل الصحفيّ، وهي تعبّر عن القضايا التي تهم الناس بلغة جميلة بعيدا عن التطرف أو الغلو، فهذه هي هويّتها وهذا هو برنامجها، وهذا ما نراه سائدا في صحافتنا منذ بدء صدورها وإلى أن تم توظيف تقنية الاتصالات في برامجها كما في وسائل الإعلام العالمية، وفي كلّ الأحوال فإنّ أحدا من الإعلاميين لا يملك الحقّ المطلق في إقناع الناس بمسْلكه المعتدل، لكنْ بمقدوره أن يقنع الناس باعتداله من خلال أسلوبه وعباراته وموضوعاته التي ينتقيها ثم يطرحها لجمهوره.

***

ومن المؤكّد أن أحدا لا يعترف بأن له موقفا غير مؤيد للاعتدال، سواء في الصحافة أو في الحياة العامة، لكنّ ثقافة الاعتدال تختلف من شخص إلى آخر، ومن مجتمع إلى غيره من المجتمعات، ومن هنا يأتي التعامل مع هذا المصطلح وتحديدا عند التطبيق شديد الحساسية، ولهذا ربما لاحظ الجميع التّباين بين الصحف المحلية في التعامل مع بعض الأحداث، لكنه لا يخرج عادة عن السياق العامّ في احترامها للاعتدال، وإيمانها بالوسطية، وحرصها على أن يكون موقفها الدينيّ والوطنيّ والعروبيّ المعتدل والوسطيّ حاضرا، والنظر إلى التطرف والعنف والإرهاب والإقصاء للآخر على أنها مجتمعة أو منفردة تشكّل ظاهرة خطيرة تهدّد السّلم الوطني، وتقوّض الأمن، وتزرع الكراهية والبغضاء بين المواطنين.

***

وإذا كان الاعتدال في الحياة العامّة له مساحة كبيرة من الأهمية، فإن الاعتدال في الصحافة حين يكون متكاملا وغير مجزوء، إنما يكرّس هذا المفهوم في ثقافة المجتمع، ويعزّز من الوسطية التي تدعو إلى الحقّ والخير، وإلى الحوار الموضوعيّ البنّاء عند أيّ جدل أو خلاف بين الناس، وهذا ما أعتقد أنه يمثل الوجه الجميل في صحافتنا، ويقودني إلى القول بأنّ خيار الصحافة أن تكون معتدلة لتكون مقبولة ومقروءة من الجميع، وأنّ أيّ خيار آخر لأيّ صحيفة سوف يقْصيها من المنافسة مع الصحف ذات التوجّه المعتدل.

***

وإذا كان ينظر إلى الصحافة - انطلاقا من أهميتها وتأثيرها بالجماهير - على أنّها السلطة الرابعة بعد السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، فإن هذا المفهوم يلقي بظلال من المسؤولية على القائمين عليها، وهو ما يعني أن تكون على قدر المسؤولية في ممارستها لدورها بوصفها أداة يفْترض فيها أنها معتدلة في نقل المعرفة، والتعامل مع قضايا وهموم الناس بموضوعية ونزاهة ومصداقية في ما تنشره من تقارير وأخبار وتحقيقات ومقالات رأي، متجهة في كلّ ذلك ضمن السعي في نشر الخير والمحبة والحقّ وصولا إلى تكريس ثقافة الاعتدال.

***

وفي هذا السياق، فإنّ الصحافة السعودية بالتقييم المنصف العادل، لا يمكن أن يقال عنها إلا أنها تسير في هذا الاتجاه المعتدل، وأن قياس قدرتها في التزام هذا الخطّ، هو ما يلاحظ من نأيها بما تنشره عن كثير من المنزلقات التي تبدو سمة في ما ينشر في كثير من الصحف العربية والأجنبية، على أن حال الصحف المحلية لا يخلو -كما أشرنا من قبْل- من خطأ هنا وآخر هناك، فالأخطاء واردة، لكنها لا تأتي عن عمد أو عن سياسة ممنهجة، وسريعا ما تعالج مثل هذه الأخطاء بالأسلوب الذي ينسجم مع مفهوم الاعتدال.

***

ولذلك فقد نأت الصحافة السعودية بنفسها عن أيّ انتماءات طائفية أو مذهبية أو قبلية أو مناطقية، واختارت لنفسها النظر إلى الوطن بمناطقه ومدنه وقراه على أنه وطن الجميع، وتعاملتْ مع كلّ شرائح المجتمع دون تمييز، ووقفتْ على مسافة واحدة من كلّ أجزاء الوطن ومن كلّ فئات المواطنين، ملتزمة مبدأ الاعتدال في مخاطباتها وآرائها, والوسطية في التعامل مع الأشياء، مع الاحتفاظ لنفسها بالموقف الذي يكرّس هذا الاتجاه المعتدل، ويعمّم ثقافته بين قرائها، وهو خيار اختطته صحافتنا لنفسها وسارت عليه منذ عهد الملك المؤسس وإلى اليوم.

***

واعتدال الصحافة السعودية في آرائها ومواقفها ساعدها على بلوغ هذا المستوى من النجاح، ومكّنها من استقطاب أعداد كبيرة من القراء، وعزّز من قدراتها وإمكاناتها، وبالتالي استمرار تفوّقها في ظلّ تقلبات سلبية عانى منها إلى اليوم كثير من الصحف العربية بل والعالمية، ولعل ذلك يعود إلى كون الصحافة المحلية صحافة مستقلة ولا تلتزم بأيديولوجية معينة، وأن شعارها هو الاعتدال القائم على الخير والحقّ، والسلوك البعيد عن الغلوّ والتطرف وإثارة الفتن، وكلّ ما يتناقض مع مبدأ الوسطية.

***

وحسبي أن أشير هنا إلى أنه لم تثبت حالة واحدة على كاتب أو صحفيّ أو صحيفة استخدم قلمه أو صحيفته فيما يمكن أن يشار إليه على أنه موقف معاد للاعتدال، أو عدم القبول بالوسطية على امتداد تاريخ الصحافة في المملكة، وأقول عن تجربة شخصية طويلة في هذا الميدان إنّ الصحافة السعودية بكتّابها وصحفيّيها وسياساتها لو لم تأخذْ بهذا الخيار لما كان لها كلّ هذا التأثير القويّ والمتابعة المستمرة والدور الرائد في سلسلة المتغيّرات الإيجابية التي شهدتْها المملكة في مختلف المجالات.

***

ويحسب للصحافة السعودية أنها لا تنتمي لحزب، ولا تقودها أجهزة تحمل أجندة لا تنسجم مع رسالتها الوسطية، فهي مؤسسات إعلامية أهلية يملكها ويدير شؤونها مواطنون ينتسبون إلى أطياف ثقافية مختلفة، ويؤمنون بالوسطية كشعار وحيد لممارسة دورها في تبنّي كلّ ما يقود إلى الخير ويتناغم مع رسالتها، بوصفها منبرا يعبّر أصدق تعبير عن سلامة الهدف ونبل المقْصد والالتزام بالقيم النبيلة في توجهاتها وأطروحاتها.

***

وهي بذلك تكون في منأى من أن توظّف لغير ما صدرتْ من أجله، أو أن تبتزّ فتخرج بذلك عن أهدافها المرسومة، فضلا عن أن مجتمعنا المسلم لن يتسامح ولن يغفر لها فيما لو خرجتْ عن سياقها المألوف في نشر الخير وتعميم ما يؤدي إليه، وهذا لا يعني أن يتفق الجميع على كل رأي يكتبه الكتّاب فيها، فالاختلاف في وجهات النظر طبيعة بشرية ليس فيما تنشره الصحف ويكتبه الكتّاب فيها فحسب، وإنما في كلّ شؤون الحياة، وهكذا فمن الطبيعيّ أن نقرأ في صحفنا آراء متباينة ووجهات نظر مختلفة قد تكون في قضية واحدة وموقف واحد، ودون أن تخْرج الصحيفة عن اعتدالها في الطرح، ووسطيتها في التعامل مع ما قد يسْتجدّ من أحداث وحوادث.

***

والوسطية التي ننادي بها ونتمسك بأهدافها الجميلة لا تعني أن تكون وسائلنا الإعلامية بلا موقف، فنكون عندئذ كمن يشجع ويتبنى ما يخالف أهدافها، إذ كلما ظهر للصحيفة أو الكاتب ما يسيء إلى مفهومها أو يتناقض مع أهدافها، فمن الطبيعي أن ينحاز الكاتب إلى ما ينسجم مع مفهوم الوسطية، بما في ذلك أن يكون موقف الصحيفة واضحا وصريحا في تبني الموقف الذي يتناغم مع توجّهها المعتدل والهادف، الساعي نحو الخير وبما يحقق المصلحة العامة لكلّ شرائح المجتمع.

***

وإن أيّ خروج عن ذلك هو مساس بالاعتدال الذي ينبغي أن يكون صفة وعلامة فارقة في العلاقة بين الصحيفة وقرائها، وأن يسود توصيفها بالاعتدال ما تنشره الصحف لكتّابها من وجهات نظر يعبّرون من خلالها عن آرائهم، حتى لا نكون كمن يفْرغ الصحف من مضمون رسالتها، أو كمن يدْفع بكثير من القراء إلى النأي عن قراءتها، ما يعني فشلها في المنافسة مع غيرها من الصحف.

***

قد يكون هناك من يرى في ظاهرة انتشار صحف الإثارة، وسعة مقروئيّتها رغم عدم وسطيّتها وعدم اعتدالها في مواقفها، مؤشرا على أن الاعتدال لا يقود إلى النجاح، غير أن هذا الرأي وإن كان من جانب له وجاهته، إلا أنه من جانب آخر لا يحمل بالضرورة احترام العقلاء من القراء لهذا النوع من الصحف، ولا يضمن لها ثقة القراء بمصداقيتها فيما تنشره من أخبار وتعليقات، وإن احتفظتْ لنفسها بعدد غير قليل من القراء بحكم حبّ الفضول لدى قرائها في التعرّف على ما هو خارج قيود والتزامات النشر في صحف الاعتدال.

***

وإذا كان الاعتدال كظاهرة توصف بها صحافتنا لإحجامها عن نشر كلّ ما يسيء إلى المجتمع، أو يشجّع على الإرهاب والتطرف والغلوّ في كل مناحي الحياة، وفي اهتمامها بنشر الحقّ والخير والدفاع عن قضايا الأمة، وحرصها على الالتزام بوسطيّتها في الحوارات والمناقشات والآراء التي تتبناها، فمن الطبيعي أن تكون ثقافة الاعتدال سائدة أيضا بين قرائها، باعتبارهم جزءا من المنظومة الضامنة لنجاح الصحيفة أو فشلها، ومثلما ذكر رفيق خوري رئيس تحرير جريدة الأنوار اللبنانية في ورقة له في أحد المؤتمرات (من أن الإعلام يوصف بأنه أول مسوّدة للتاريخ، ومن أن المسوّدات تخضع للتصحيح، وهذا ما يدفعنا إلى القول بضرورة أن لا يخجل الإعلام أو الصحف من التصحيح). أي أننا أمام اجتهادات صحفية قد تحتاج أحيانا إلى التصحيح والتعديل لبلوغ المستوى المطلوب من الاعتدال الذي تلتزم به وتتبناه صحفنا دون ادعاء.

***

وبالمفهوم العامّ فإن ظاهرة الاعتدال، يفترض أن تقابلها في الاتجاه الآخر ظاهرة التطرف. والعقلاء من الناس من يفضّلون أن يكونوا مع الاعتدال ويتمسكون به لاقتناعهم بفضائله وإيجابياته، مفضلين ذلك على أسلوب التطرف الذي يلجأ إليه آخرون لتحقيق أهدافهم، غير أن الناس ليسوا سواسية في المفاهيم والاقتناعات والثقافات، فهناك من يقوده تفكيره إلى ممارسة الاعتدال في كلّ مناحي حياته، بينما غيره قد يختار الطريق الأسوأ بممارسة التطرف في كلّ مناحي الحياة. ولحسن الحظّ فإنّ وسائلنا الإعلامية وبينها الصحف المحلية يتم تصنيفها من المنصفين في خانة الممارسات المعتدلة في طروحاتها وآرائها، ما حبب القراء بها فتأثروا بما ينْشر فيها.

***

غير أن ذلك على أهميته لا يلغي أهمية أن نتفق على ضرورة وأهمية أن نحدد مفهومنا للاعتدال والتعرف عليه بعيدا عن التعريفات التي تحفل بها قواميس اللغة، انطلاقا من أن ما أراه معتدلا قد يراه غيري متطرفا، لأننا عندئذ سوف نرى في احتواء كلّ التيارات والمذاهب داخل الصحافة وعدم الحجر على أيّ منها هو الاعتدال الحقيقيّ، طالما أنها تعبّر عن منظومة سقفها الأعلى وحدة الوطن وأمنه واستقراره وسلامته، ملتزمين في ذلك بالثوابت الدينية والاجتماعية، واحترام الرأي والرأي الآخر في جوّ يسوده الإخاء والحبّ والمساواة في الحقوق والواجبات.

***

وإذا سلمنا بذلك، فلا بد أن يصاحبه أيضا ضمان الرأي ونقيضه في النشر، بحيث لا تبدو الصحيفة منحازة أو متعاطفة مع هذا التيار ضدّ الآخر، خصوصا وأن نظام المطبوعات كفل للجميع حقّ التقاضي أمام وزارة الثقافة والإعلام وعبر لجانها المختصة، وفي هذا صورة من صور الاعتدال الذي يلزم صحافتنا بأن تتقيد به وتحترمه، ما جعل روح الاعتدال لا الاستعداء هي السائدة، وهذا هو المنهج الوسطيّ الذي ينبغي أن تلتزم به صحافتنا.

***

صحيح أن هذا يتطلب ذكر الحقائق الكاملة وبشفافية واعية منعا لانتشار المعلومات غير الموثّقة، يقابله أهمية أن تتفهم الأجهزة الرسمية والأهلية لهذا التوجّه دون حساسية منها، ولكنْ ربما واجه الصحفيّ عدم التجاوب أو التعاون أو التفهّم لهذا المطلب عند اتصاله بأيّ من هذه الجهات، ما يعني أهمية أن تتعاون هذه الأجهزة، وتساعد في تثبيت مبدأ الاعتدال من خلال توفير المعلومات الصحيحة حين طلبها، وفي هذا مزيد من الثقة بين الصحيفة والجهة المعنية من جهة ومع القراء من جهة أخرى.

***

وفي جانب آخر، ربما تطلب من الصحف كي تكون في دائرة الاعتدال في منهجها أن تكون حاضرة في مواقع التواصل الإلكترونية بوجود صفحات خاصة بها في مواقع التواصل الاجتماعيّ (الفيسبوك، وتويتر) حتى تكون الخطوط مفتوحة مع القراء في عالم الإعلام الجديد، وبالتالي، يسهل عليها تلقي ملاحظاتهم ووجهات نظرهم تعزيزا لمنهج الاعتدال، فمثل هذه الخطوة سوف يساعد كثيرا في استقطاب أسماء جديدة من القرّاء ومن الكتّاب الشباب على حدّ سواء، بما يساعد على التعريف الحقيقيّ لظاهرة الاعتدال وعلى تكريسه كمفهوم في صحافتنا.

***

وكما هو معلوم ومعروف، فإن المسلمين يمثّلون أمة وسطا، وهو التزام ومنهج وأسلوب حياة مستوحى من تعاليم الإسلام ومن الثقافة الإسلامية، وإذا ما التزم الصحفيّ المسلم بالاعتدال وكان وسطيا كما ينادي بذلك ديننا الخالد، أمكننا القول إن من يعمل بالصحافة إنما يمارسها باعتدال وبوسطية، وحينئذ فلا غلو ولا تنطّع ولا اعتداء على حريات الآخرين، ومن غير إساءة إلى القيم والمثل، بل انتصارا للحقّ ودفاعا عن المظلوم، بما في ذلك عدم توظيف الصحافة للمصالح الشخصية التي تسلب حقوق الناس وتسيء إلى المصالح الوطنية، وتؤجّج الخلافات والصراعات بين أبناء البلد الواحد، وتعوّد في النهاية قراءها على التطرف والإرهاب كلما ابتعدنا بصحافتنا عن الاعتدال.

***

ومنْ يقرأ الصحف المحلية سيلاحظ أن كثيرا من التوصيف والتعريف بمفهوم الاعتدال أو الوسطية بحسب ما ورد في قواميس اللغة يتوافق مع ما ينشر في الصحافة المحلية؛ حيث إنها تدعو إلى العدل، وتدافع عن الحقّ، وتكتب عن الأخلاق بما ينسجم مع قيمنا، وهي من الجانب الآخر تتجنب الانزلاق فيما يتعارض مع ثوابتنا، أو يمسّ أخلاقنا، أو يشوّه سمعتنا، ضمن سياسة عامة تعتمد على المبادئ الأخلاقية التي حضّ عليها الإسلام، مثلما أنها تعتمد على الأعراف والشمائل التي تأخذ بهذا التوجّه وتلتزم به وتدافع عنه.

***

ربما أخذ عليّ بعض الحضور إلصاقي صفة الاعتدال بالصحافة السعودية، بحكم أني أحد القيادات الصحفية التي تعمل في إحدى أكبر الصحف المحلية، بينما أن من هم خارج العمل في المؤسسات الصحفية من المراقبين هم من يجب أن يقيّموا التجربة الصحفية في المملكة، ويحدّدوا المسافة التي تقرّبها أو تبْعدها من مفهوم الاعتدال فيما ينشر فيها، وهذه وجهة نظر سليمة ورأي لا غبار عليه، غير أن منطلقي في التأكيد على اعتدال الصحف السعودية يأتي من أن الصحف وما ينشر فيها في متناول الجميع، بمعنى أنني لا أسمح لنفسي بأن أقول أو أتحدث بما يخالف واقعها. ووجهة نظري فيها تحكمها نظرة أزعم أنها موضوعية، وأنها تنطلق من قراءة الناقد لا قراءة المسؤول الذي يتعامل مع النصّ بأجندة خاصة به، وبالتالي فإن التقييم لا يكون حصْرا بمن لا يعمل في الصحف.

***

نعم قد يكون من بين الحضور من هو أحقّ مني بالحديث عن ظاهرة الاعتدال في صحافتنا، كوني ممن يعملون في الصحافة وشهادتي قد تبدو في نظر البعض مجروحة مهما كان رأيي موضوعيا وصادقا، فالمراقب إذا ما نظر إلى الصحافة بموضوعية وحيادية، وكان متابعا لما ينشر فيها، فإنه عندئذ قد يكون في وضع يسمح له بأن يتحدث عنها برؤية مناسبة للتعرف على جوانب أخرى عن هذا المنهج الاعتداليّ الذي نتحدث عنه، وفي كلّ الأحوال، لا أعتقد أن المسافة ستكون بعيدة بين ما أطرحه وما يقوله غيري، كوننا جميعا نتفق على الثوابت ونلتزم بها، وبينها رفض العنف والجور والتطرف والإرهاب، وأننا في المقابل مع الحقّ والعدل، وأن الاختلاف في وجهات النظر جائز ووارد ضمن هذا الإطار.

***

أحاول هنا أن أقرّبكم أكثر إلى المساحة الكبيرة من الاعتدال الذي أرى أنه يسود النشر في الصحف السعودية، وإلى دعوتكم بأن تتفحصوا صفحاتها الكثْر وصولا إلى تحديد سقف الاعتدال الذي تتمتع به هذه الصحف، مع التأكيد على أن من له رأي مخالف ينبغي ألاّ يبني قياسه لسقف الاعتدال على حالات قليلة وشواهد محدودة، فهذه لا يقاس عليها ولا يعتدّ بها، وإن بقيتْ ضمن عناصر التقصي عن حالة الاعتدال في صحافتنا المحلية.

***

هناك ملفات كثيرة تتحدث عن ضوابط الاعتدال وتحجيم التطرف، وهناك جهد يبْذل لكي لا تجْهض المساعي التي تبحث عن عناصر الخير لتتبنّاها صحافتنا، وأزعم أن التحديات في هذا المسار لم تكن هينة أمام من يعمل في صحافتنا، غير أن اعتدال صحافتنا في تبني وجهات النظر المختلفة، واستجابة القراء بالتأييد لهذا التوجّه مكّن كلّ صحيفة من صحفنا وبدرجات متفاوتة من أن تكسب ثقة قرائها وتعبّر عن همومهم برؤية صادقة، ودون إخلال بالضوابط المتعارف عليها دينيا واجتماعيا، منفتحة في ذلك أمام قرائها بإعطائهم حقّ الحوار والنقاش وإبداء الرأي باعتدال ووسطية.

***

وأختم مشاركتي عن مظاهر الاعتدال في الصحافة السعودية بالقول: إن على المجتمع - ضمن مسؤولياته - أن يشجّع ظاهرة الاعتدال في صحافتنا، ويكرّس هذا المفهوم بالتأييد والتفاعل مع ما ينشر فيها، ويحثّها على الابتعاد عن الغلوّ والتطرف دينيا وفكريا وقوميا، وبأن يتم تعاملها مع الآخر والنظر إليه باعتدال ودون إقصاء، وصولا إلى حوار لا يلغي حقّ الآخرين في إبداء آرائهم، بتفهّم لمواقفهم دون غلوّ أو تزمّت أو تأثير سلبيّ في حياة المجتمع، باعتبار أن ذلك ينسجم مع الاعتدال ويتناغم مع الوسطية.

 

رجوع

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة