Friday 13/12/2013 Issue 15051 الجمعة 10 صفر 1435 العدد
13-12-2013

فرصة لم تستغل

سبق أن تضمنت المقالة السابقة تفريط الأندلسيين في العصر المرابطي بفرصة كانت سانحة لاستعادة ما أخذ من أرضهم لأنه لم يكن لديهم إستراتيجية قائمة لاستعادة تلك الأرض مهما طال الزمن، وبدلاً من ذلك انشغلوا بالاقتتال فيما بينهم، لاسيما في نهاية ذلك العصر، بينما كان النصارى في الجانب الأسباني الشمالي مشغولون بالاقتتال فيما بينهم، لكنهم كانوا واضعين نصب أعينهم إستراتيجية دائمة يسعون جميعاً لتحقيقها، وهي أخذ ما بيد الأسبان الأندلسيين المسلمين، وأطلقوا على تلك الحروب “حروب الاسترداد” يساعدهم في ذلك مطامع دنيوية، ودوافع دينية، ومساندة من قوى كبيرة ومؤثرة مثل المجلس البابوي ودول قوية مثل فرنسا، ولهذا كان الوضع مختلفاً بين القوتين اللتين لم ترغبا في إيجاد حل توافقي يسمح للعيش بسلام في شبه جزيرة واحدة، يمكنها استيعاب ثقافات متعددة قابلة للتعايش.

عندما توفي ألفونسو السادس ملك قشتاله في الشمال الأسباني، لم يكن له ولد يرث ملكه حيث قتل ابنه الوحيد “سانشو” في موقعة(ألقليش) على يد المسلمين ،فأوصى ألفونسو السادس بأن ترث ابنته أوراكا كرسي الملك ، وكانت أرملة بعد أن توفى زوجها الكونت ريمون ،كما رأى أن يزوج ابنته الأرملة بملك أراجون ألفونسو المحارب، رغبة منه في الحفاظ على العرش،وتوحيد القوى الشمالية النصرانية ضد القوة الأندلسية المسلمة في الجنوب، وهذه من الخطوات التي رسمها ذلك الملك الشيخ لتحقيق إستراتيجياته. وقد وافق الأشراف وكبار القوم على هذه الوصية حتى يكون بجانب هذه السيدة ملك قوي يستطيع أن يجمع القوتين لمحاربة المسلمين. ووافقت أوراكا على هذا الزواج دون رغبة منها وإنما تنفيذا لوصية والدها،على أن يكون أحد ولديها من زوجها السابق المتوفى ريمون حاكما على جليقه، وأن يتولى زوج أختها تريسا واسمه هنري إمارة البرتغال ويتبع الجميع مملكة قشتاله التي تحكمها أوراكا، كما نصت الوصية على أن يكون الملك من بعدها لولدها من ملك أراجون ألفونسو المحارب الزوج الجديد، وإذا لم تنجب منه فيكون لابنها من زوجها السابق .

كان زواجا سياسيا لا طعم له ولا رائحة ،وكانت الملكة أوراكا ذات شخصية منفتحة وعنيدة ، وأصبحت في ظل زوج وملك مثلها وشخصيته قوية أيضا ومحافظ على التقاليد ، وربما لم يكن وسيما بما فيه الكفاية ، أو أنها لم تكن جميلة بالقدر الذي يرغبه . وهناك مثل مغربي يقول ما معناه “إذا رأيت زوجين في وئام وحياتهما مستمرة مع بعضهما البعض فتأكد أن أحدهما قد استسلم للآخر ، ومتحليا بالصبر، وتاركا أمره لخالقه” ،لكن كلا الزوجين يريد السيطرة.

يقول المؤرخ لافونتي :( لقد اقترنا دون حنان ، وكان الأمير الأرجوني موهوبا يتمتع بصفات الجندي الخشنة ، أكثر منه بالخلال التي تجعل منه زوجا رقيقا .وكانت الملكة من جانبها لا تراعي العناية والحزم في بعض أعمالها الخارجية، فانتهى الأمر بأن نبذ الملك كل اعتبار لزوجته ، وأخذ يسيء معاملتها، لا بالكلام فقط ، ولكن بالفعل أيضا ، فكان يصفعها ويركلها برجليه ، ورأى الأساقفة الذين لم يرقهم هذا الزواج منذ البداية أن أفضل مخرج من هذا الموقف المزري هو الطلاق ، وأصغت الملكة إلى هذا الاقتراح ، لأنها كانت فضلا عما تلقاه من سوء المعاملة، تشك في صحة هذا الزواج. وكانت من جهة أخرى ترنو إلى الزواج من الكونت جومث دي كاند سبينا ، وكان أيام حياة أبيها يتطلع إلى ذلك، وكانت بينهما علائق مريبة). لكن المذهب الكاثوليكي يحرم الطلاق.

لم يقبل الزوج الملك بأفعال زوجته في الإدارة أو في السلوك الشخصي ، فحاول محاصرتها بجيشه بحجة أنها أساءت لهيبة الملك بسلوكها المشين ، ورأى زوج أختها تريسا الكونت هنري أن الفرصة سانحة للانقضاض على ملك أخت زوجته بالتعاون مع زوجها المبغض لها ، وتقاسم الغنيمة فيما بينهم ، فذهب من أجل ذلك إلى فرنسا لأخذ المشورة والدعم، كما أن القائمين على ابنها الصغير قد حاولوا أيضا الانقضاض على عرشها ،فأصبحت في محنة كبيرة .

في ظل الحصار والتمرد استطاعت الهروب بمساعدة عشيقين لها وعادت من مملكة زوجها إلى كرسي ملكها مع عاشقيها ، وحاول رجال الدين والأشراف الإصلاح بين الزوجين دون جدوى ، وحشد كل طرف جنده لمحاربة الآخر ، وبدأت الحرب ثم انتهت بفوز الملك على الملكة ،وجاء القائمون على ابنها الصبي لنصرتها لكن الملك هزمهم ففروا بالأمير الصبي إلى الجبال ،كما أن هنري زوج أخت الملكة أوراكا غير رأيه وانضم إلى الجيشين المهزومين لقتال زوج أوراكا فخشي العاقبة وفر إلى بلده وبقي هناك.

في خضم هذه الأحداث كان الجانب المسلم في الأندلس قادرا على الاستفادة من الفرصة، لكنه كان خالي الوفاض من الإستراتيجية ، ولهذا لم يكن همه سوى أن يعيش في نعمائه، أو يقاتل جاره المسلم، أو يرد صائلة عدوه بما لديه دون مبادرة ودون بناء قوة للمستقبل، وهكذا يتوالى إهدار الفرص طالما أن الإستراتيجية غائبة، وعندما يقوى من لديه إستراتيجية للقضاء على الخصم ، فلا بد أن يتحقق المطلوب ولو بعد حين.

مقالات أخرى للكاتب