ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Friday 11/05/2012/2012 Issue 14470

 14470 الجمعة 20 جمادى الآخرة 1433 العدد

  
   

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

قصيدةُ الدكتور موسيقية بلا ريب وَفْق ما أسلفته عن وحدة اللحن المؤقَّت، والنقلات الذكية، ولكنَّ المُغْثي المؤذي أوَّلاً الافتراءُ على السيميائية بهذا التعليل الساذَج عند الدكتورة حورية؛ فالمعزوفة موسيقية عندها؛ لأن فيها تعليلات تنتمي إلى عالم الموسيقَى كالعزف والوتر والنشيد؟.. اللهم لك الحمد!!.. إذن كلُّ مَنْ رصَّ مفردات تتعلق بالغناء يكون نظمه موسيقياً، ويكون نثره شعرياً؟!.. إن الموسيقى يا دكتورة شيئ غير هذه المفردات.. إنها ما استقرأه علماء الإعجاز. وعلم البديع، وما ظهر سماعاً بين الأنغام خلال الألحان بِقُوى في المفردة. أو بعبقرية من المنشد، فقفلة (أطلق يَديّْ) بالياء المشدَّدة الساكنة الثانية التي هي قفلة اللحن لم تكن موسيقية في أطلال ناجي حتى أطلقت (الست) عِقالها بالمد هكذا (يَدَيّا) مع شَجنٍ صوتي ظلَّلَتْ به اللحن.. ومُفْردتا (سوا) و(بهاه) في (هَلَّت ليالي القمر) لم تكونا موسيقيتين حتى حوَّلت (الست) الأولى إلى (سَوَه). وتلاعبتْ بالمدِّ الأُفقي المتمايل يميناً وشمالاً في (بهاه)، مع تحسُّر وشجن أضفته الست على الصوت. وما ألذَّ (الأَمَر) في لهجة القوم!!.. وههنا ما كانت موسيقاه قُوَىً في مفردات السياق مع قدرة المنشد مثل قول أبوفراس [الرفع على الحكاية] الحمداني:

إذا الليلُ أضواني بسطتُ يد الهَوَى

وأذللتُ دمعاً من خلائقه الكِبْرُ

تكادُ تضيئُ النارُ بين جوانحي

إذا هي أذْكتها الصبابةُ والفكرُ

فالقُوى في الأشطر الثلاثة آتٍ من الإيحاء بالصورة بصيغة المُقاربة (تكاد)؛ للبراءة من ادِّعاء المُحالِ.. وآتٍ من المجاز كإذلال الدمع. ومن استعارة الكِبْر خُلُقاً للدمع دون أدنى عيب يُكدِّر صفو ذلك كما كدَّروا [وَحُقَّ لهم ذلك] على أبي تمام قوله: (بُحَّ صوت المال!!).. وآتٍ بالتناسق والتناسب بين معاني المفردات دون تكلُّف في التأويل. وبلا تقعُّر لغوي.. ثم جاء الإعجاز الموسيقي من قُوى المنشد من التصوير الصوتي الذي يرسم لك المشهد من إلقاء (الست) الشطر الثالث.. وآتٍ التصوير لحسرة الأسد الجريح بتهدُّجٍ ذي شجن يُبْكي في (أضواني) و(بسطت يد الهوى) و(الكِبْر)؛ فبكتْ وأبكتْ.. وأبلغ من ذلك هـذه الصورة المُجَنِّحة في قول أحمد شوقي:

تسَرَّب في الدموع فقلتُ وَلَّى

وَصَفَّق في القلوب فقلت ثابا

وقد استعار استعارةً مليحةَ الدمعَ للقلب.

قال أبوعبدالرحمن: كنتُ أيَّامَ المَيْعَةِ الفنية أسمع (الست) تتهدج بهذا البيت فأرى بعينيَّ دون حاجزٍ انهمار الدمع كالمطر. وأرى بعينيَّ وأسمع بأُذنَيَّ بلا أدنى حاجز أجيج الحريق يشتعل بين الحنايا. فيا ألله عفواً عن تلك الصَّبوات؛ وما عهدتُ أن الرسم يُسْمَع ويشاهَد متحرِّكاً!!.. ولا فراغ لي لتحليلٍ أكثر من هذا. ولكنني أُذكِّر الناسي ببعض تلك القُوى الموسيقية في مثل هذه المقاطع:

أين مِن عينيْ حبيبٌ ساحِرٌ

فيه عزٌّ وجلالٌ وحياء ْ

واثقُ الخُطْوةِ يمشي ملكاً

ظالمُ الحسن شهيُّ الكبرياء

عَبِقُ السحر كأنفاس الرِّبى

ساهم الطرف كأحلام المساء

الله أكبر ما أجمل (ظالم الحسن)، و(شهي الكبرياء). وطرف ساهم كأحلام المساء؛ فهذه صور من قوى الكلمات نفسها. ثم زاد الألق بصوت الست!!.. وهذا نموذج من صور الكلمة والأداء معاً لأحمد شفيق كامل:

هاتْ عينيكْ تِسْرَحْ في دُنْيتهم عِنَيّا

هاتْ ايْديك ترتاحْ للمستْهمْ يْدِيّا

وهكذا (هذه ليلتي) كلها بلا استثناء لجورج جرداق ولا سيما الأشطر الثلاثة من: (يا حبيبي طاب الهوى ما علينا). والأبيات الأربعة منذ (هلَّ في ليلتي خيال الندامَى).. والأشطر الثلاثة الأولى منذ (وغداً تأتلق الجنة أنهاراً وظلاً) في قصيدة (أَغَداً ألقاك) للهادي آدم.. مع بثورٍ قبيحة في بعض المعاني بمنطق الدين؛ فهذه يا دكتورة حورية نماذج للقصيدة الموسيقية المجنِّحة ليس فيها مفردةٌ واحدة من معاجم الطبول كما ذكرتِ عن العزف والوتر.

قال أبوعبدالرحمن: أُقَدِّس كلامَ ربي عن وَصْفِ آيِهِ بالظواهر الموسيقية كما يفعل سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسيره. وفي كتابه مشاهد القيامة. وفي كتابه التصوير الفني في القرآن الكريم.. ولكن منه ما هو صحيح بصفة التَّغني لا الغناء بالألحان، وهذا مضبوط بقوانين التجويد والترتيل السماعية، وبما في لغة العرب من النَّبْر وكيفية النطق بما يوضع له في غير المصحف لعلامات التأثير كالتعجب والاستفهام الإنكاري.. ومثل ذلك الجماليات التي استقرأتْها كتبُ الإعجاز، والمفرداتُ الموحية كالدلالة على البطء والثِّقِل في مثل (زُحْزِح). وحلاوة المفردة الغريبة في موضعها مثل (ضيزى). وفيها الالئتام مع الفواصل في سورة النجم.. إلى آخر القيم الجمالية المستقرأة من جرسالكلمة وانسجامها في السياق. ودقَّة الوصف فيما يضربه الله للناس من الأمثال. وهو الذي يسميه الأدباء التصوير الفني.

قال أبوعبدالرحمن: وأما جدول إحصاء السِّينات واللامات في القصيدة؛ فذلك عَبث ولغو قد يُحدث الشماتة لا العَجَب؛ لأنه لا علاقة بتعدد بعض الحروف في نصٍّ واحد. فذلك يأتي تلقائياً من غير قصد بلاغي أو دلالي.. ثم بعد ذلك أيُّ عجب في كثرة اللامات والقصيدة لامية؟!.. ولكنْ يُلاحظ في بعض المفردات دلالةُ أحرِفها إذا قُصِد بها حكاية صوت أو الإيحاء بمعنى كدلالة السين والصاد على الصفير، والزاي والحاء على الثقل والرفع، والنون والفاء على النفاذ والخروج مما يسمى بالجذر الثنائي؛ وإنما يضبط الحروفَ فصاحةً كراهيةُ تقارب المخارج أو تباعدها. وقد اسُتهْلِك التمثيل بهذا البيت عن التنافر:

وقبرُ حربٍ بمكان قَفْرٍ

وليس قُرَبَ قبرِ حربٍ قبرُ

ثم وُجد في عصور الانحطاط تكلٌّفٌ بديعي ليس له قيمة جمالية إلا المُعاياة والتمظهر بالقدرة على نحو القصائد التي تكلَّفوها بأن تكون كل أحرفها مهملة. أو أن تكون كلها معجمة. أو أن يكون بيت معجم أو مهمل؛ فعلى هذا النَّسق نظموا قصائد باهتة مُتكلَّفة يتكرر في كل بيت منها حرف أو حرفان. وقد جاراهم شعراء العامية بنماذج قليلة. وفي ذهني قصيدة عامية لابن أحمد يتكرر في كل بيت منها وكل مفردة حرف الحاء المهملة. وتعرف بقصيدة (الحَوْحاة)، وهي على اللحن الشيباني.. ولي عودة إن شاء الله لالتقاط القيم الجمالية والفكرية في قصيدة (العزف على جدائل الليل).

الحكم البيكونية:

قال أبو عبدالرحمن: تيسَّرتْ لي بحمد الله ترجمة ما يتعلق بالأرغانون لفرانسيس بيكون المطبوع باللغة الفرنسية بعنوان: (الوسيلة الجديدة لاكتساب المعرفة) بتحرير ليزا حاردن وما يكل سيلفرتورن.. ترْجمه لي على حسابي الأستاذ الدكتور منذر محمود محمد بمسعى كريم من الدكتور محمد خير البقاعي الذي علم حرصي على ترجمة الكتاب وطبعه، ونشطتُ على تصحيح مادته وتحقيقها والتحشية عليها، ثم حالت دون متابعة العزيمة ظروف ومشاغل، وهكذا كان صنيعي مع كتاب (ليس في الإمكان أبدع مما كان) للعلامة البقاعي الذي حققه ابني عبدالرحمن؛ فأراد مشاركتي له في التحشية مع التقديم له.. ثم وجدت خير وسيلة لإنجاز الكتابين أن أشتغل فيهما على مهل، وأن أُشير في الابتسامات إلى ما خفَّ محملُه ولم يكن عسير الفهم كالحِكَم البيكونية.. وسرُّ اهتمامي بالأرغانون أنني منذ أكثر من ثلاثين عاماً وأنا معنيٌّ بنقض الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى لمنطق أرسطو، مع قيامي منهجياً بفصل منطق أرسطو (ضلال المنطق) عن (نظرية المعرفة).. وكنت أسمع بكتاب الأرغانون الجديد لبيكون، وقرأت بعض الدراسات عنه، ولكنني لا أجيد لغةً أجنبية، وفي هذا العام وفقني الله إلى اقتنائه، ولخَّص لي أستاذي الدكتور محمد خير البقاعي موضوعه باللغة العربية، ولم أَتَيقَّنُ بَعْدُ أنه لم يخرج عن آراء الإمام ابن تيمية، وأنه اطلَّع عليه كما اطلع ديكارت على كتب أبي حامد الغزالي، وكما اطلع توما الأكويني وغيره من فلاسفة العصور الوسطى على كتب الفارابي وابن رشد وتبنَّوها؛ لهذا عزمتُ وتوكلت على الله بأن أطبعه مترجماً محققاً على هذا النحو:

1 - الترجمةُ من قبل الأستاذ الدكتور منذر محمود محمد.

2 - مراجعة الترجمة من قبل الدكتور محمد خير البقاعي.

3 - التقديمُ للكتاب، والتعليق على ما يلزم التعليق عليه من النص العربي، وإحالة أفكار بيكون إلى مصادرها من كتب الإمام ابن تيمية وغيره، وبيان ما هو من فكره هو استقلالاً.. وكل هذا سيتم من قبلي إن شاء الله.

وتبدأ مادة الكتاب التي بين يديَّ بما سماه (الوسيلة الجديدة لاكتساب المعرفة)، أو (الاتجاهات الصحيحة لتفسير الطبيعة)، وهذا الجزء من مادة كتاب بيكون هو الجزء الثاني الموجود من الكتاب، وقد قَسَّمه إلى أجزاء، وسمَّى كل جزء الكتاب الأول، والكتاب الثاني... إلخ.. وأتناول الآن الكتاب الأول من الجزء الثاني الذي جعله مُلخَّصاً للجزء الثاني بعنوان: (حكم وأمثال حول تفسير الطبيعة ومملكة الإنسان)، وقد نثر فيه (130) حكمة، وتبدأ معاناته للمنطق الأرسطي بالحكمة الثانية عشرة.. ومثل هذه الأقوال الـمُتناثرة التي سَمَّاها حِكماً لا تليق بالدراسات الفكرية الجادَّة، وإنما تليق بالطرائف التي تُسمَّى في تراثنا محاضرات وكشكولاً وكُنَّاشة، وتُصنَّفُ تراثياً في الكتب الأدبية بالعرف القديم الذي هو الأخْذُ من كل فنٍّ بطرف ككتاب الأبشيهي (المستطرف من كل فن مستظرف).. والأدب قيمته جمالية، ومن عناصر الجمال تنشيط الذهن بما يدفع السأم والملل من حقلٍ علمي إلى حقلٍ علميٍّ آخر على غير سياق علمي أو فكري واحد؛ وإنما هي ثقافات متناثرة؛ فكانت كتب الطرائف تتحرَّى ما سهل فهمه، وتَقْرِن المضحك بالحكمة، وتقرِن الحكمة بالفائدة، وتقرن الفائدة بإحضار ما ندَّ عن الذاكرة من معارف ماثلة في الخبرة البشرية.. وحكمتُ بأن حِكَمه إنما هي تناثرُ كلامٍ مرسل سماه بيكون حكماً وأمثالاً لا تليق بعمل فكري جاد؛ لأن العمل الفكري يُحتِّم لغةً مباشرةً ليس فيها زخرفة جمالية، ويحرص على الاقتصاد في العبارة مع الوضوح، ويحرص على ترابط الجمل، ويتعطَّش إلى التوضيح بالتقسيم والحصر والمثال الشارح؛ ليتحقَّق صواب تصوُّرِ مراد الكاتب؛ فيكون الحكم له أو عليه صحيحاً غيرَ جائر.. وعندما أشرع في تفهُّم هذا القسم من كتاب بيكون -مرجئاً تحقيقَ صحةِ دلالةِ عنوان هذا البحث إلى الفراغ من الحِكَمِ التي نثرها- أجِد أن أول ما يواجهني الحكمة الأولى التي وَصَفَت الإنسان بأنه مُمَثِّل الطبيعة ومفسِّرها.. ولا ريب أن (التمثيل) في العرف الدارج يعني نيابة شيئ عن شيئ؛ فإذا أُطلق التمثيل كما ههنا، ولم يحُدَّد بقيد كتمثيل الفرد مجتمعه في واقعةٍ مُعيَّنة: فإن التمثيل يكون كُلِّياً بمعنى أن الإنسان ههنا ذو كلية تُمثِّل كلِّية الطبيعة بكل عناصرها؛ فهذا أولُ ضلالٍ ههنا؛ لأن الإنسان لا يُمثِّل التعبيرَ عن كُلِّية الطبيعة؛ وسبب ذلك أوَّلاً أنه لا يكون ممثلاً إلا لما عرفه، ولمُعرفْ بَعْدُ من الطبيعة إلا القليل من ظواهرها، وما غاب عنه من الطبيعة لا يحصيه فكر ولا يهجس به ظن.. كما أن الإنسان ليس ممثلاً لكليَّةِ ما عرفه من الطبيعة؛ لأنه لا يملك قوة الريح، وصلابة الحديد، وسرعة الضوء.. إلخ؛ فهو جزء من الطبيعة يكون متميزاً على شيئ منها بالفكر، ويكون شيئ منها متميزاً عليه هو بالقوة والسرعة والصلابة؛ فأين حينئذٍ تمثيله الطبيعةَ؟!.. ثم نجد في الحكمة الأولى أن (الإنسان مفسِّر للطبيعة)؛ وإنما يفسِّر الفردُ القدْرَ الذي عرفه من خصوص الطبيعة التي عرفها البشر، ويحكي ما عرفه غيره من البشر ولم يعرفه هو بعد؛ وذلك بالنقل عن أفراد أو جماعات من البشر؛ فتفسيره أيضاً محصور.. ونجد ثُنائيِّةً بين أمرين مختلفين، ولكن الحكمة البيكونية الأولى جعلتهما أمراً واحداً وهما (خلال الواقع) و(طريق الاستدلال) في قوله: «وما يقوم به الإنسان أو يفهمه مبنيٌّ علىملاحظته لنظام الطبيعة: إما من خلال الواقع. وإما من طريق الاستدلال».

قال أبو عبدالرحمن: ورَفْعُ المفارقة ههنا أوَّلُ خلطٍ من جرَّاء الأسلوب الأدبي في تناثر ما سمَّاه حِكماً؛ ذلك أن (خلال الواقع) الذي تمَّ إحساس الفرد به هو مصدرُ معرفته لشيئ من الواقع، كما أن (خلال الواقع) الذي تم إحساسُ غيره به من البشر جزء من أحكامه الفكرية لا من إحساسه هو الـمُباشر؛ لأنه مُصَدِّقٌ بعلم غيره بطرق التصديق كالتواتر الذي أقرت بصحته خِـبْرتُه.. وأما طريق الاستدلال فليس هو الواقع الذي عرفه؛ وإنما هو سلوكه الفكري في تحديدِ ووصفِ وإحصاء ما عرفه، وتمييز الأشياء التي عرفها من الوقائع بما بينها من علاقات وفوارق، وشبَهيَّة أو مثلية أو غيريَّة.. وهذا السلوك الفكري في تحديد ما عرفه من وقائع معيَّنة مبني على أحكام تكوَّنتْ له من معرفة وقائع سابقة؛ فما عرف أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان إلا بعد خبرته الفردية. وما علمه من خبرة البشر عن حال كل هُويَّةٍ لا تقبل التمازج فتكوِّن هويةً أخرى وَفْق العرف البشري في التسمية؛ فمن الممكن تدوير المربَّع بحرفةٍ علمية، ولكنَّ المربَّع نفسَه لا يكون هو المدوَّر نفسه في آن واحد؛ لأن هُوِيتهما بالتسمية اللغوية لا تقبل ذلك؛ فإذا دُوِّر المربع بِحرفٍ علمية تغيَّرت هُوِيَّتُه فكان مدوراً لا مربعاً.. ومزْجُ ما يقبل التمازج كالحليب مع الماء والعسل لم يُغيِّر هوية الماء وحده، وهوية الحليب وحده، ولا هوية العسل وحده؛ فكل هُوِيَّة باقية بحسبها؛ وإنما حدثت هوية رابعة من التمازج ليست حليباً خالصاً كما نتلقاه من الضرع. وليست ماء خالصاً كما نتلقاه من المطر، وليست عسلاً خالصاً كما نشتاره من إفراز النحل.. وطريقُ الاستدلال مبني على أمر زائد على الواقع الخارجي الذي عرفته، وذلك هو مَلَكة الحس والعقل في التصور والتمييز والحفظ والتدكُّر والإحصاء والتصوير من واقع آخر بالوصف أو التشبيه، أو تذكير المتلقي بما عرفه كمعرفتك شيئاً جاءك من الحس مباشرة؛ وذلك باللغة المشتركة؛ فقولك: (العسل المجْرَى الأبيض) لغة مشتركة تُحْضر للمتلقِّي معرفةَ ما عرفه هو إن كان سبق له تجريبه بالخبرة؛ فتكون معرفتُه تذكُّراً؛ فإن لم يسبق له ذلك قرَّبْتَه إليه بالوصف والتمثيل والتشبيه بما عَرَفه وجَرَّبه.. والاستدلال بعد هذا يزيد على الواقع الذي عَرَفه من جهة ثالثة، وهو أنه ينطلق به إلى معرفة حكميَّة في واقع لم يشاهده بعد؛ فمعاينتك لواحِديَّة القصد فيما عرفته من الكون هدتك إلى مرفةٍ حُكْمية يقينية لواقعٍ لم تشهده، وهي أن لهذا الكون خالقاً واحداً لا شيئ يملك واحديَّة القصد في الكون غيرُه.. ونجد في الحكمة البيكونية الأولى أن معرفة الإنسان لما عرفه من الطبيعة صادرة عن (ملاحظته نظام الطبيعة)، وليس هذا صحيحاً ولا شرطاً، فأنا أعرف شكل الزهرة، وأُميِّز نوع أريجها المختلف عن أريج الزهور الأخرى وإن لم أعرف نظام تكوُّنها منذ أنبتها الله بالمطر إلى أن أصبحت هشيماً تذروه الرياح.. ثم ختم بيكون حكمته الأولى بقوله عن الطبيعة وعن معرفة الإنسان بها: «إنه لا يعرف عنها أكثر من ذلك، وليس باستطاعته القيام بأكثر من ذلك»؛ ولكي نفهم كلامه يجب علينا البحث عن المشار إليه في قوله (ذلك) مما سبق من كلامه؛ فلا نجد غير التمثيل والتفسير وملاحظة النظام، وقد سلف الكلام عن هذه الجُمَل، وليست المعرفة غير وصف المعروف تمييزاً أو تشبيهاً أو تذكيراً بمعنى لغة مشتركة؛ فقول بيكون: (أكثر من ذلك) يوحي بأن هناك معرفةً غير ذلك، والواقع أنه لا معرفة غيرُ ذلك؛ وإنما الأكثر موضوع المعرفة، وهو الذي لا يزالُ مَغيَّباً عنا، فمنه ما إذا عرفناه كانت معرفتنا له بما ذكره بيكون، ومنه ما نعلم به من آثاره؛ فهذا علم استنباطي، وقد أسلفت كثيراً أن العلم غير المعرفة.. ومنه ما لا نملك العلم به إلا بخبر معصوم من شرع الخالق جل جلاله، ثم نجد في الشرع التنبيه والتذكير بما في حَـيِّز العقـل ضرورةً من دلالة العلامات الهادية في الآفاق والأنفس.. وكل ما ادَّعاهُ مُدَّعٍ من واقع مُغَيِّب بغير علمٍ بآثاره الدالة عليه، أو بوصف خبرٍ معصوم فهو إما محال ينفيه العلم الذي أصبح يقيناً عند البشر كإحالة اجتماع النقيضين، وإما ممكن، والممكن يُتوقَّف فيه عن الحكم بتعيين المُحتمل؛ لفقدان المرجِّح.. والعلم والمعرفة يختلفان مِن جهة أن معرفة المخلوقين أبلغ من جهة، وأنقص من جهة؛ فهي أبلغ لأنها معرفة مباشرة بالحس، ولهذا يكون نقيضها النكرة؛ فمن لم تره وليس لك به سابق معرفة، وهيئة جنسه مما تعرفه فذلك معرفة مشاهدَةٍ جديـدة.. ومن رأيته أو سمعته وهو ليس من هيئة جنس ما تعرفه فإنك تنكره، ولهذا قص الله الخبر عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه نَكرِ ملائكة الرحمن عليهم السلام لما رأى أيديهم لا تصل إلى الطعام كما قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [سورة هود/ 70] وهم جاؤوه في هية بشر.. أو كنت تعرفه ثم غابت عنك صورته ونسيته، أو كان نموُّه بخلاف المعرفة القديمة؛ ولهذا قال الله عن يوسف عليه السلام وعن إخوته رضي الله عنهم -وأمثلهم أكبرهم-: {وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [سورة يوسف/58].. والمعرفة أنقص من العلم؛ لأن العلم معرفة وزيادة، فالعلم بأحوال المعروف بالتجرِّبة التي يتفاعل فيها العقل والحس، وبالاستنباط الضروري من أحوال المعروف؛ فرؤيتي للتفاحة وإحساسي بطعمها معرفة، وإدراكي لِقيمِها الغذائية وتقديرها علم حاصل بعد المعرفة.. ثم العلم منه اكتسابي، ومنه مباشر؛ فعلم المخلوقين كلُّه اكتسابي وَفْق علامات نصبها الخالق، ووفق علامات وضعها المخلوق للدلالة على ما عَلِمه بالاكتساب كنصب صُوَى الطريق من قِبل خِرِّيت في المجاهل.. وهناك علم مباشر ليس إلا للخالق جل جلاله بلا وسائط {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [سورة الملك/ 14]، ولهذا كان كل علم البشر بهدايات وعلامات نصبها العليم لعباده، فلا تصدر العلامات من مخلوق إلا بعد أن يكون هو عالماً بالاكتساب، ولا يملك وضع العلامات في الآفاق والأنفس إلا العليم بإطلاق، وهو خالقها تبارك وتعالى، ونقيض العلم الجهل.. وربما قال قائل: (الصَّيْرورة وجود قد لا تصل إليه معرفتنا إلا بعد حين كانتقال الظل بزوال الشمس لا ندركه إلا بعد دقائق، ومنه ما لا ندركه إلا بعلم مُجرَّب كموت بعض الخلايا، ومنه ما تموت أجيال لم تعرف صيرورته بعد كتعريات الطبيعة).. والجواب عن هذا أن الموضوع الذي بحثه بيكون إنما هو عما يفهمه الإنسان من الطبيعة كما في الحكمة الأولى من حِكَمِه.. أي عما عُرِف، ويشمل ذلك ما عُرف بعد حين كبعض الصيرورات.. والتصديقُ بالشرع قائم على طرق الاستدلال المتينة من الطبيعة في الآفاق والأنفس، وفيه الخبر أن كل شيئ إلى زوال وتغيُّر وأطوار كخَلْق الإنسان أطواراً، وكالنبات يصبح هشيماً تذروه الرياح، وكالجبال تنتهي إلى هيئة كالعهن المنفوش.. ولـمَّا أدركنا زوال الشمس بعد خمس دقائق مثلاً علمنا أنها تزول بالتدريج في كل ثانية، وعلمنا أننا لا ندرك ذلك في حينه.

قال أبو عبدالرحمن: هذه حكمة واحدة في ثلاثة أسطر استغرقت كل هذه الأسطر فكان عندي أنني سأحتاج إلى صبرٍ وأناة وجهد كبير كثير في دراسة كتاب بيكون قبل أن أشرع في ضبط نصِّه وتحقيقه.. وفي الحكمة الثانية انتقل إلى شيئ يجب أن نفهمه، وأن نعلم علاقتنا بالكتاب، وهل هي علاقة بتفسير الطبيعة أو بملكة الإنسان؛ وذلك هو الإمساك بمفاتيح القوة على الطبيعة؟.. ولا أدري بَعْدُ هل يريد قوة السيطرة على الطبيعة والاستمتاع بها، أو قوةَ الفكر على فهم ما عُرف من الطبيعة وتفسيرِه.. أي هل يريد نَقْلَ مفهوم الفرد إلى فهم فردِ آخر أو أفراد، أو يريد إخضاع الطبيعة جبراً؛ لتكون مفهومة؟.. ولكن المؤكد أن ما نملكه قدْرٌ من القوة يحقِّق لنا الانتفاع بشيئ من الطبيعة ولابد أن يكون مسبوقاً بفهمِ الفكر؛ ليكون الانتفاع راشداً.. ولم يضع لنا بيكون شيئاً من المعالم في هذه الحكمة -وهي بالأسلوب الأدبي لا العلمي والفكري-، وهذه المعالم هي بديهة العلمُ المحقَّق بأن الانتفاع بشيئ من الطبيعة لا يكون إلا بأدوات.. مع أن هذه الأدوات مما أخذناه نحن مسبقاً من الطبيعة قوةً وفكراً بإقدار الخالق جل جلاله وهدايته؛ فكل مداركنا مخلوقة مُتَدَرِّجة في التربية من اللحد إلى المهد، أو مما أخذه لنا غيرنا بالتصنيع والتسويق أو البيان بوصف، أو تكييف وتقدير، أو بتشبيه.. وخلالَ حِكْمتِه أن الانتفاع لا يكون باليد العزلاء: نسي أن اليد العزلاء تُحقِّق بعض الانتفاع كجني الثمار من نبات البر، وأنه يتحقَّق بعض الانتفاع من غير حاجة إلى اليد كالاستمتاع بالنسيم والمظاهر الجمالية، وكَفَهْمِ بعض المعارف عن الطبيعة بمصادر حسية غير لمس اليد.. ومن تلك المعالم تحصيل الحاصل بذكره بديهة أخرى، وهي أن الانتفاع الأكمل بالطبيعة يحتاج إلى عدد من الأيدي، ومن تلك المعالم بديهة ثالثة وهو أن الفكر (الذي يفهم الطبيعة ويُفسِّرها) يحتاج إلى أدواتٍ وأيادٍ أُخَر، وهذا حق بالنسبة إلى ما لا يُفهم ولا يُفَسَّر إلا بأيدٍ وأدوات تُظهر وتُبرز ما هو موضوع للفحص المعرفي، والتذكير بمثل هذه البديهيات من غير حاجة تدنٍّ بالعمل الفكري يجعل بعضه لغواً.. ونسي بيكون -ما دام معنياً بتحصيل الحاصل- أن الفكر الفردي يحتاج إلى أفكار الآخرين؛ لِتتَّسع معرفته؛ ذلك أن معارف الأفراد تُكوِّن معرفةَ العقل الإنساني المشترك، ومن معارف هذا المشترك يُعيد الفرد التجربة فيعرف بخبرة حسية كاملة، وهناك معارفلا يستطيع إعادتها بالتجربة فيؤمن بصدقها ببراهين من الخبرة الحسية كاقتضاء التواتر ضرورة التصديق؛ لكون تلك المعرفة خبرةً تجريبية علمية بخبر تواتري دلت الخبرة أنه محال أن يكون كذباً، وبمشاهدة ثمار ونتائج تلك التجربة العلمية.. وذكر بيكون أن أدوات العمل التي تستخدمها اليد تقوم بتحفيز اليد نفسها وتوجيه حركاتها، ومع تحصيل الحاصل في هذا فإن مُحَفِّز اليد وموجِّه حركاتها هو الفكر لا الأدوات؛ وإنما تستجيب الأدوات لإرادة العامل الموجَّهَةِ بالله ثم بفكره وبما منحه ربه من قدرة على صنع الأدوات وقدرة على استعمالها.. وانتقل إلى الحكمة الثالثة بأسلوب أدبي مُغْرق في المجاز؛ فذكر أن المعرفة الإنسانية والقوة الإنسانية تَصبَّان في الاتجاه نفسه.. وليس عندنا معهود نعرف به الاتجاه نفسَه إلا الأيدي والأدوات المذكورة في الحكمة الثانية؛ فيكون في هذا فضول بتكرار الكلام من غير حاجة مع ضرورة الاستثناء؛ لِما أسلفته من فهمٍ للطبيعة وانتفاعٍ بها لا يحتاج إلى الأيدي والأدوات.. ثم عَلَّل تلك الجملة الفضولية ببديهة أن الجهل بالأسباب يؤدي بالنتائج إلى الإحباط.

قال أبو عبدالرحمن: هذا الكلام في جملته صحيح، ولكنَّ تعيينَ الأسباب يحتاج إلى علم سابق عن خبرة حسية مشاهدة ليست من تجربة العارف في معمله، أو خبرة تجريبية برْهنها المجرِّبُ بشروطها ووضعيتها، وقد تكون النتائج مُحْبَطَة في بعض التجارب، لكنه بملاحظة الـمُجَرِّبُ الفرقَ، واقتناص أسباب الإحباط: ينتهي إلى نجاح التجربة.. وكم من تجارِبَ فاشلةِ انتهت إلى تجربة ذات نتيجة قطعية مرهونة بحالتها ووضعيَّتِها.. ومزج بيكون حقاً بباطل؛ فقوله: (فالطبيعة لا يمكن السيطرة عليها إلا من خلال فرض الطاعة عليها) تعميمُ باطل؛ لأن مِن الطبيعة ما هو ناموس لله سبحانه لا يمكن تغييره، ولن تجد لسنة الله تبديلاً .. ومنها ما أفاض الله منه على الوجود بِقَدْر كحرارة الشمس وغزارة المطر؛ فقد جعل الله للبشر والحيوانات -وذلك من جملة الطبيعة التي خلقها الله- قدرةً ومسالكَ لتوقِّي مضارِّها، والإفادة من منافعها؛ فليس هذا سيطرةً على الطبيعة كما في عبارة بيكون الخاسئة؛ وإنما هو تنظيم الله الطبيعةَ؛ فإذا أراد الله ما هو خلاف المعتاد كريح تُدمِّر كل شيئ بأمر ربها، وكفيضانات تغمر اليابس وتغرق الأناسي وتجعل المنشآت العتيدة أثراً بعد عين: فالبشر الذين هم خلق الله مقهورون بعوامل طبيعية هي من خلق الله وبإرادة الله جل جلاله، ويتميَّز المؤمن بما سأشير إليه لاحقاً بنعيم في نفسه من جَرَّاء إيمانه الراسخ بالعبودية لربه سبحانه وتعالى؛ وذلك بخلاف ما يسميه الوجودي حرية وهو من الهذر والخواء.. وحِكَمُ بيكون هذه تخلط بين اليقيني والرجحاني والاحتمالي؛ فيذكر أن ما يُظنُ أنه السبب هو مثل القاعدة من حيث التطبيق، ويريد بالتطبيق أن تكون القاعدة مُطَّردة غير منخرمة، ومثلُ هذا الطرح لا يليق بالتأصيل في كتاب فكري؛ لأن المراد بالسبب الذي تُبنى عليه النتائج هو ما أظهره الفكر والتجربة من حيث لا يكون ظناً، وهكذا القاعدة لا تكتسب هذا الاسم إلا بعد تجربة أو تجارب تُظْهر اطِّرادها.. وقولهم: (لكل قاعدة شواذ) كلمة رعناء؛ لأن ما شذ عن القاعدة فليس منها ولا يتناوله شرطها، وأما ما تناوله شرطُ القاعدة ولم يَدْخلْ هو فيها فلا بد أن يكون لمانع أقوى من مُقْتضى القاعدة يجعل ما خرج مستثنى، ولولا ذلك المقتضي لكان ذلك المستثنى داخلاً في القاعدة بلا مراء، وأضرب المثال لذلك بقاعدة فقهية على سبيل المثال كقولهم: (الضرر يزال)؛ فهذه قاعدة صحيحة شاملة بالحكم الشرعي،ولكن توجد أضرار يَحْتملها الشرع؛ لأن إزالتها تُحْدِث ضرراً أكبر، أو تُلغي مصلحة أكبر؛ وذلك كما في تعامل المسلم مع من هو أقوى منه من غير المسلمين بالأسباب المادية؛ فيقال: القاعدة صحيحة ولكنها مقيَّدة بقاعدة شرعية أخرى مثل: (التكليف حسب الاستطاعة)، ومدفوعة بأحكام المعادلات بين المصالح والمضار، والله المستعان، وإلى لقاء بمشيئة الرحمن، وعليه الاتِّكال.

 

ابتسامات ثقافية وفكرية
مَعْزوفةُ الدكتورِ خوجه واللَّغْوُ السيميائي: (الجزء الثاني)
ابو عبد الرحمن بن عقيل الظاهرى

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة