ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Sunday 08/04/2012/2012 Issue 14437

 14437 الأحد 16 جمادى الأول 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

محليــات

      

من ألطف الكتب التي قرأتها كتاب اسمه «مبدأ بيتر» وهو كتاب نُشر عام 1968م لخبير التعليم الأمريكي لورنس بيتر والذي خصص جزءًا سخياً من تفكيره لتطوير هذا المبدأ الذي بدأ يلاحظه كلما تعمق في الأهرام الوظيفية، بمعنى أي طاقم عمل يتكون من طبقات كثيرة متتابعة من الناس، بدءًا بالمدير العام أو مجلس الإدارة ونهاية بأصغر موظف، سواءً كان هذا المكان دائرة حكومية أو شركة، ولما زاد تعامله مع هذه السلالم الوظيفية صار يلاحظ شيئاً متكرراً وسماه في النهاية «مبدأ بيتر»، وتعريف هذه الظاهرة أن الإنسان في الهرم الوظيفي يعمل بكفاءة ثم يترقى ويظل في الترقي إلى أن يصل لمرحلة من الكفاءة الضعيفة تمنعه من الترقي، وهي التي يبقى عليها بقية عمره. هذا مبدأ بيتر باختصار. من يصل لمرحلة الكفاءة الضعيفة لا يبدو عليه ذلك، بل العكس، إنه يعمل بنشاط وفي الظاهر لا فرق بينه وبين غيره، لكن الفرق يأتي من مقارنة الإنتاجية، فغير الكفء لا يُنتج أهدافاً فِعلية ملموسة كما يوحي ظاهر عمله، والوصول لمنزلة الكفاءة الضعيفة ليس فورياً، بل قد يأخذ أشهرا أو حتى سنين. مثلاً، موظف يُرقّى إلى مشرف مسؤول عن عدة موظفين، يكون كفؤاً في البداية ثم بعد سنتين يصل لمرحلة الكفاءة الضعيفة. يجب التنبيه إلى أن «الكفاءة الضعيفة» هي مرحلة أعلى من مرحلة الفشل، فالفشل يسبب الفصل أو التقييمات السيئة بينما غير الكفء أفضل عملاً من الفاشل والمهمل: إنه يعمل بجد ولكن لا كفاءة أو إمكانيات لديه تؤهله لإنتاج أعمال ذات جودة عالية، فمثلاً إمكانياته كموظف عالية، وكمشرف جيدة، ولكن يترقى أعلى من هذا ولا ترقى كفاءته وإمكانيته للمرحلة الجديدة.

ويقيِّم الكاتب المديرين، فيكتب أن كفاءة الموظف لا يحددها الزميل ولا الرئيس التنفيذي إلخ، وإنما المدير المباشر، وهنا ينقسم المديرون إلى واحد من اثنين: إذا كان المدير غيركفء فإنه يقيّم على الإجراءات، فتكون أهم المعايير لديه هي أشياء مثل الالتزام بالقواعد واللوائح، حسن التعامل مع المديرين، الانضباط في الحضور، العمل الورقي، الترتيب، وهكذا. هنا تَكثر عبارات مثل «فلان حسن التعامل مع الآخرين» و»فلانة منضبطة في الحضور» إلى آخرها، وهذه من أبرز علامات المدير غير الكفء حسب كلام بيتر: إنه يهتم بالإجراءات أكثر مما يهتم بالعمل نفسه، والذين يلتزمون بهذه المعايير هم أصحاب الترقيات في الأماكن عديمة الكفاءة، حيث الانضباط الصارم والالتزام بالقوانين هو ما يهم وليس العمل نفسه. مثلاً، إذا كنتَ تعمل في مكان يؤخر المراجعين ويعطلهم لأيام وأسابيع فقط من أجل الالتزام بقشور وشكليات رسمية فهذه من أمارات مكان غير كفء، وإذا حُسِب هذا الالتزام لصالحك ولم يؤثر الإضرار بمصالح الناس على تقييمك فهذه علامة بارزة إلى أن هذا مكان مُجرَّد من الكفاءة. أما المدير الكفء فمعاييره تعتمد على الإنتاجية حسب كلام الكاتب، فالموظف الكفء بالنسبة له هو الموظف الذي يحقق أهدافاً مرسومة، وينتج بكفاءة، وينجز أعمالاً ملموسة.

فحَصَ الكاتب تقارير طبية لبعض الموظفين والمديرين الناجحين فوجد أن من أكثر الأعراض شيوعاً: القرحة المَعِدية، ارتفاع ضغط الدم، الإفراط في الأكل، الأرق، الإرهاق المزمن، الصداع، وغيرها. يظن الكاتب أن هذه تَنتج من مرحلة الكفاءة الضعيفة، وأن الطب فشل في معرفة السبب الحقيقي لهذه الأعراض طالما لم يكن لها سبب عضوي واضح، ويقول: إن هذا يخلق دورة، فالشخص إذا وصل لمرحلة الكفاءة الضعيفة فإن الأعراض تظهر وتعيق عمله، فيأسف قائلاً «لو شُفيتُ من هذا الإرهاق\الأرق\إلخ لأنجزت الكثير!»، والأدوية لن تشفي وإنما تحسّن الأعراض لا أكثر، والأسوأ منها نصائح الناس الذين يوصون هؤلاء غير الأكفاء قائلين «حاول أن ترتاح» أو «لا تَشُقَّ على نفسك»، ويقول بيتر: إن هذه تأتي بنتيجة معاكسة، لأن سبب إصابتهم بهذه الأعراض أصلاً هو أنهم لا يعملون بشكلٍ كفؤ. كلمات هذا الكتاب فتحت عينيّ على هذه الحقيقة وأدركت أني رأيت مثل ذلك كثيراًً، ولكن لم أر من يوحِّد هذه الظواهر في نظرية واحدة مثل هذه، وهي ليست نظرية علمية طبعاً ولكن مع ذلك لا تخلو من كثير من الصحة.

أخيراً، هل من حل؟ يكتب بيتر قائلاً: إن من يصل لهذه المرحلة فلا دواء لدائه إلا شيء واحد: ترقية. لكنه وصل أصلاً لأقصى مرحلة تستطيع كفاءته أن توصله لها، فلا مفر. والأفضل هو ما يصفه الطب النفسي لهؤلاء المرضى بأن ينشغلوا بهواية يعشقونها (جمع الطوابع، الطبخ، إلخ)، فإذا ما انشغل بها المرء وبدأ يتقنها صار يصل لمراحل من الكفاءة تُحسِّن من حاله قليلاً حتى لو كانت في مجال آخر لا علاقة له بالعمل، وهذه أرى حكمتها وأعتقد أنه ينطبق عليها المثل العربي أن النفس إن لم تُشغِلها بالحق شَغَلَتك بالباطل، أو على الأقل شَغَلَتك بالأعراض المَرَضية لمرحلة عدم الكفاءة!

 

الحديقة
هل عدم الكفاءة لا مفر منه؟
إبراهيم عبد الله العمار

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة