ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Tuesday 15/05/2012/2012 Issue 14474 14474 الثلاثاء 24 جمادى الآخرة 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

كتب سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- نصيحة لأحد القضاة نصها في الفتاوى: بلغني أن موقفك مع الإمارة ليس كما ينبغي، وتدري بارك الله فيك أن الإمارة ما قصد بها إلا نفع الرعية، وليس من شروطها أن لا يقع منها زلل، والعاقل بل وغير العاقل يعرف أن منافعها وخيرها الديني والدنيوي يربو على مفاسدها بكثير،،

ومثلك إنما منصبه منصب وعظ وإرشاد، وإفتاء بين المتخاصمين، ونصيحة الأمير والمأمور بالسر وبنية خالصة تعرف فيها النتيجة النافعة للإسلام والمسلمين. ولا ينبغي أن تكون عثرة الأمير أو العثرات نصب عينيك, والقاضية على فكرك, والحاكمة على تصرفاتك؛ بل في السر قم بواجب النصيحة، وفي العلانية أظهر وصرح بما أوجب الله من حق الإمارة والسمع والطاعة لها؛ وأنها لم تأت لجباية أموال وظلم دماء وأعراض من المسلمين، ولم تفعل ذلك أصلا؛ إلا أنها غير معصومة فقط؛ فأنت كن وإياها أخوين: أحدهما مبين واعظ ناصح، والآخر: باذل ما يجب عليه كاف عما ليس له. إن أحسن دعا له بالخير ونشّط عليه، وإن قصّر عومل بما أسلفت لك، ولا يظهر عليك عند الرعية, ولاسيما المتظلمين بالباطل عتبك على الأمير, وانتقادك إياه؛ لأن ذلك غير نافع الرعية بشيء، وغير ما تعبدت به، إنما تعبدت بما قدمت لك ونحوه، وأن تكون جامع شمل، لا مشتت، مؤلف لا منفر. واذكر وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى “يسر ولا تعسر، وبشروا ولا تنفروا، وتطاوعا ولا تختلفا” أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وأنا لم أكتب لك ذلك لغرض سوى النصيحة لك, وللأمير, ولكافة الجماعة, ولإمام المسلمين. والله ولي التوفيق. والسلام عليكم”..

وهذه الرسالة توضح الطريقة التي كان يتبعها علماؤنا مع ولاتهم والمسؤولين، أولئك الذين يئدون الفتن في مهدها ويبينون للناس أصول الشرع وفروعه دونما مداهنة أو تضليل، أولئك بقية السلف الصالح رحمهم الله الذين علمونا قواعد المنهج وأناروا لنا دياجير الظلام حتى أصبحنا نستحضر نصوصهم لمعالجة خلل واقعنا المعاصر، ولا أدل على ذلك من قول الماوردي رحمه الله في كتابه درر السلوك في سياسة الملوك: “ثم لا يبعد أن يظهر أهل نحلة مبتدعة، ومذاهب مخترعة، يذوقون كلاما مموها، ويزخرفون مذهبا مشبوها، يخلبون به قلوب الأغمار، ويعتضدون على نصرته بالسفلة الأشرار فيصبُ الناس إليهم وينعطفون عليهم بخلابة كلامهم وحسن ألطافهم مع أن لكل جديد لذة ولكل مستحدث صبوة وقال النبي صلى الله عليه وسلم “إن أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان” فتصير حينئذ البدع فاشية ومذاهب أهل الحق واهية ثم يفضي بهم الأمر إلى التحزب والعصبة فإذا رأوا كثرة جمعهم وقوة شوكتهم داخلهم عز القوة ونخوة الكثرة فتضافر جهال نساكهم وفسقة علمائهم بالميل على مخالفيهم فإذا استتب لهم ذلك زاحموا السلطان في رئاسته وقبحوا عند العامة جميل سيرته فربما أنفتق مالا يرتق فإن كبار الأمور تبدو صغارا”. والكارثة حينما يحذر عالم الناس من شيء ثم يأتيه، وتستفزه الحوادث دونما صبر أو تصبر. والفتنة حينما يصبح أعداء الأمس أتباع اليوم في صورة خير ما بينها قول الشعبي رحمه الله عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَخْبَرَنَا هُزَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ، أَنَّ أَبَا مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيَّ جَاءَ إِلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، فَقَالَ أَخْبِرْنَا بِأَمْرٍ نَأْخُذُ بِهِ بَعْدَكَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: “إِنَّ الضَّلالَةَ حَقَّ الضَّلالَةِ أَنْ تَعْرِفَ مَا كُنْتَ تُنْكِرُ، وَتُنْكِرَ مَا كُنْتَ تَعْرِفُ، فَانْظُرِ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ فَتَمَسَّكْ بِهِ، فَإِنَّهُ لا يَضُرُّكُ فِتْنَةٌ بَعْدُ”. والذي ميز أهل السنة والجماعة على مر العصور أنهم استطاعوا فهم المسائل الدقيقة التي التبست على بقية الفرق في بابين مهمين: (الأسماء والصفات، والحاكمية)، فبرزت قواعد المنهج السلفي الذي استنبطه العلماء الراسخون من فهم السلف الصالح ولكن ما نراه اليوم يعد خلطاً وتعدياً على قواعد ذلك المنهج القويم فأصبحنا نسمع بالتعرض للسلطان بالنصيحة العلنية تقليلاً لهيبته في نفوس العامة، والسلف الصالح لا يرونعصمة الولاة بل ينصحونهم ويقسون عليهم أحياناً في السر ويقدرونهم في العلن لمصلحة عليا. وعن عياض بن غنم رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من أراد أن ينصح لذي سلطان في أمر فلا يبده علانية، وليأخذ بيده, فإن قبل منه فذاك, وإلا كان قد أدى الذي عليه (أخرجه الإمام أحمد ورواه ابن أبي عاصم في السنة وصححه الشيخ الألباني)، وعن أسامة بن زيد-رضي الله عنهما- قال: قيل له ألا تدخل على عثمان فتكلمه؟ فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟! والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه. (رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم) قال النووي رحمه الله موضحا قصد أسامة قوله “أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من افتتحه” يعني المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ. وَقَالَ عِيَاض: مُرَاد أُسَامَة أَنَّهُ لَا يَفْتَح بَاب الْمُجَاهَرَة بِالنَّكِيرِ عَلَى الْإِمَام لِمَا يَخْشَى مِنْ عَاقِبَة ذَلِكَ، بَلْ يَتَلَطَّف بِهِ وَيَنْصَحهُ سِرًّا فَذَلِكَ أَجْدَر بِالْقَبُولِ (فتح الباري) وقال الإمام الألباني: يعني المجاهرة بالإنكار على الأْمراء في الملأ لأن في الإنكار جهارا ما يخشى عاقبته، كا اتفق في الانكار على عثمان جهارا إذ نشأ عنه قتله. (مختصر صحيح مسلم تحقيق الألباني) وقال أئمة الدعوة في نصيحة مهمة: “ما يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق واتباع ما عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس”. وقال العلامة السعدي رحمه الله في الرياض الناضرة: “على من رأى منهم ما لا يحل أن ينبههم سراً لا علناً بلطف وعبارة تليق بالمقام” وقال الشيخ ابن باز: “الطريقة المتبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين السلطان والكتابة إليه أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير. وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل فينكر الزنى وينكر الخمر وينكر الربا من دون ذكر من فعله ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير ذكر أن فلاناً يفعلها لا حاكم ولا غير حاكم”.

يا أهل السنة إن الفتن يرقق بعضها بعضا، فتبدأ ضعيفة ويبدأ صدها بقوة ثم تطل برأسها مرة أخرى بطريقة أقوى مما كانت عليه وتقل مواجهتها، وهكذا نسأل الله العفو والعافية. الفتن هي التي عصفت باستقرار هذه الأمة، والشُبه التي يُروج لها هي التي تقوِّض أركان الكيان فأول ما يضيع بيضة الإسلام ويصطلم الشرع المطهر ويفتح باب الشر ولا يغلق، فيها تنهب الأموال وتقتل النفوس وتستباح الأعراض، فالفوضى التي تعم المجتمع المسلم لا تحمد عقباها والتطاول لا يأتي بخير وبخاصة في ظل تداعي الأمم علينا، وأمتنا المجيدة ابتليت كثيراً دون استفادة من الدروس الحادثة، فأين نحن من استشهاد ثلاثة من خلفائنا الراشدين الأربعة إذ اغتيلوا في مؤامرات سياسية فقد استشهد سيدنا عمر بن الخطاب وهو يصلي الفجر بخنجر غدر في مؤامرة لا يعلم خيوطها إلا الله جل وعلا، ثم تطاولوا على سيدنا عثمان ذي النورين، الإمام الذي تستحي منه حتى الملائكة، ملؤوا صدور المسلمين وحقنوها عليه بشُبه وكذب وتزوير حتى قلَّت هيبته فتسوروا عليه الجدر واقتحموا عليه الأبواب فاستشهد وسال دمه الطاهر على قوله وسيكفيكهم الله، وفتحت أبواب الشر والخلاف على مصراعيها في بيت أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بويع سيدنا علي بن أبي طالب أبي السبطين سيدا شباب أهل الجنة واستشهد على يد الخوارج ولا زالت الأمة إلى هذا اليوم تدفع فواتير باهضة الثمن، في كل مرة يخرج علينا من يحمل مشروعه الشخصي وبكل أسف نجد من يركب معه في سفينته التي يتصورها وأتباعه أنها سفينة النجاة وهي المهلكة والشخصنة، حتى أصبح أهل السنة غرباء، يقول بعض أهل العلم: “الغربة غربتان غربة المسلم بين أعدائه من الكفار والملحدين في كل زمان ومكان، وغربة أهل السنة المتمسكين بها والصابرين عليها المنتسبين إليها. وكلما ازداد تمسك هذا الغريب بالسنة علما وعملا ازدادت غربته وقل مشاكلوه وكثر مخالفوه فهو مسافر في طريق طويل ذي مراحل ومعه أصحاب كلما قطع مرحلة انقطع بعضهم حتى لا يكاد يواصل السير معه إلا القليل فطوبى للغرباء”. وأشد داهية دهياء واجهها أهل السنة اليوم اختلاط الأمر على الناس وسكوت من يجب أن يتكلم بحجة أنه اعتزال الفتنة وعليه أن يلزم بيته في فهم عجيب لنصوص الشرع الذي ينص على البيان وعدم كتم العلم وهداية الحيارى من الناس، والله من وراء القصد.

abnthani@hotmail.com
 

يَاأهْلَ السُّنَّةِ... طُوبَى للْغُرَباءِ
د. عبدالله بن ثاني

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة