Sunday 27/10/2013 Issue 15004 الأحد 22 ذو الحجة 1434 العدد
27-10-2013

عندما أصبح الحصان عضوًا في مجلس الشيوخ..!!

الظلم والغطرسة والتجبُّر والتكبُّر ظواهر قديمة قدم التاريخ، وتتكرر في كل زمان وفي كل مكان ولكن بدرجات وصور مختلفة، وقد لاحظنا في حياتنا المعاصرة صوراً من ذلك في شخصية ستالين، وهتلر، ومعمر القذافي،

وسلوبدان ميلوسوفتش، وشارون، ولعل بشار الأسد وما يفعله في الشعب السوري من أوضح وأكبر الأمثلة الحية أمام أعين العالم اليوم، والغريب أن هؤلاء الجبابرة يجدون حولهم من يبرر جبروتهم وظلمهم وغطرستهم، ويوحي لهم بأنهم صفوة البشر، وأنهم يفهمون ما لا يفهمه غيرهم، وفي كتيب (أشرار التاريخ) لمجدي كامل الكثير من الصور والنماذج لهذه الفئة من البشر الذين انتزعت منهم الإنسانية والشفقة والرحمة، فقد حوى كتيبه حديثاً عن أشهر السفاحين والقتلة واللصوص ومصاصي الدماء، ونورد هنا نموذجاً واحداً عجيباً وغريباً، سيرته أشبه بالخيال، وأفعاله لا يمكن أن تخطر على بال عاقل فضلاً عن زعيم وقائد، ذلكم هو (كاليجولا) ثالث امبراطور روماني ولد في نهاية أغسطس في عام 12 ميلادي ولم يعمر كثيراً إذ إنه اغتيل في 24 يناير 41 م. ويعتبر من أشهر الطغاة إن لم يكن أشهرهم في التاريخ الإنساني، عرف بوحشيته وجنونه وساديته، وله صلة قرابة من ناحية الأم بالإمبراطور الأشهر (نيرون) الذي أحرق روما، واسم كاليجولا الحقيقي هو (جايوس) وتولى حكم روما من عام 37 إلى 41 ميلادية، ولد كاليجولا في (انتيوم) و تربى و نشأ في بيت ملكي و تمت تربيته بين العسكر إعداداً له للحكم واطلقوا عليه هذا الاسم (كاليجولا) ومعناه (الحذاء الروماني) سخرية منه في صغره، وظل يحمل هذا الاسم حتى مصرعه.

كان (كاليجولا) يتفنن في إغاظة الشعوب التي تحكمها روما، فقام ببناء تماثيل عملاقة له في مدينة (القدس)، وقام بنقل بعض الآثار الفرعونية من مصر كمسلة تحتمس الثالث، أما الأكثر شهرة من أفعال هذا الطاغية فهو أنه كانت قد استبدت به فكرة أنه إله على الأرض، ويملك هذا العالم بأسره، يفعل فيه ما يحلو له، حتى أنه سعى في طلب امتلاك القمر، لا لشيء سوى أنه من الأشياء التي لا يملكها..!! و لهذا استبد به الحزن حين عجز عن الحصول عليه، وكثيراً ما كان يبكي عندما يرى أنه برغم كل سلطانه وقوته لا يستطيع أن يجبر الشمس على الشروق من الغرب..!! ولا يستطيع منع موت الكائنات..!! ومن عجائبه وغرائبه أنه فرض السرقة العلنية في روما، وكانت مقصورة عليه فقط، اذ أجبر كل أشراف روما وأفراد الإمبراطورية الأثرياء على حرمان ورثتهم من الميراث، وكتابة وصية بأن تؤول أملاكهم إلى خزانة روما بعد وفاتهم، وبالطبع إلى خزائن (كاليجولا) إذ إنه كان يعتبر نفسه (روما)، وكان في بعض الأحيان يأمر بقتل بعض الأثرياء حسب ترتيب القائمة التي تناسب هواه الشخصي كي ينقل إرثهم سريعاً ..!! و كان يبرر ذلك بعبارة شهيرة جداً (أما أنا فأسرق بصراحة)، ومن عجائبه وغرائبه كذلك أنه ذات مرة خرج على رجاله بخدعة مثَّل فيها أنه يحتضر وأنه سيموت، فبادروا بالإعلان عن دعائهم له بالشفاء، واستعدادهم للتضحية من أجله، وبلغ التهور بأحد رجاله أن دعا قائلاً: (فليأخذ (بوسيدون) -إله البحار عند اليونانيين- روحي فداء لروحه)، وأعلن آخر تبرعه بمئة عملة ذهبية لخزانة الدولة لكي يشفى كاليجولا، وفجأة خرج (كاليجولا) من مخبئه ينبؤهم ويبشرهم أنه لم يمت، ويجبر من قدم وعوداً متهورة على الوفاء بما وعد، فقتل الأول، وأخذ من الثاني مئة عملة ذهبية، وكان وهو يقتل الأول معجباً ومتأثراً بكل هذا الإخلاص..!! كانت عبارته التي يرددها لتبرير وتشريع القتل لنفسه: (أنا إن لم أقتل اشعر بأني وحيد)، والعبارة الأخرى التي كان يرددها: (أنا لا أرتاح إلا بين الموتى)..!! فهاتان العبارتان تبرزان بوضوح تام ملامح الشخصية المريضة لكاليجولا، ومن المضحكات المبكيات المذهلات في حياة هذا الإمبراطور الغريب ما قام به عندما أراد أن يشعر بقوته، وأن كل أمور الحياة بيديه، ورأى أن تاريخ حكمه يخلو من المجاعات والأوبئة، وخشي أن الأجيال القادمة لن تذكره، فأحدث بنفسه مجاعة في روما عندما أغلق مخازن الغلال مستمتعاً بأنهيستطيع أن يجعل كارثة تحل بروما، ويجعل الحياة فيها تقف وتنشل بأمر منه، ومكث يتلذذ برؤية أهالي روما يتعذبون جوعاً، وهو يغلق مخازن الغلال..!! وكان يردد (سأحل أنا محل الطاعون).

أما نهايته فكانت غريبة وعجيبة مثل حياته وأفعاله، فقد ازداد جنونه عن حده، وكان الناس قد ضاقوا به ذرعاً ولكنهم كانوا يبحثون عمن (يعلق الجرس) فجاءت الحادثة الشهيرة التي أدت الى مصرعه في النهاية, إذ دخل كاليجولا مجلس الشيوخ ممتطياً صهوة جواده العزيز (تانتوس) ولما أبدى أحد الأعضاء اعتراضه على هذا السلوك، قال له كاليجولا: (أنا لا ادري لماذا أبدى العضو المحترم اعتراضه على دخول جوادي المحترم رغم أنه أكثر أهمية من العضو المحترم فيكفي أنه يحملني)..!! وكالعادة كان هناك منافقون ومنتفعون من الحاشية هتفوا له وأيدوا ما يقول، فزاد في جنونه وأصدر قراراً بتعيين جواده العزيز عضواً في مجلس الشيوخ..!! هلل بعض الأعضاء لحكمة كاليجولا، في تعبير فج عن النفاق البشري، وانطلق كاليجولا في عبثه الى النهاية، فأعلن عن احتفال بمناسبة تعيين جواده المحترم عضواً في مجلس الشيوخ، وكان لا بد على أعضاء المجلس من حضور الحفل بالملابس الرسمية، وفي يوم الحفل فوجئ الحاضرون أن المأدبة لم يكن بها سوى التبن والشعير..!!! فلما أبدو اندهاشهم، قال لهم كاليجولا: إنه شرف عظيم لهم ان يأكلوا في صحائف ذهبية ما يأكله حصانه. وهكذا أذعن الحضور جميعا لرغبة الطاغية، وأكلوا من التبن والشعير!! إلا واحداً كان يدعى (براكوس) رفض، فغضب عليه كاليجولا وقال: من أنت كي ترفض أن تأكل مما يأكل جوادي؟!! وأصدر قراراً بتنحيته من منصبه وتعيين حصانه في المقعد الذي كان يشغله، وهلل بعض الحاضرين، بأفواه مليئة بالشعير والتبن، وأعلنوا تأييدهم لذلك الجنون، إلا أن العضو الحر (براكوس) قد ثار وصرخ في كاليجولا وفي الأعضاء، وأعلن الثأر لشرفه، وصاح في أعضاء مجلس الشيوخ: إلى متى يا أشراف روما نظل خاضعين لجبروت كاليجولا؟ وقذف حذاءه في وجه حصان كاليجولا، وصرخ: يا أشراف روما افعلوا مثلي، استردوا شرفكم المهان، فبدأت المعركة بالأطباق وبكل شيء يقع تحت أيديهم، وتجمع الأعضاء وبعض أعوانه حتى قضوا عليه، وقتلوا حصانه أيضاً، ولما وصل الخبر الى الشعب خرج مسرعا وحطم جميع تماثيل كاليجولا ومعها أيضاً جميع تماثيل أفراد عائلته، وهكذا تكون في الغالب نهايات الطغاة والمستبدين الذين تموت فيهم الإنسانية والضمائر، ويتحولون إلى وحوش يلعبون بالبشر وبكرامتهم ومشاعرهم، وقد رأينا نهايات مفجعة وسيئة لبعضهم في حياتنا المعاصرة، وسنرى المزيد منها إن أطال الله في أعمارنا.

zahrani111@yahoo.com

أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام

مقالات أخرى للكاتب