Saturday 26/10/2013 Issue 15003 السبت 21 ذو الحجة 1434 العدد

حكاية عباد الله العادلون (1)

ياسر حجازي

(1)

هامش قبل المتن: عبادُ الله العادلون ولدوا قبل الإحصاء العام، في تلك السنوات التي ظهر فيها مخلوق بين تمساح وهيئة بشرية، وذهب وراءه حشد كبير من التجّار ورجال الدين والبسطاء ومختلف الطبقات، وابتلعهم جميعاً، ثمّ عاد وتقيّأهم في وسط المدينة وعلى أطرافها.

الحكاية:

كاد أن يخرج من داره لكنّه عدل عن الخروج.

هزّ مقبضا برونزيّا فاخرا على باب خشبيّ تعتّق وشحبَ لونه، فارتجّت مفاصل نحاسيّة وأخرى غضروفيّة متآكلة؛ سرت في دمه الوساوس والهواجس. لم يسأل النّفس: «لم؟»؛ لم يعتد التعقيب أو الاستفسار، عاش ونشأ يهاب الإلحاح.

عدل عن الخروج. لم يدر الأسباب.

عباد الله رجل خمسينيّ على وجه التخمين والتقدير. حينما سألته، ردّ بأناقة: «ربّما خمسين! حينها لم يكن عندنا إحصاء». برقت على وجهه حركة، لست تعلم إن كانت ابتسامة أم ألم.

له امرأة، وولدان: فتاة وفتى. يعمل مرشدا سياحيّا في مكتب طيران.

هوايته: السّفر. وبرامجه المفضّلة: مشاهدة قناة ديسكفري، والوثائقيّة.

ميله السياسيّ: إسلاموي- معتدل. (يبحلق بعينيه عند كلمة معتدل).

* * *

كاد أن يغادر بيت أبيه، لكنّه قبل أن يحرّك السيّارة التي يشترك بها مع أبيه عدل عن مشواره تماما، وألغى موعدا مع امرأة رضيت له أن يمارس معها تجربته الأولى بعد إلحاح شهرين. كانا ينزلا سوق البلد سويّة؛ اشترى لها مرّات عديدة: عطور، «ميك آب»، لم يقدر على الذهب، فمصروفه ما كان على أحلام فريسته. تسارعت في بطنه نغزات شداد كضربات السكاكين، سرعان ما فتح باب السيّارة مسرعا صوب البيت.

عباد الله فتى دون العشرين، يقول: ولدت قبل الإحصاء بعام أو عامين ربّما.

أعزب، له أب طيّب، وتسع أخوات طيّبات.

له درّاجة ناريّة قديمة، وسيّارة مشتركة مع أبيه.

طالب جامعيّ مجتهد، يعمل في أحايين متفرّقة أعمالا لعلّه يساند أباه قدر ما أمكن؛ عمل بتوزيع الصحف، عمل على سيّارة أجرة مع أصدقائه من المطار وإلى الفنادق، كتب بعض المقالات وباعها لرؤساء تحرير، بعض قصائد غنائية مكسورة الوزن اشتراها منه مجموعة من مؤلفي الأغنيات الذائعي الصيت.

هواياته: قراءة الكتب الأجنبيّة، تصفّح النت.

ميوله السيّاسيّ: لا يتدخّل في السياسيّة، لكنّه يقول: يعجبني هدوء الشيخ أسامة بن لادن. (هنا هامش يقتحم المتن: رحمه الله وغفر له عِنْداً بالسافلة المجرمة أمريكا).. (هامش على الهامش: غير معروف من أقحم الهامش: هل كان المؤلّف، أم عباد الله العادلون المولودون قبل الإحصاء العام).

* * *

يلوم نفسه حين تلحّ عليه أن يخرج من البيت.

أما تملّ من قنوات: البي بي سي، الجزيرة، العربية، اليوم، الحرّة، روسيا اليوم، الضرّة، .. أما تدوخ من هذا الهوس الإخباري، وهذه التهم المكرّرة والمؤامرات الساذجة على جميع القنوات؛

أمريكا تدعم الإخوان يقول السيسي، أمريكا تدعم السيسي يقول الإخوان، أمريكا لا تريد إزاحة النظام السوري تقول المعارضة السوريّة من مقرّاتها في فنادق العالم، أمريكا تدعم الإرهاب في سوريّا يقول النظام السوريّ، أمريكا سلّمت العراق للإيرانيين يقول الخليجيون، أمريكا الشيطان الأكبر يقول الملالي في إيران....

لماذا دائماً أمريكا هي المسؤولة عن جميع أمراض هذا الشرق الملعون والممسوس بأمريكا!!

فكّر أن يساير نفسه أهواءها وأن يتوقّف عن السياسة قليلاً ويخرج في نزهة حول البيت أو أبعد قليلا، لكنّه قبل أن يصل إلى باب الخروج يكون قد عدل عن مشواره معتذرا من نفسه، واعدا إيّاها بمشوار آخر.

- متى؟

- حين تفرج

اسمه عباد الله، وهو ما بين الثلاثين والأربعين.

لا نعرف عن حياته الاجتماعيّة أيّ شيء، لم يتعوّد أن يشارك أحداً في أموره؛ يقول أحد جيرانه: (ليس له حياة).

هواياته التي خبّرني عنها: متابعة الأخبار، يدّعي أنّه يحبّ الشطرنج.

ميوله: يقول أنّه ليبرالي، لكنّه كان سعيدا جدّا حين اكتشف أنّ الاسم الأوسط للرئيس الأمريكي إسلاميّ «وذو دلالات شيعيّة وإن لم يكن كما كان يحلّل» ، وراهن على مقاربة بين أمريكا وإيران بسبب الاسم الأوسط.

* * *

بشّر امرأته وعياله أنّ العودة قد حانت، وأنّ في فؤاده عزيمة أن يعود المنفيّ إلى بلده أخيرا.

رتّب أموره جيّدا؛ درس المسألة من جوانب عديدة؛ حجز على أوّل طائرة بعد نهاية المدارس؛ اشترى التّذاكر، وراح يشتري هدايا لأحبابه أجمعين.

ودوّن ما تحتاجه المدينة من هدايا أو هداية: شارعا مسفلتا، مياها نظيفة، عساكر مرور لا يحتقرون الناس ولا يحتقرونهم الناس..دوّن ما تحتاجه المدارس، الجامعات من هدايا أو هداية: مناهج لا تجرّم الآخر، لا تقتله، لا تخرجه من دائرة المواطنة؛ دوّن ما تحتاجه الصّحف، القنوات، دور النّشر، وسائل الإعلام حتّى تكفّ عن التشهير والتكفير، ما تحتاجه الدوائر الحكوميّة حتّى تترفّق بمصالح النّاس، ما يحتاجه رجال الدين لعلّهم يتركون الدّين لله ويكفّون دفاعاً موهوماً فالله غني عن العالمين،...لكنّه ما أن وصل المطار حتّى عدل عـن السفر..وقال: (الغربة وطن إذا كان الوطن غربة)

الاسم عباد الله، من مواليد ما قبل الإحصاء العام.

الهوايات: يتدرّب على العودة كلّ يوم، وميوله السيّاسي: لا تعرف له ملّة ولا ميل.

* * *

من يخرج أوّلاً؟ أو لماذا الخروج؟

- كان يتوجّب عليّ أن أدوّن أسبابا كثيرة تحرّضني على الخروج، هل أقدر أنا أو يقدر (اللابتوب) على استيعاب أسبابي؟ كانّ يتوجّب عليّ أن أدوّن الأسباب الأكثر عنفا وضراوة، تلك الأسباب التي تعيقني من الخروج.

ما أعرفه جيّداً، وكأنّه أُلقي في سمعي وروحي، أنّ شيئاً ما يتحضّر في الخارج، وأنّ في النفس عصمة حذراً من ذاك الحضور الأكول، وأنّ شيئا حاضر في المكوث هنا وقد أوشك حضوره الدامي على الظهور. فأين المفر...؟!

- تُعادُ صياغة الحكاية مرّة أخرى مشفوعة بكلّ الحكايات والأسباب والحجج التي تستفزّ (عباد الله العادلون) على الهجرة، ومشفوعة أيضاً بكلّ تلك الحكايات الجميلات التي تجعلهم يعدلون عن الهجرة ويضطّرون للبقاء مربوطين بالوطن.