Saturday 26/10/2013 Issue 15003 السبت 21 ذو الحجة 1434 العدد
26-10-2013

عن عملية التطور وخطر الوصاية

التطور عملية دائمة وهي سنة الله فوق الأرض منذ أن خلق آدم إلى أن تقوم الساعة، وتكون نتائجها قابلة للتنبؤ في الكثير من الأحيان؛ وهاهو تشارلز داروين (1809-1882) يخلص إلى أن أقوى أنواع المخلوقات وأكثرها

ذكاء ليست هي التي نجت من التغيرات الكبيرة التي حدثت طيلة التاريخ، وإنما هي تلك التي استطاعت أن تتكيف مع الظروف المتغيرة؛ ورغم رفضنا ورفض العديد للدروينية الاجتماعية، فإن نظرياته تبقى مفيدة عند البعض في مجال التحليل الاقتصادي؛ فالبقاء في عالم مُعولم هو القدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة والمتقلبة ونفس الشيء في المجال السياسي فالبقاء لمن يستطيع أن يتكيف مع التغيرات والتطورات السريعة.

وإلا لماذا انهارت الاشتراكية مثلا؟ لأنها لم تستطع على حد تعبير ججيجوش كوودكو التكيف مع المرحلة المعاصرة للثورة العلمية والثقافية؛ وتفاقم هذا الوضع بفعل عدة ظواهر وعمليات أخرى بما فيها حالات العجز الكبيرة في حجم العرض، بالإضافة إلى عوامل ذات طبيعة سياسية أو دولية.... ثم لماذا انهارت أنظمة مثل نظام القذافي وابن علي؟ لأنها لم تستطع التكيف مع متطلبات عصر تغير فيه كل شيء، كما تجاهلت قواعد السياسة وطبائع الأجيال والموجودات وأهملت تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام؛ وهاته المسألة كما يقول ابن خلدون (داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، وإنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال؛ وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، يقع في الاَفاق والأقطار والأزمنة والدول، سنة الله التي قد خلت في عباده...).

ثم إنه في المجال الاقتصادي يكون النظر إلى الماضي وفهم الآليات المميزة للمسار التاريخي الاقتصادي أمرا في غاية الأهمية، وهو يبين لنا مثلا أن التنمية الاقتصادية تكون طويلة الأمد إذا اجتمعت خمسة عوامل:

1) التقدم التكنولوجي 2) سيادة الفكر النقدي والإبداع على الجزم المتشدد في الثقافة والاقتصاد 3) الوعي الاقتصادي والقدرة على تنظيم عملية توسع الإنتاج والتبادل 4) الإرادة السياسية من جانب الحكام لتنفيذ إصلاحات مؤسسية ضرورية تحرر طاقة البشر وروح المبادرة للعمل الحر وتوجههم صوب الابتكار 5) وأخيرا الانفتاح على العلاقات الخارجية مما يتيح ممارسة تبادل أوسع نطاق لا يقتصر على تبادل السلع فحسب بل يشمل تبادل المعرفة والمعلومات والثقافة أيضا، والاقتصادات القوية هي التي كانت تحافظ على هاته القواعد الخمسة وتتكيف ابتداء منها بعد كل أزمة أو ركود لأن الأساس متين والقاعدة مهيأة لمقاومة أي زلزال، وعندما كانت تغيب واحدة من هاته العوامل كان الاقتصاد ينمو ببطء شديد أولا ينمو على الإطلاق، ولا يستطيع التكيف هنا أن يكون له مكان.

فالمهم أن تكون لديك نظرية صحيحة وأن تعرف السبب وراء كون الأشياء على النمو الذي تراها عليه؛ ولتأخذ جانب الفن مثلا وجانب الرسم بالضبط، فنحن لا نصف ما نراه بقدر ما ندركه، فهاهو ألبرخت دورر (1471-1528) - أبرز رموز عصر النهضة في ألمانيا - كان بارعا في رسم كل ما وقعت عليه عيناه حيث إنه رسم حيوان الكركدن أو وحيد القرن دون أن يراه، إلا أن رسوماته مكنت من إيضاح دروس الحيوان إلى بداية الحرب العالمية الثانية، ونفس الشيء يقال عن الكثير من الفنانين الألمان الذين تمتعوا بخلفيات تقنية.

فالويل في هذا الزمن لمن لم يتكيف مع التغيرات السريعة؛ فإذا كان الزمن الفيزيائي يمضي بنفس الطريقة التي كان يمضي بها منذ ألف أو عشرة آلاف سنة مضت، فإن وقع دقات الساعة الاقتصادية صارت أسرع بكثير مما كانت عليه منذ قرن، كما أن وقع دقات الساعة السياسية صارت أسرع بكثير مما كانت عليه منذ عقد واحد مضى، فالوقت يتبخر بسرعة البرق اقتصاديا وسياسيا... فالعلة مثلا ليست علة صناديق الاقتراع في دول كتونس ومصر ولا حتى علة الدولة وإنما هي علة الوعي السياسي المتخلف؛ فلم يستبطن الخاص والعام فكرة السياسية الحقيقية وفكرة المجال السياسي العام... تلك الدول تعيش مخاضا عسيرا، تهزها أرواح زكية وأخرى مريضة، ولن تجدر رطبا جنيا إلا في فهم معنى السلطة والدولة ومؤسساتها وعدم إدراجها من جديد في استئثار فئوي من نوع جديد، وهي تلك الوصاية التي يظن صاحبها أنه أهل لها، وأن غيره لن يستطيع القيام بذلك وهنا نصبح مع نزعة شمولية إما مضمرة أو واضحة، وأخطرها أن تكون مضمرة لأنه يصعب محاربتها في الحلبة السياسية.

ونستحضر هنا ما كان قد أكده الملك عبد الله بن عبد العزيز في كلمة له إلى مواطني المملكة والمسلمين بمناسبة حلول شهر رمضان الماضي أن السعودية “لن تسمح أبدا بأن يستغل الدين لباسا يتوارى خلفه المتطرفون والعابثون والطامحون لمصالحهم الخاصة، متنطعين ومغالين ومسيئين لصورة الإسلام العظيمة بممارساتهم المكشوفة وتأويلاتهم المرفوضة”.واعتبر أن “الإسلام يرفض الفرقة باسم تيار هنا وآخر هناك، وأحزاب مثلها تسير في غياهب ظلمتها (...) ضلت السبيل، والمملكة بذلك تعلن أنها لن تقبل إطلاقا وفي أي حال من الأحوال أن يخرج أحد في بلادنا ممتطيا أو منتميا لأحزاب ما أنزل الله بها من سلطان، لا تقود إلا للنزاع والفشل”، وندد بكل “مؤدلج في فكره مفتون في منهجه لم يسلم من شره أرض ولا حرث ولا نسل”.....

وهذا النوع من الوصاية معضلة كبيرة وخطر ومصيبة آزفة واختلال في النفس واعتلال في العقل كما يكتب احدهم: أن يعتقد شخص ما أو تعتقد عصبة معينة أن لها حق الوصاية على الناس أجمعين- في مجتمعهم الوطني وفي المجتمع العالمي- بحكم الأفضلية.... أو لها بمقتضى ذلك حق فرض ما يعتقدون وإملاء ما يرون على الناس بالقوة والعنف والإرهاب، كما أن لهم الحق في استباحة أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم. إن هذا الفهم العليل والمرض الخطير ظهر في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي في الفاشيات الدكتاتورية التي ظنت لها أفضلية على العالمين، بحكم الجنس أو العنصر أو أمجاد الماضي التليد أو اختيار الله سبحانه. ولقد انتهت هذه الفاشيات الدكتاتورية إلى ما هو محتوم لها بحكم الله ومقدور عليها بسنة الكون، بعد أن دمرت البلاد وقتلت العباد وخربت كل شيء. وإن دكتاتورية فاشية باسم الدين لهي أشد نكرا وأسوأ مصيرا. إن من يعتقد أن له حق الوصاية على الناس أجمعين ويداه - بطبيعة الحال - فراغ من أي دليل، إلا دليل غيبي في ظنه، هو من نفث الشيطان لا من وحي الرحمن... ومن يعتقد مثل هذا الحق وظروفه - بحكم الواقع - خواء من أي إمكان لتحقيقه إلا وهم بالغ في خياله، هو من أضغاث الأحلام لا من رؤية البصيرة... من يعتقد ذلك وأمره مثل هذا وذاك، خليق بالشفقة حقيق بالعلاج. فلقد كان كل المختلين - حتى وإن وصلوا إلى مقاعد السلطان - يظنون مثل هذا الظن الواهم، ويعتقدون مثل هذا الاعتقاد الخاطئ، ثم أسفر التاريخ عن مصير بشع لأتباعهم وإفلاس بالغ لمعتقداتهم، إنهم حمقى يجهلون ويجهلون أنهم يجهلون، أو كما يقول الحق جلَّ وعلا {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.

مقالات أخرى للكاتب