Wednesday 09/10/2013 Issue 14986 الاربعاء 04 ذو الحجة 1434 العدد
عبد الله بن حمد الحقيل

عبد الله بن حمد الحقيل

رحلة الحج في عيون الرحالة والمؤرخين

09-10-2013

«شكيب أرسلان نموذجاً»

الحمد لله الذي فرض الحج إلى بيته الحرام والصلاة السلام على من أوتي جوامع الكلم.

لقد شرف الله الكعبة وجعلها بيته الحرام بيتاً آمناً تهوي إليه الأفئدة من كل فج عميق منذ رفع قواعده الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام وعلا صوت الخليل منادياً الناس بالحج.

وفي مثل هذه الأيام من كل عام يكتظ الحرمان الشريفان مكة والمدينة بألوف الحجاج الذين يفدون إلى الديار المقدسة من كل فج عميق في غبطة وبهجة روحية عميقة ويؤدون فريضة محتومة عليهم، ويقومون بركن من أركان دينهم الحنيف ويشهدون منافع لهم من اجتماعية وأدبية ومادية ويذكرون اسم الله في أيام معدودات، وإن الحج لرحلة قدسية يفوح منها الخير والإيمان، ورحلة إيمانية في البقاع المقدسة سامية الغايات وهي أمنية العمر ومناط الأمل، ولقد عني العلماء والأدباء والرحالة عناية بالغة بكل ما يتعلق بالحج إلى بيت الله الحرام ووصف الطريق المؤدية إلى مكة المكرمة من مختلف الأقطار الإسلامية وكتبوا بصدق وحب عن المدينتين المقدستين وتجشموا أخطار الرحلة للوصول إلى هذه الرحاب الطاهرة وتأدية مناشك الحج وتدوين ما شاهدوه ولاحظوه حيث تضمنت رحلاتهم وصفا للبلدان التي زاروها والمعالم التي شاهدوها والأهوال والمتاعب التي صادفوها.

ونستعرض اليوم رحلة الحج التي قام بها الأمير شكيب أرسلان أحد أعلام الثقافة العربية الإسلامية حيث نشرها في كتاب أصدره بعنوان (الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف) حيث صور الحج ومشاهده وأماكنه، وكان للأدب من كل ذلك حصيلة كبيرة.

ولقد ولد الأمير شكيب أرسلان سنة 1286هـ وتوفي في بيروت سنة 1366هـ، وقد ملأ الشرق العربي نثراً بليغاً وأدباً سامياً رفيعاً ينعت بأمير البيان وهو أديب وسياسي ومؤرخ، وزار عدداً من البلدان في الشرق والغرب، وهو في حله وترحاله لا يدع فرصة إلا كتب بها مقالاً أو بحثاً وصفه خليل مطران بإمام المترسلين وقال حضري المعنى بدوي اللفظ ومن تصانيفه (الحلل السندسية في الرحلة الأندلسية ثلاثة مجلدات، وغزوات العرب في فرنسا وإيطاليا وسويسرا وغير ذلك من الكتب والمؤلفات المتنوعة. وتتجلى رحلة الحج من خلال رؤية الرحالة حيث شكلت ولا تزال تشكل حتى اليوم خير خدمة للتاريخ والجغرافيا معاً حيث تضيف الكثير من المعلومات والأحداث وتقدم وصفاً للأماكن والشخصيات وانطباعات شخصية عن الجوانب الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية والحضارية للمناطق التي تشملها تلك الرحلات.

وقد استهل الحديث عن رحلته إلى الحج الأمير شكيب أرسلان حيث انطلق من السويس إلى جدة وأخذ في وصف الرحلة ووصف الإحرام والتلبية وأطلق العنان لقلمه قائلاً:

فصلنا من ميناء السويس في 8 مايو على باخرة تقل نحواً من 1300 حاج من إخواننا المصريين، وفيهم بعض المغاربة، فسارت بنا الباخرة رهواً ورخاء لم نشعر فيها إلى جدة بأدنى حركة للبحر تزعج الراكب، وإنما كان المزعج هو اكتظاظ السفينة بالراكبين حتى لا يقدر أحد أن يمر من شدة الزحام.

وفي اليوم الثالث من مسيرنا ناوحنا ميناء رابغ، ولما كان الحجيج الوارد من الشمال في البحر الأحمر عليه أن يحرم من رابغ فقد أحرم جميع الحجاج الذين في الباخرة، وارتفعت الأصوات من كل جهة «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك «فاستشعر الناس من الخشوع في أثناء ضجيج الحجيج هذا ما اتصل بأعمال القلوب، وتغلغل في سرائر النفوس، وأحس الجميع أن البيت الذي يخلع الناس تعظيماً له أثوابهم قبل الوقوف بعتبته بمسيرة يومين، ويشتملون في القصد إليه ما ليس فيه شيء من المخيط، لبيت مقدس، لا يؤمه الناس كما يؤمون سائر البيوت، وأنه فوق بيوت الملوك، وفوق مقاصر القياصرة، وأواوين الأكاسرة، التي لا يحرم في الطريق إليها أحد لا من بعيد ولا من قريب.

وما زال الناس مستشعرين الخشوع تلك الليلة، مواظبين على التلبية، مترقبين طلوع الفجر الذي يدنيهم من جدة، ميناء البيت العظيم الذي يؤمونه، إلى أن انفلق الصبح، وأخذت تبدو جبال الحجاز للعين المجردة، فارتفعت الأصوات بالتهليل والتسبيح والتكبير، وازداد ضجيج التلبية للعلي الكبير، وخالط الهيبة والخشوع والقدوم على البيت الحرام، الفرح والابتهاج بالوصول إلى أطهر بقعة وأقدس مرام، ولم تكن ترى إلا عيوناً شاخصة، ولا تحس إلا قلوباً راقصة، والجميع متطلعون إلى سواحل الحجاز منتظرين ببالغ الصبر أن يقبلوا على جدة. فلما كان ضحى اليوم الرابع من ذي الحجة دخلت الباخرة مرسى جدة، لكن بتؤدة عظيمة لما في هذا المرسى من الجبال والصخور التي تكاد رؤوسها تبرز من تحت لجج البحر وإذا بخمس عشرة باخرة راسيات في ذلك الميناء على أبعاد متفاوتة من البر.

ثم استرسل في وصف جدة وغرابة ألوان بحرها قائلاً:

ولقد طاب لي من ميناء جدة منظران لا يزالان إلى الآن منقوشين في لوح خاطري، (أحدهما) رؤية هذه البواخر الواقفة في الميناء ناطقة بلسان حالها: إنه وإن كانت هذه السواحل قفاراً لا تستحق أن ترفأ إليها البوارج ولا السفن فإن وراءها من المعنوي أمراً عظيماً، ومقصدا كريماً، هذه البواخر الكثيرة ماثلة أمام جدة من أجله، ثلاثون باخرة وأربعون باخرة، وقد يبلغ عدد الراسي فيها إلى خمسين باخرة، حتى يعود البحر هناك غابا أشباً، وتظن نفسك في هامبروغ أو نيويورك.

وأما (المنظر الثاني) فهو منظر مياه هذا الميناء، فلقد طفت كثيراً من البحار وعرفت أكثر البحر المتوسط والبحر الأسود وبحر البلطيك وبحر المانش والأوقيانوس الاطلانتيك، ولم يقع بصري على شيء يشبه مياه بحر جدة في البهاء واللمعان. كانت كيفما نظرت يمنة أو يسرة أشاهد خطوطاً طويلة عريضة في البحر أشبه بقوس قزح في تعدد الألوان، وتألق الأنوار، من أحمر وأزرق وبنفسجي وعنابي وبرتقالي وأخضر إلخ. ولا فرق بين هذه الخطوط وبين قوس قزح سوى أن هذه الخطوط مستقيمة، وإن هذه في السماء، وهاتيك في الماء.

ويواصل حديثه عن ميناء جدة الذي شد انتباهه قائلاً:

قضيت العجب من هذا المنظر وقلت: إن مثل هذا الميناء لا تمله النواظر، ولا تشبهه المناظر، مهما كانت نواظر. ثم سألت ربان الباخرة- وهي من البواخر الهندية ربانها إنكليزي- عما كان رأى هذا المنظر في بحر آخر وقلت له: إني جلت كثيراً في الدنيا، ورأيت أبحراً وبحيرات وأنهاراً لا تحصى، ولم أعهد مسرح لمحة على سطح ماء يحاكي في البهاء هذا الميناء. وقيل لي فيما بعد أن ملوحة البحر الأحمر زائدة، وإن هذه الملوحة هي السبب في تكوُّن هذه الشعاب التي تكثر في هذا البحر وتجعل مسالكه خطرة، وإن هذه الشعاب تنمو وتعلو حتى تقارب سطح الماء، ومنها ما يبرز عن سطح الماء فيكوّن جزيرة. وإن هذه الشعاب متكونة من أعشاب وحيوانات بحرية من طبقة الأسفنج، وهي ذوات ألوان شتى كلها ناصع، ومنها ما هو أحمر ساطع، ومنها ما هو أخضر ناضر، ومنها ما هو أصفر فاقع، ومها ما هو دون ذلك، وهي في غاية الجمال، ومن أبهى ما يوضع في أبهاء القصور للزينة.

قالوا: وإن آمن مرسى في الحجاز مرسى رابغ، ذلك لعمق غوره وقلة شعابه.

شعرت في الحجاز أني تظللني راية عربية محضة حقيقية، لا راية مشوبة بشعار أجنبي.

وأحمد الله على بقاء هذه الجزيرة تحت سلطان أهلها دون سواهم، ولا تعرف شيئاً من الامتيازات الأجنبية التي تكاد تغرق في لججها الأمم التي تحت الوصاية، سوى مملكة ابن سعود خاضعة للشريعة الإسلامية بجميع أحكامها.

وإذا كان أدب الرحلات من أمتع الفنون الأدبية وأقربها إلى النفس فإن أدب الحج قد كسب مجموعة من الكتب الجيدة لبعض مشاهير الأدباء والكتاب حيث استأثر باهتمامهم وضمنوها انطباعاتهم التي تقدم أدق المعلومات الجغرافية والتاريخية والأدبية ومنهم صاحب هذه الرحلة الذي يواصل حديثه حيث يقص علينا شيئاً من مشاهداته وانطباعاته قائلاً:

ثم شاهدت جلالة ملك هذه الديار وخادم الحرمين الشريفين عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، وكان في جدة ذلك اليوم، فوجدت فيه الملك الأشم الأصيد، الذي تلوح سيماء البطولة على وجهه، والعاهل الصنديد الأنجد الذي كأنما قد ثوب استقلال العرب الحقيقي على قده، فحمد الله على أن عيني رأت فوق ما أذني سمعت، وتفاءلت خيراً في مستقبل هذه الأمة.

ركبت بدعوة جلالة الملك عبدالعزيز إلى يساره في السيارة، وسرنا بمعيته مساء يوم وصولي، وذلك إلى البلد الأمين حماه رب العالمين.

ولم أجد الحرارة في جدة فوق ما تتحمله النفس حتى نفس الذي لم يتعود الحر، بل هواء البحر يرطب جو جدة ويخفف من سموم الصحراء، وذلك بخلاف مكة التي حرها شديد.

ثم أخذ بعد ذلك في وصف الطريق من جدة إلى مكة قائلاً:

فأما الطريق من جدة إلى مكة في هذا الفصل فليس فيها ما يسرح به النظر في مؤنق أو ناضر. فلا ترى من أولها إلى ما يقارب آخرها غصناً أخضر يلوح، ولا رقعة بقدر الكف خضراء. ولا يكاد يقع بصرك من الجانبين إلا على رمال محرقة وعلى آكام وأهاضيب أكثرها من الحجارة السود كأنها من بقايا البراكين.

وكانت قوافل الحجاج من جدة إلى مكة خيطا غير منقطع والجمال تتهادى تحت الشقادف، وكثيراً ما تضيق بها السبيل على رحبها، وكان الملك- أيده الله- من شدة إشفاقه على الحاج وعلى الرعية لا يرفع نظره دقيقة عن القوافل والسوابل ولا يفتأ ينتهر سائق سيارته كلما ساقها بعجلة قائلاً له: تريد أن تذبح الناس.

وكل هذا لشدة خوفه أن تمس سيارته شقدفا أو تؤذي جملا أو جمالا، وهكذا شأن الراعي البر الرؤوف برعيته، الذي وجدانه معمور بمعرفة واجباته.

ومازلنا نسير حتى دخلنا حدود مكة التي يحرم فيها الصيد فالمسافة بالسيارة لا تتجاوز أربع ساعات، وبعد ذلك وصلنا وصرنا بين البيوت، فعلمنا أننا تشرفنا بدخول البلدة التي تشرفت بمولد محمد سيد الوجود، وبالبيت الذي طهره إبراهيم وإسماعيل للطائفين والعاكفين والركع السجود، فقصدنا توا إلى البيت الحرام حيث طفنا وسعينا، وجأرنا ودعونا، والله يتقبل الدعاء ويغفر الذنوب في ذلك المقام الكريم {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (53) سورة الزمر.

وبعد ذلك أخذ يتحدث عن مكة المكرمة ويواصل حديثه عنها قائلاً:

(صفتها الحسية، ومكانتها المعنوية، وكعبتها البهية، وهوى القلوب ليها من جميع البرية، ورزقها من جميع الأغذية والثمرات، استجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام).

مكة هذه البلدة المقدسة التي هي فردوس العبادة في الأرض وجنة الدنيا المعنية، عبارة عن واد ضيق ذي شعاب متعرجة، تحيط بذلك الوادي جبال جرداء صخرية صماء.

ثم أخذ يتحدث عن روعة موقف عرفات العام ومواكب الحج فيها، ووصف ابن جبير الأندلسي لها في القرن السادس)، ويواصل الحديث قائلاً:

ما أنس لا أنس منظر عرفات ليلا. فهو من أبهج ما ارتسم في خاطري من مناظر هذه الدنيا الفانية مع كثرة ما شاهدت في حياتي وما تقلبت في الأمصار والعواصم.

وفي هذه الأجواء المفعمة بالعبق الإيماني.

يصف الصعود إلى عرفة والعودة إلى منى قائلاً:

ثم أفضنا مع لحجاج الكرام عائدين إلى منى حيث بتنا ليلتين لقضاء المناسك، فما رجعت إلى مكة وقضيت المناسك إلا وكنت مريضاً جد مريض. ولم يثقل علي ذلك لأن الحج الشريف تطهير وتمحيص، فرجوت أن يكون المولى سبحانه قد غفر لي ذنوبي الكثيرة التي يستحق تمحيصها أكثر من هذه الأوصاب. والله غفور رحيم.

وهكذا تتجلى رحلة الحج من خلال رؤية الرحالة حيث أطلق رحالتنا لقلمه العنان يسترسل في وصف الأماكن المقدسة وتاريخها وآثارها ومناسك الحج وما قاله الرحالة القدامى عنها، وتأتي أهمية هذه الرحلة حيث إن كاتبها يكتب عن ثقافة وخبرة ويعبر عن فهم وتجربة، وقد التقى في رحلته هذه بالملك عبدالعزيز- رحمه الله- من قرب وعرفه ومعرفة وثيقة وأثنى عليه وعلى جهوده وعبقريته وخدمته للإسلام والمسلمين وجهوده في إحياء التراث السلفي ونشر المعرفة الدينية الصحيحة إلى غير ذلك من أياديه البيضاء على العلم والعلماء -لقد نهج في كتابه رحلته منهجاً قصصياً شيقاً وخصص صفحات للحديث عن الكعبة ومكة المكرمة وتاريخ المسجد الحرام والمشاعر الحرام، ووصف ذلك وصفا رائعاً ووصف جدة حيث لفت انتباهه غرابة لون مياه بحرها وأقام طيلة بقائه في جدة في منزل السيد حافظ وهبة، وأورد حكايات وقصصا وأحاديث شيقة عن شعوره نحو هذه البلاد المملكة العربية السعودية حيث يقول قد حماها الله من الأجانب والاستعمار، كما تحدث عن عين زبيدة وأهمية المياه وعن المطوفين وهو في كل مناسبة يعلن دعوته لحكومات الدولة الإسلامية بوجوب توعية الحجاج والاعتناء بأمر الحج، ثم انتقل بعد ذلك للحديث عن الطائف تاريخها وأعلامها وعن سوق عكاظ وأهمية هذه الرحلة تكمن في كون المؤلف من المؤرخين المدققين في مالحظاتهم لذا جاءت رحلته إلى الحج مليئة بالفوائد الأدبية ومفعمة بالفرائد التاريخية والتحقيقات الاجتماعية، وبذلك يكون صورة تاريخية معينة عن هذه الأماكن التي تضم أطهر وأشرف البقاع الذي في أجوائها ترتفع دعوات كل المسلمين وتتجه إليها أنظارهم خمس مرات في اليوم ويتلهفون شوقاً إلى زيارتها وتأدية مناسك الحج. في أجواء مفعمة بالإيمان والأمن والاطمئنان وعامرة بشتى أنواع الخدمات التي تلبي كافة احتياجاتهم وتطلعاتهم في أطهر البقاع وينعموا بالنفحات الروحية في أطيب جوار بقرب بيت الله الحرام -حقق الله الآمال وهو الموفق والمستعان.

*** ***

المصدر:

الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف: شكيب أرسلان

عضو الجمعية العلمية السعودية للغة العربية

 
مقالات أخرى للكاتب