ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Monday 28/05/2012/2012 Issue 14487 14487 الأثنين 07 رجب 1433 العدد 

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

كانت المنطقة المشتملة على العراق والشام بمفهوم الشام الواسع تُسمَّى الهلال الخصيب. ولهذه التسمية نصيبها الواضح من الصحة من حيث وفرة المياه وخصوبة الأرض. على أنّ هذه التسمية، أيضاً، كانت غير مُستساغة من الناحية السياسية الوطنية

في فترة من الفترات التي عاشها كاتب هذه السطور وجيله، عندما كانت المشاعر العروبية مُتوهِّجة في نفوس ذلك الجيل. فهي تسمية كثيراً ما تَبنَّاها المستعمر الغربي لتلك المنطقة من أوطان أُمَّتنا. وكان كل ما يَمتُّ إلى ذلك المستعمر الغربي بصلة ممقوتاً مقت الاستعمار ذاته. ومن ذا الذي كان يظن حينذاك أنه سيرى زمناً تندفع فيه أُمَّتنا؛ قيادات وشعوباً، إلى التأمرك اندفاعاً أشبه ما يكون بالعشق والهيام؛ لا سيما في مجال اللغة التي هي ركن أساسي مُهمٌّ من أركان هُويَّة الأُمَّة؟

كانت العراق.. بلاد الرافدين دجلة والفرات .. موطن رخاء ورغد معيشة. وكانت خيراتها عميمة نعم بها أهلها والمقيمون فيها من غيرهم. بل امتدَّ وارف ظلال تلك الخيرات إلى من كانت لهم أملاك في ربوعها وإن كانوا يعيشون خارجها. أذكر قصة لأناس من مسقط رأسي عنيزة. كانت إحدى الأسر الكريمة من أهل هذه البلدة تملك مزرعة نخيل فيها. وكان من عادة الأسر ميسورة الحال المالكة للمزارع أن يَتَّفقوا مع فلاّح يستثمرها مقابل نصيب من ثمرها يدفعه إلى المالك. وكان أبو الأسرة مُقعداً طاعناً في السن. فَتقدَّم فَلاَّح ليفلحها مقابل دفعه ثلث الثمر إلى مالكها. وتَقدَّم فَلاَّح آخر ليفلحها مقابل دفعه الربع للمالك، فأراد أبناء ذلك الأب أن يكون الاتَّفاق مع من تَعهَّد بدفع ثلث الثمر، لكن الأب عارضهم، وصَمَّم على أن يكون الاتَّفاق مع من تعهَّد بدفع ربع الثمر. ولئلا يمضوا ما خافوا أن يكون مُسيئاَ لأبيهم المقعد عرضوا الأمر على قاضي البلدة بصفة وُدِّية. وكان ذلك القاضي صالح بن عثمان القاضي، رحمه الله رحمة واسعة، الذي سبق أن درس في الأزهر، وكان حصيفاً ذا فراسة عظيمة. فرأى أن يقابل ذلك الأب شخصياً. ولما قابله سأله: لِمَ رأيت أن يكون الاتِّفاق مع من تعهَّد بدفع ربع الثمر فقط؟ قال: لأنّ لديه كفيلاً مضموناً؛ وهو النخيل التي كان يملكها في ناحية البصرة. فقال القاضي لأولئك الأبناء: رأي أبيكم هو الأصوب. توكَّلوا على الله، وأعملوا وفق ما رآه.

وبلاد كالعراق بوفرة خيراتها لم يكن غير مُتوقَّع من أحد شعرائها الكبار؛ وهو محمد الجواهري، أن تأتي كلماته المُعبِّرة عن حنينه إليها بمثل ما أتت؛ قائلاً:

حَيَّيتُ سَفْحِك عن بُعْدٍ فَحَيِّيني

يا دِجلةَ الخَيرِ يا أُمَّ البَساتينِ

حَيَّيتُ سَفْحِك ظَمآناً أَلوذُ به

لَوذَ الحَمائمِ بين الماء والطِّين

يا دِجلةَ الخَيرِ يا نَبْعاً أُفارِقُه

على الكَرَاهةِ بين الحِينِ والحِين

إِني وَرَدتُ عُيونَ الماءِ صافيةً

نَبْعاً فَنَبْعاً فما كانت لِترويني

وأَنتَ يا قَارباً تَلْوي الرِّياحُ به

لَيَّ النَّسائمِ أَطرافَ الأفانينِ

وددت ذَاكَ الشِّراع الرَّخْصَ لو كَفَني

يُحاكُ منه غداة البَيْنِ يَطويني

وكانت ثمار الإصلاحات الحضارية العمرانية التي قام بها مجلس الإعمار في العهد الملكي، الذي كان مهندس الحكم الماهر فيه نوري السعيد، ثماراً مشهودة. كيف أصبحت حال العراق الآن. لقد عَبَّر عن عدم مقدرته على التعبير عن وضعه المحزن الشاعر نزار قباني بقوله:

في فمي يا عراق ماء كثير

كيف يشكو من كان في فيه ماء؟

على أنّ ذلك البيت قيل في مهرجان المربد، عندما كانت العراق عربية الواقع عروبية التوجُّه، بعيدة عن أن تقع فريسة لنفوذ أجنبي ينطلق من منطلق لا يُكنُّ للأُمَّة العربية أَيَّ وُدٍّ أو احترام.

