Saturday 19/10/2013 Issue 14996 السبت 14 ذو الحجة 1434 العدد
19-10-2013

الفلوس تغير النفوس!

كان «ف» شابا معدما ترعرع في أسرة فقيرة تعيش على الكفاف، عائلها رجل طيب نزيه عفيف، نشأ «ف» محتملا شيئا كثيرا من واجبات هذه العائلة المكونة من ثمانية أفراد، كان الواقف أبدا في دكان والده الذي يبيع الأرز والطحين والزيوت وغيرها، أنهى المرحلة الثانوية ورحل إلى الرياض ليواصل دراسته الجامعية؛ وليس في يده ريال واحد، وليس تحت قدمه سوى سيارة «هايلكس» تطلق أبخرة من الدخان حين تنطلق بعد أن نجتمع نحن الصبية الصغار حولها ويطلب منا العون بدفها دفا سريعا إلى أن تشتغل وتنطلق بعيدا عنا راحلة بصاحبها في غربته الشاقة الصعبة المغامرة إلى الرياض؛ ذلك الاغتراب المشوق المثير الذي كان الشبان يتحدثون عن نماذج من أبناء القرية ممن غامروا من قبل وكان لهم ما كان من شأن، وتحقق لهم ما تحقق من وظيفة وغنى وجاه!

لقد كان الرحيل إلى الرياض مدينة الحظوظ والمستقبل وعاصمة التحضر والحداثة والجامعة والوظائف والمال والزحام والمتاجر الكبيرة والأسواق العامرة بكل جديد حلما يداعب كل شاب طموح، وها هو الشاب الفقير المعدم « ف « يلتحق بركب الراحلين المغامرين الذي تركوا أهاليهم وبيوتهم وحقولهم ودكاكينهم الصغيرة شبه الخاوية يرحلون إلى المستقبل!

شخصية « ف « تتسم بكثير من التهذيب والروح الاجتماعية وشيء غير قليل من التزمت الديني، ووجد نفسه يشق طريقه في الجامعة في الدراسات الشرعية بعد أن سكن مع نفر ممن هم على شاكلته في الفاقة والحاجة في حي شعبي من أحياء الرياض الطينية الرخيصة، ولم تمض سوى سنوات أربع مرت بكل أثقال حاجتها وبؤسها وصبرها وندرة ريالاتها إلا ووجد « ف « نفسه يحط في وظيفة ما من وظائف الدولة وفي منطقة ما من مناطق المملكة، ولم يصدق الشاب البائس المتلهف للحياة ولبضع مئات من الريالات مرتبا لوظيفته الجديدة؛ لم يصدق أن هذا الخطاب الذي صور منه عشرات النسخ يقضي بأن يكون موظفا في تلك المصلحة من مصالح الحكومة؛ ففتح عينيه من خلال هذه الوظيفة بدفاترها ووثائقها وما يباع ويشترى وما يصرف وما يبقى على كيف يعبر المال طريقه إلى الحسابات الخاصة، وكيف يأتي إليه أصحاب الأموال من كبار التجار يطمعون في صلته وإكرامه لينجز لهم مصالحهم؛ وهكذا انقلب حاله فجأة من الفاقة والعوز إلى الغنى المفرط؛ ولم يعد يعرف كيف يوازن علاقاته القديمة والجديدة ولا يعلم كيف له أن يحافظ على سبل تدفق الأموال إلى حسابه الناشئ بإرضاء « الكبار « ممن يسعون إليه لتحقيق مصالحهم؛ وهو في غمرة هذه السنوات الرخية الرضية التي لم يصدقها إلى هذه اللحظة التي محت ما مضى من سني عمره الأولى؛ نسي ذلك الفصل المر الذي عاشه أو حاول وغالط نفسه لينسى تلك المرحلة البائسة من حياته؛ حين كان يفلح أرض بستانهم الصغير، أو يحمل على كتفيه الصغيرتين أثقال بضائع دكان والده، أو بعد أن تيسر لأبيه شراء سيارة « تترتر « ولا تريد أن تنهض من نومها الثقيل إلا بدف عشرة من شبان الحي المترب!

نسي أو تناسى كل ذلك الفصل المرير الطويل وأصبح فجأة الشيخ « ف « الذي لا يمكن أن يلقى أحدا أبدا من أصحابه الفقراء القدامى، ولا أن يتحدث إلى أحد ممن عاش معه غربته أو ساكنه أو شاركه في مرحلته الأولى الثانوية أو الجامعة!

أصبح الشيخ « ف « الذي يملك المخططات المسورة المدورة، وعشرات الحسابات المتنوعة بأفضل العملات الدولية، ولا يزور أو يزار إلا ممن ماثله؛ فكيف يحن أو يتذكر أو يتعرف على أصدقاء سنين الفاقة؛ أيمكن أن يدع أصحاب القصور إلى ساكني القبور؟!

هكذا كان يقول الشيخ « ف « لخلص مخالطيه الكبار ضاحكا!

moh.alowain@gmail.com

mALowein@

 
مقالات أخرى للكاتب