Monday 09/12/2013 Issue 15047 الأثنين 05 صفر 1435 العدد
09-12-2013

لم ينقطع الحديث عن الشعر النبطي -2-

كان المتوقع أنَّ وفرة المُتعلِّمين - نتيجة انتشار التعليم في وطننا العزيز - ستُؤدِّي إلى ازدياد مكانة الفصحى رسميّاً وشعبيّاً. غير أن الشعر النبطي أخذ يزاحم ما هو بالفصحى في المناسبات الرسمية. بل إنه، أحياناً، يَحلُّ مَحلَّه. أما على مستوى وسائل الإعلام فَحدِّث ولا حرج. فما ينشر في الصحف اليومية والمجلات

الأسبوعية عنه يفوق كثيراً ما ينشر فيهما مما هو بالفصحى. والبرامج الإذاعية؛ مسموعة ومرئية، المُخصَّصة له أضعاف تلك المُخصَّصة لما هو بالفصحى. بل إن الأُمسيات الشعرية المقامة به في مختلف مناطق الوطن أكثر وأعظم احتفاء وحضوراً من تلك التي بالفصحى. ومن الواضح أن مما زاد انتشاره اندفاع بعض شعراء الفصحى؛ وبخاصة الشباب الحداثيين، إلى كتابة شعرهم بطريقة غامضة المعنى فاقدة الجَرْس. والذاهب لحضور أُمسية شعرية يعجبه أن يرى معنى القصيدة مفهوماً، ويطربه أن يسمعها ذات جَرْس موسيقي. ومما زاد انتشار الشعر المُتحدَّث عنه، هنا، تَغنِّي المغنين والمغنيات به، إعجاباً بكلماته أو رغبة في الحصول على المبالغ التي يدفعها بعض قائليه من ذوي الجاه والغنى. وفي المدة الأخيرة أصبحت القنوات المُخصَّصة له، والمسابقات المُقامة به، في دول مجلس التعاون الخليجية أكثر بكثير من تلك التي لما هو بالفصحى.

هل في ذلك خطر على الفصحى؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال تجدر الإشارة إلى ثلاثة أمور:

الأول: أن من هذا الشعر ما هو بَديع مُحلِّق لا يَقلُّ إمتاعاً لمن يفهم عباراته عن الشعر بالفصحى.

الثاني: أنه يبدو أقرب الأشعار العامية في الوطن العربي إلى الشعر بالفصحى؛ مفرداتٍ وسَبْكاً وأوزاناً، وأنه كان - إلى وقت قريب جداً - يُؤدِّي الدور الذي كان يُؤدِّيه الشعر بالفصحى في مجريات الأحداث الوطنية.

الثالث: أن ما أُثِر منه يَدلُّ على أن من شعرائه الأوائل؛ وبخاصة الحاضرة، من بدوا وكأنهم يحاولون قوله باللغة الفصحى، لكن لأنهم لم يكونوا يجيدون قواعدها جاء ما حاولوه مُتعسَّفاً ثَقيلاً على سمع المُتلقِّي، فأصبح الواحد منهم أشبه بالغراب الذي أضاع مشيته ومشية الحمامة. وسرعان ما اختفت تلك المحاولات. على أنه الآن لم يعد موغلاً في عاميته المَحلِّية. ذلك أن لهجات الأقاليم النجدية - مثلاً- تداخلت بشكل ملحوظ نتيجة الاختلاط في المدن الكبرى، وانتشار التعليم، والاستماع والتأثُر بما تَبثُّه وسائل الإعلام المرئية والمسموعة. فبدأت تسود لهجة شبه عامة دخلتها تعبيرات فصحى.

وبالعودة إلى السؤال الذي سبق طرحه يمكن القول: إن الوضع غير مريح لمن يَهمُّهم أن تكون المكانة الأولى في المجتمع العربي للغة العربية الفصحى.

إن وجود شعر عامي - بغض النظر عن تسميته - جنباً إلى جنب مع الشعر بالفصحى واقع؛ ماضياً وحاضراً، وسيظل - فيما يبدو- مستمرّاً مستقبلاً. وأكاد أجزم - من تجربتي الخاصة - أن مُجرَّد ذلك الوجود لا يُمثِّل خَطراً كبيراً على الفصحى. فلم أُحس، في وقت من الأوقات، أن كتابتي إيَّاه تُؤثِّر على كتابتي الشعر بالفصحى. على أَنَّ المكانة التي أُولي إيَّاها، ووصل إليها، ليست من العوامل التي تخدم هُويَّة الأمة العربية، إن لم أقل: إنها تُؤثِّر سلباً عليها. ولذلك فإن الموقف الأمثل، أو الواجب اتِّخاذه، أن تكون المكانة الأولى للشعر بالفصحى. كيف يَتَحقَّق ذلك الموقف؟

من الخطوات التي يمكن أن تُتَّخذ إقناع من في أيديهم مقاليد الأمور بأن يكون ما يُلقَى أمامهم في المناسبات الرسمية باللغة العربية الفصحى. ومن هذه الخطوات أن تُقلَّل المساحة المُتاحة لنشر الشعر العامي في وسائل الإعلام الصحفية والإذاعية تدريجياً. وبتقليل تلك المساحة سَتتَّجه أعداد من شعرائه؛ وبخاصة أن كثيراً منهم خريجو جامعات، إلى الكتابة بالفصحى. ولو تَمَّ هذا الاتِّجاه لكان فيه مكسب جيد للفصحى يسهم بتعزيز مكانتها الاجتماعية.

المسألة الثانية: جعل اللغة الأجنبية؛ وبخاصة الإنجليزية، مزاحمة للغة العربية.

هناك وضع مؤسف بالنسبة للنظرة إلى اللغة العربية في جزيرة العرب.. مهد فصحاها ومهبط الوحي الكريم المنزل بها. فالاعتزاز بها لا يصل إلى الحَدِّ الذي يُؤمِّله كل مخلص لها؛ وهي الركيزة المُهَّمة من ركائز هُويَّة الأمة العربية التي يُكوِّن أهل الجزيرة العربية جزءاً منها. ويَتَّضح ذلك في مظاهر عديدة. ومن هذه المظاهر الإعجاب العظيم والتشجيع الحار من الكثيرين؛ بمن فيهم رجال التعليم وكبار المسؤولين في الدولة، لأيِّ تلميذ يُلقِي في احتفال مدرسي عباراتٍ بالإنجليزية مهما كانت طريقة نطقه بها في حين لا يلقى من هو رائع في إلقائه كلاماً باللغة العربية الفصحى مثل ذلك الإعجاب وهذا التشجيع. وكان انبهار البعض بمن يَتكلَّم الإنجليزية - وإن كانت معرفته بها قليلة - انبهاراً عَظيماً عَبَّر عنه أوضح تعبير ما اعتادوا قولهم عنه: “فلان يتكلَّم بسبعة ألسن”. ومن تلك المظاهر الانجراف في عدم استعمال اللغة العربية استعمالاً صحيحاً في التحدُّث مع العمال غير العرب من الآسيويين. فبدلاً من التَّحدُّث معهم بلغة عربية سليمة إلى حَدٍّ ما يُتحدَّث معهم بلغة ظاهرها العربية، لكنها تتناقض تناقضاً تامّاً مع قواعدها وتراكيبها. فتجد المواطن العربي يقول للعامل الآسيوي غير العربي مثلاً: “أنت يروح.. أنا يروح”.

على أَنَّ من أوضح مظاهر عدم وصول الاعتزاز باللغة العربية الفصحى إلى الحَدِّ الذي يُؤمِّله المخلصون لها شيوع استعمال اللغة الأجنبية؛ وبخاصة الإنجليزية، في ميادين عديدة في طليعتها ميدان العمل الذي يحتاج إليه جميع المواطنين؛ لا سيما الشباب؛ رجالاً ونساءً. فكثير من الشركات والمؤسسات غير الحكومية لا تَهتمُّ بمن يجيدون العربية الفصحى اهتمامها بمن يجيدون اللغة الإنجليزية. بل إنَّ منها ما تعلن بأنَّ من شروط الحصول على عمل فيها إجادة هذه اللغة مع أن أكثر وجوه نشاطها لا يحتاج إلى هذه الإجادة.

ونتيجة لذلك أصبح العُمَّال غير العرب هم الغالبية في تلك الشركات والمؤسسات، وأصبح من المُتوقَّع أن يستعمل المواطن اللغة الإنجليزية في تعامله مع هؤلاء العمال؛ اضطراراً أو عدم مبالاة. وصارت أكثر العقود بين الشركات والمؤسسات المشار إليها والمواطنين تكتب بها. ومع وجود قرارات حكومية، أحياناً، تهدف إلى الحَدِّ من استعمال غير اللغة العربية في التعامل التجاري فإن تنفيذ هذه القرارات ما زال مُتعثِّراً كل التَّعثُّر.

صحيح أنه قد يُحتاج - بسبب تشابك المصالح التجارية عالمياً - إلى اللغة الإنجليزية في وجوه من نشاط الشركات والمؤسسات؛ مثل التعامل مع شركات أجنبية، وتمثيل بعض مسؤوليها في الملتقيات الدولية. غير أن هذا الاحتياج المحدود في بعض الوجوه يمكن أن تُحلَّ مشكلته - إذا وجدت العزيمة للبحث عن حلول - بعد الالتحاق بالعمل. وذلك بإتاحة الفرصة للموظف أن يأخذ دورة مُكثَّفة في اللغة الإنجليزية. وأضرب مثلاً لذلك أن معيدين سبق أن درسوا في التعليم العام لوزارة المعارف وتَعلَّموا الإنجليزية من بداية المرحلة المتوسطة، ثم واصلوا تَعلُّمها في الجامعة، ولما ابتعثوا للدراسة العليا في بريطانيا احتاجوا إلى سنة لتعلُّم تلك اللغة؛ مثلهم مثل المعيدين الذين ابتعثوا إلى تلك البلاد ولم يسبق أن درسوا اللغة الإنجليزية. وكانت نتيجة تحصيل الجميع، على وجه العموم، من هذه اللغة بعد ذلك العام متقاربة.

أما أن تُجعَل إجادة اللغة الإنجليزية شرطاً مسبقاً للحصول على الوظيفة فموقف يجمع بين وضوح النظرة الدُّونية إلى اللغة الوطنية التي هي لغة القرآن الكريم المصدر الأول لدين الإسلام.. دين أكثرية الأمة العربية.. وبين عدم مراعاة شباب الوطن... جيل المستقبل، الذين تزداد حاجتهم إلى العمل كسباً للعيش الكريم، وتزداد حاجة الوطن إلى عطائهم في مختلف وجوه الحياة للرُّقِيِّ إلى المكانة المرجوَّة في العالم.

مقالات أخرى للكاتب