Saturday 12/10/2013 Issue 14989 السبت 07 ذو الحجة 1434 العدد
12-10-2013

مع البحتري.. أمام بركة المتوكل

يقول البحتري في وصف بركة الخليفة المتوكل:

يَا مَن رَأَى البركة الحسناءَ رؤيتُها

والآنساتِ إذا لاحَت مغانيها

بحَسبها أنها في فضل رُتبتها

تُعدُّ واحدةً والبحر ثانيها

ما بال دجلةَ كالغيرى تنافسُها

في الحسن طوراً، وأطواراً تباهيها

تنصبُّ فيها وفودُ الماء مُعجِلةً

كالخيلِ خَارِجةً مِن حبلِ مُجريها

كَأنَّما الفضَّةُ البيضاءُ سائلةً

مِن السبائكِ تجري في مجاريها

إذا النجومُ تراءت في جوانبها

ليلاً حسبتَ سماءً رُكّبت فيها

لا يبلغُ السمكُ المحصورُ غايتَها

لبُعد ما بينَ قاصيها ودانيها

هذه قطعة فريدة من قصيدة طويلة لشاعرنا الشهير (البحتري) يمدح فيها الخليفة المتوكل، وهي قصيدة من أشهر قصائده التي خلّدها لنا التاريخ، وهو في هذا النص المتميز يصف بركة المتوكل مستعيناً بلغته الصافية، وأسلوبه البديع، ورؤيته الخلابة المتآزرة مع خياله الخصب، خصوصاً حين يكون في مقام الوصف، وسأحاول في هذه السطر أن أقف وقفات موجزة أسعى من خلالها إلى استكناه مواطن الجمال والإبداع في هذا النص لعلنا ندرك شيئاً من أسرار خلوده وتميزه.

يُلحظ ابتداءً أنَّ الشاعر يختار البحر البسيط إيقاعاً لهذا النص، وهو بحرٌ معروفٌ بطوله ونغمه السريع المتوازن مما يتسق مع غرض الوصف هنا، ويفتتح الشاعر هذا النص الوصفي بنداء إلى كل من ابتسمت له الفرصة فاستطاع أن يلقي نظرةً على هذه البركة العجيبة، هذه البركة التي بلغت الغاية في الحسن والجمال، وهو للوهلة الأولى ينتقي ألفاظاً تُشعِر السامعَ بالجمال والروعة والبهاء، ولعلك تلحظ ذلك في إيحاء الكلمات: (الحسناء)، (الآنسات)، (مغانيها)، مما يجعل السامع في كامل استعداده لتلقي الأوصاف البديعة التي تتصف بها هذه البركة المتميزة.

ونجد البحتري بعد ذلك يعقد مقارنةً بين هذه البركة والبحر، ذلك المكان الرحب الواسع المترامي الأطراف، ويؤكد خلال ذلك تفوق بركة المتوكل في هذه المقارنة، فالبحر يحتل الرتبة الثانية إذا ما قورن معها، ويُعزِّز ذلك التفوق في تصوير مشهد آخر يفتتحه بتساؤل متعجب عن السرِّ الذي يجعل (دجلة) - وهي تحترق غَيرةً - تحاول أن تنافس هذه البركة الرائعة في الحسن والجمال والبهاء، فتغلبها في كل ذلك، وهو تساؤل يُقصد منه الإشارة إلى شدة جمال هذه البركة وروعتها إلى الدرجة التي أصبح معها نهر دجلة غيوراً منها يود أن يغلبها في مسابقة الحسن والجمال فلا يجد إلى ذلك سبيلاً.

وينتقل الشاعر بعد تلك المقارنات الملتهبة بين هذه البركة ومنافسيها إلى مشهد الماء الخارج منها وهو ينساب في صفاء وجمال، فيحشد أروع أساليب التشبيه والتجسيد لإيصال هذا المشهد إلى المتلقي الذي ينتظر شوقاً براعة البحتري في دقة الوصف والتمثيل، ويتحفنا لأجل ذلك بتشبيهين من أروع تشبيهات الأدب العربي وأدقها في صفة الماء المنساب من وسط هذه البركة المتألقة.

ويمهد الشاعر لذلك الانتقال التصويري بتجسيدٍ حسي متميز، فيُجسِّد هذا الماء المنصب ويُشخِّصهُ متخيلاً أنه مجموعة من الرجال شكَّلت وفوداً متزاحمةً كثيرة، متوجهةً إلى مكان معين في سرعةٍ وعجلةٍ وتدافعٍ منتظمٍ عجيب، فهذا المشهد يشبه مشهداً آخر وقر في ذهن البحتري وهو ينظر إلى هذا التدافع والانصباب العجيبين، إنه مشهد الخيل وهي تخرج مندفعةً مسرعةً بعد أن أطلقها من كان يقيدها، وهو تشبيهٌ يتماهى مع البيئة ويتسق تمام الاتساق مع هذا المشهد الحاضر أمامه.

ولا يقتنع مبدعنا بهذا التشبيه فقط، بل نراه يعيد النظر مرة أخرى إلى هذه المياه المتدفقة ويلحظ فيها جانباً آخر من الروعة الجمال، وهو جانب اللون الذي رآه أبيض كالفضة البيضاء وهي تسيل - بكل جمال ورقة وانسياب - من السبائك، وتجري في المكان المحدد لها بانتظام عجيب وترتيب باهر.

ولا يكتفي البحتري بوصف هذه البركة العجيبة صباحاً، بل يتجاوز ذلك إلى الكشف عن مشهد مسائي متميز، تتألق معه هذه البركة لتبهر الأبصار وتأخذ بمجامع القلوب، ففي الليل حين تتناثر النجوم في السماء تنعكس هذه الأجرام على صفحة الماء في البركة، فيتكون مشهدٌ رائع، حتى ليُخيَّل إلى المشاهد أنَّ السماء قد رُكِّبت فيها، وهذا تصوير بديع يوحي بالصفاء والنقاء الذي يتميز به ماء هذه البركة.

ثم ينقلنا الشاعر إلى جانب آخر من وصف هذه البركة التي نالت إعجابه فحشد لها لغته الباهرة وأساليبه المتقنة لإيصال صورتها حيةً واضحةً إلى المتلقي الذي يكاد يستحضر هذه المشاهد الرائعة أمامه فيقف على أعتاب هذه البركة الواسعة المترامية الأطراف التي يكشف البحتري عن مدى اتساعها بعدم مقدرة السمك على بلوغ نهايتها، وهذا يفصح عن الاتساع الهائل الذي يتفرد به حجم هذه البركة، مما يجعلها جامعةً بين العظمة والجمال والروعة والصفاء.

وبعد هذه الرحلة الماتعة القصيرة.. في فضاءات نصٍّ قصير من نصوص أدبنا العربي الرائع.. ينبغي علينا أن نعيد النظر كرَّةً أخرى إلى هذا النص المتميز.. ونحاول استكناه أسباب جماله وروعته.. وأسرار خلوده وترديده.. وهذا يجعلنا نقف عدة وقفات يسيرة موجزة.. لنلقي الضوء على أبرز هذه الأسباب.. وأهم تلك الأسرار:

1 - اللغة المتميزة التي يتعامل معها البحتري في هذا النص، ويتضح هذا في استخدامه للألفاظ التي كونت هذا الوصف المتألق، وتماهت مع الإعجاب الذي انتاب الشاعر حين وقع بصره على هذه البركة، تأمل الألفاظ: (الحسناء)، (الآنسات)، (مغانيها)، (تباهيها)، أضف إلى ذلك اعتماده على الألفاظ البسيطة السهلة المفهومة وابتعاده عن الألفاظ الوحشية الغريبة التي لا تتناسب مع هذا المقام.

2 - الأسلوب التصويري المتميز الذي يُعرف به البحتري، فقد حشد هنا كل مقدرته الفنية والتصويرية لإخراج هذه المشاهد بالشكل الفني المطلوب، وقد اعتمد في ذلك على التشبيه ليقينه أنه الأسلوب المثل في التصوير، وهو يستثمر هذه التشبيهات في إظهار جمال البركة وروعتها من جميع الجوانب، تأمل تشبيهه وفود الماء وهي تنصب مسرعة بالخيل الجارية، وتشبيهه الماء المتدفق بالفضة البيضاء السائلة من السبائك.

3 - التجسيد والتخييل الذي يعمد إليه الشاعر لإضافة الإبهار والتألق في بعض المشاهد، فانصباب الماء بسرعة أضحى كتدافع الوفود المستعجلة، وانعكاس النجوم في صفحة الماء ليلاً يجعل الناظر يتخيل السماء مركبةً وسط البركة.

4 - تعدد زوايا نظر للبحتري ومحاولته وصف البركة من جميع جوانبها وإظهار كل محاسنها، فهو في البدء يفصح عن حسنها وجمالها المجرد، ثم يصف اندفاع الماء وسرعته في الخروج منها، ويلفت النظر إلى لون هذا الماء وصفائه من جهة أخرى، ثم في مشهد ليلي يصف انعكاس النجوم في صفحة هذه البركة، ولا يغض النظر عن مدى اتساعها وعظم حجمها.

5 - اختلاف الوسائل التي اعتمد عليها الشاعر في إبراز جمال البركة، فهو حيناً يصفها بالحسن والروعة مباشرة، وحيناً عن طريق عقد مقارنة بينها وبين غيرها لإظهار فضلها، وحيناً بوصف جزء من أجزائها، وحيناً في تغيير الوقت الذي يمكن أن يظهر معه جمال وصفاء لا يظهر في وقت آخر.

6 - التنويع في الأساليب والتراكيب، فهو لا يكتفي بأسلوب واحد ربما ملَّ منه السامع، لذا نجد أسلوب النداء (يا من رأى) وأسلوب الخبر المباشر (تنصب فيها..) وأسلوب الاستفهام التعجبي: (ما بال دجلة)، وأسلوب التشبيه: (كأنما الفضة)، وأسلوب الشرط: (إذا النجوم تراءت..)، وأسلوب النفي: (لا يبلغ السمك)، وهو يستثمر هذه الأساليب بشكل رائع لخدمة غرضه الرئيس من النص وهو إظهار حسن هذه البركة وبيان دقة صنعها وبنائها.

7 - استخدامه للمحسنات البديعية التي أضافت إلى النص جمالاً فوق جماله، فنلحظ الجناس بين (مجريها) و(مجاريها)، والطباق بين (قاصيها ودانيها)، وقد جاءت متناغمةً مع السياق ومتسقةً مع الجو العام للنص.

وختاماً.. فهذه هي بركة المتوكل.. وهذه هي عدسة البحتري العجيبة التي استطاعت أن تلتقط لنا صوراً من مشهدٍ نال إعجابه.. وحظي بوصفه وإبداعه.. فأثمر كل ذلك عن نص متميز.. استوفى كثيراً من مواطن الجمال.. ومشاهد التألق.. فكان أن خلّده التاريخ في صفحاته الخالدة.. وبقي متجدداً ساحراً.. ما زالت الأجيال تحفظه وتردده.. مستمتعةً في كل مرة.. بلغته وأسلوبه.. وتصويره الفني.. وإبداعه الشائق.

Omar1401@gmail.com

 
مقالات أخرى للكاتب