كنت قد حاولت التعبير عما أراه من صيرورة العراق إلى ما صارت إليه؛ مستغرباً عدم إدراك من لم يدرك جرائم المُحتلِّ الأمريكي المتصهين لذلك القطر العزيز من أقطار أُمَّتنا. وذلك في قصيدة مطلعها “نَهْرٌ من العَجَب”؛ قائلاً:

الذي قد مَسَّ مُهْجتَه

لَوثةٌ من فَاتكِ الوَصَبِ

لا تَرى عيناه ما ارتكبتْ

من صنوفِ البَطْشِ والسَّلَبِ

دَولةٌ سَاداتُها جَعَلوا

ذُلَّنا نَوعاً من الطَّربِ

وإذا لِيمتْ على صَلَفٍ

ثَار بركاناً من الغَضَبِ

يا زَماناً بات مُمطرُه

إذ هَمَى نَهْراً من العَجَبِ

كَيفَ لا يَبدو لِناظرِه

ما بدا من جُرْمِ مُغتصِبِ!

سُلِّمت بَغدادُ في طَبَقٍ

- لعُلوجِ الحِقْدِ - من ذَهبِ

وتَلظَّى في مَرَابِعِها

مُستطيرُ الرُّعبِ من لَهبِ

وجَنَتْ صهيونُ ما حَلَمتْ

فِيه من مُستَعذَبِ الأَرَبِ

قد يظن من يظن أنّ العداء بين القيادتين الإيرانية والأمريكية المتصهينة مستحكم؛ وذلك في ضوء ما يَتردَّد من تصريحات معلنة من بعض المسؤولين فيهما. لكن المُتأمِّل في مجريات الأحداث يجد أنهما يختلفان في مفاصل سياسية مُعيَّنة؛ وبخاصة ما يَتَّصل بتطوير إيران للمفاعل النووي الذي يعارضه الصهاينة، ويَتِّفقان، أو يَتمُّ التنسيق بينهما، في أخرى. ما زلت أذكر قول وزير خارجية إيران: إنّ أمريكا تعلم أنه لو لا إيران لما تَمكَّنت أن تنجح في احتلال أفغانستان. والجميع يذكرون كيف سمحت إدارة بوش الابن لذوي التوجُّه المعادي للعروبة من العراقيين، أو منتحلي الجنسية العراقية، الذين كانوا في إيران قبل الاحتلال الأمريكي المتصهين للعراق، بالدخول إلى ذلك القطر بكامل أسلحتهم حتى أصبح النفوذ الإيراني في العراق واضح المعالم، وراحت المجازر تُرتَكَب بحق أبناء الشعب العراقي من المعارضين لذلك النفوذ المُستْظلِّ بِظلِّ الاحتلال المتصهين حتى في أقبية وزارة الداخلية، وتوالت اغتيالات العلماء والطيارين بخاصة، وكيف دُمِّرت البنية الأساسية للعراق، ونهبت آثاره وثرواته.

هكذا إذن أصبحت العراق.. بلاد الرافدين.. دِجْلة والفرات بفعل السياسة العدائية المُحتلَّة لربوعها؛ سواء تلك المتصهينة أو المُنسِّقة معها. على أنّ هناك وجهاً آخر من مأساتها المؤدِّية إلى الكآبة. ذلك أنّ مياه الرافدين قَلَّت بسبب ما بُنِي على النهرين العظيمين من سدود قبل أن يصلا إلى أراضيها. ولكل ما سبق لم تَعُد تلك البلاد المكوِّنة شطراً من الهلال المتحدَّث عنه خصيبة رغدة المعيشة؛ لا سياسياً واجتماعياً ولا إمكانات زراعية وآثارية. فماذا عن الشطر الآخر من الهلال الخصيب؛ وهو بلاد الشام بمفهوم الشام الواسع؟ ذلك ما ستتناوله الحلقة الثانية من هذه المقالة في الأسبوع القادم إن شاء الله.

 

كيف أصبح الهلال الخصيب هلالاً كئيباً؟«1»
د.عبد الله الصالح العثيمين

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة