ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Monday 02/07/2012 Issue 14522 14522 الأثنين 12 شعبان 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

شاهد عيان

 

«أم راكان» : ماكنت لأعيش يوماً واحداً لو أنني استسلمت للبكاء

رجوع

 

يمتلك كثير من الناس مقومات الفراسة بمستويات مختلفة، لكن أياً منهم على الأغلب لن ينجح في اكتشاف أن السيدة التي تملك حضوراً مميزاً في وسطها الاجتماعي ومحيطها الإنساني وتتحدث بكل ثقة مع الجميع هي نفسها «أم راكان» التي تحمل فيروس نقص المناعة منذ أربعة عشر عاماً ، وهي ذاتها التي ستعلق بشيء من الدعابة «قل ما شاء الله»..على كل من يتوقفون إعجاباً عند روحها العالية لدرجة أنهم يسألونها «هل أنت متأكدة أنك تحملين هذا المرض؟»

حدث كل شيء سريعاً، ولم يكن هناك وقت للحزن تماما كما لم يكن ثمة متسع لفقدان المبادرة نحو الحياة التي غادرها زوجها متأثراً بمرض «الإيدز» الذي نقله إليها قبل أن يتركها أرملة تعول بمفردها 3 أطفال وتختبر مرحلة متقدمة من مراحل نكران الذات ومواجهة الأمر الواقع في أكثر حالاته صعوبة، غير أن الإيمان العميق بقضاء الله وقدره كان كلمة الفصل في هذه الحالة ، فيما كانت المقومات الشخصية التي تملكها تلك السيدة الرهان الأكثر شجاعة»قررت منذ اللحظة الأولى لاكتشاف المرض أن أعتبره غير موجود أصلا وأن أتعامل مع اللحظة التي أعيشها بحسب ما تتطلبه مني، لم أفكر بنفسي مطلقاً، كان همي الأول هو كيف أكرس حياتي لأبنائي وأؤمن لهم لقمة العيش حتى يصلوا لمرحلة الاعتماد على أنفسهم».

حين تنعدم الاحتمالات يصبح القرار أسرع والتصرف أسهل، ولهذا شرعت الأم التي تحمل الشهادة الثانوية مع تأهيل مناسب في اللغة الانجليزية في تعلم تطبيقات الحاسب الآلي بعد أن استجمعت قواها الذهنية والنفسية ونجحت في العمل في إحدى المؤسسات الصحية ولكن هذا لم يكن تحدياً وحيداً على اية حال، فتعامل الأهل كان مشكلة لا يمكن تجاوزها بالنسبة لأم راكان، كما أن نظرة الثقافة الاجتماعية إلى مريضة الإيدز كان حجر العثرة الماثل أمام كل خطوة تخطوها هذه السيدة التي لا تريد شيئا أكثر من الاطمئنان على مستقبل أبنائها، كلها هذا فيما بعد فقدان كل فرص العمل التي كانت قد أتيحت لها، فالبيئة الوظيفية كانت ترفضها في كل مرة رغم جودة أدائها ورغم تأقلمها مع محيطها والتزامها بكافة الشروط الوقائية، حتى قررت في لحظة ما، ألا تعيد المحاولة..كان هذا القرار وقتها بعد سنوات من الاجتهاد التي لم يكن لها أن تمضي دون نتيجة.

«أم راكان» شخصية اجتماعية، موهوبة وتجيد إنتاج وإبداع مصنوعات تراثية من الخزف القديم، وهي في الوقت نفسه تؤمن أن التقادم لن يلغي مشكلتها ولكنه يمكن أن يخفف آثارها، لقد أدارت أزمتها بطريقة مثالية بمختلف المعايير الإنسانية والتربوية والعملية ، تناغمت بشكل هادئ مع كل ما واجهها من إقصاءات وعزل وجفاء، بقيت محافظة على تماسكها أمام دوافع لانهائية للانهيار، ومع مرور الوقت كان جزء كبير من مرحلة البناء المعيشي قد اكتمل، كبر أبناء «أم راكان» ليصلوا إلى المرحلة المنتظرة، وفي أحد الأيام التي أوصلها فيها أبناؤها إلى جمعية الإيدز، قررت والدتهم أنها الأنسب لتخبرهم بحقيقة إصابتها بالمرض مبررة لهم تأخر إبلاغهم بذلك وعارضة عليهم حرية الاستمرار في العيش معها أو الابتعاد عنها، وكانت تلك لحظة الحقيقة الأهم في حياتهم جميعا، حيث لا شيء محدد يمكن أن يخطر على بال ردة الفعل.

أمركهذا لم يكن قابلا للنقاش في نظر الأبناء، خلال ثوان فقط مرت في ذاكرتهم سنوات تعليمهم وتطورهم حتى وصلوا للمرحلة الجامعية، احتضنوا أمهم الرؤوم في لحظة عاطفية هائلة وكان القرار بديهيا يتجاوز مسلمات بر الوالدين إلى مقتضيات المنطق السليم «لن نعيش بعيداً عنك وأنت من فعلت كل شيء من أجل أن نعيش حياة كريمة»..وبالفعل فقد أصبح الأبناء جزءا حقيقيا وفاعلاً يشاركون»أم راكان» منجزاتها ويحضرون مناسباتها ويساعدون جهودها التوعوية بل ويصرون على الزهو بها بل واستلام الجوائز معها، لقد تحملت حزناً لا يطاق من أجلهم والآن تؤكد دون جدال»أبنائي هم سبب سعادتي بعد فضل الله تعالى».

«أم راكان» سيدة تحمل هذا المرض ولكنها ليست حالة لإثارة الشفقة كما قد يتبادر لذهن تقليدي، هي تملك من الثقة والعنفوان مايفوق كثيراً من الأصحاء، تتمنى من المجتمع أن يدعم جمعية مرضى نقص المناعة، تعبر عن انزعاجها تجاه ماتصفها بوصمة العار التي ينظر بها المجتمع إلى من لديهم هذا المرض، كما تنتقد قسوة بعض العبارات في الكتيبات التوعوية الخاصة به، تنادي العالم أن يتبنى مفردة «محاربي الإيدز» لوصف المرضى بدلا من مفردة «المتعايشين»، تنصحهم بأن يتركوا هذا الهاجس خلفهم ويعيشوا حياتهم بشكل طبيعي وتبعث فيهم الأمل بعد أن امتلكت الاطلاع المعرفي الواسع في هذا الشأن وتحدثهم عن بوادر علاجية يقترب منها العلم يوماً بعد يوم، إنه الصوت الذي يستطيع بناء حياة من التفاؤل داخل نفس كل مريض إيدز، وهو يقول»لا تفكر في أي شيء واستمتع بنعمة النسيان وليكن إيمانك قوياً، ركز فقط على ماتريد وضع لنفسك هدفاً..لقد جربت هذا وأكرمني الله تعالى..لم أكن لأعيش يوماً واحداً لو أنني استسلمت للبكاء!»

 

رجوع

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة