Thursday 19/12/2013 Issue 15057 الخميس 16 صفر 1435 العدد
19-12-2013

لك أن تتخيل ..

في زمن يحتفل فيه العالم بالإنجازات العلمية التي غيرت وجه الأرض مثل الكهرباء والمضادات الحيوية والأشعة السينية وخارطة الحمض النووي واكتشاف فيروس الإيدز وقانون الجاذبية، تخصص بعض البرامج الإعلامية حلقات عن أمراض السحر والعين والتلبس، وكأنها تقول للعالم أن المجتمع السعودي لا يؤمن بسيادة العلم التجريبي الحديث في الألفية الثالثة، وأن من أسباب الأمراض العضوية والنفسية السحر والتلبس والعين، وأن علاجها بالتحديد ينحصر في الرقية الشرعية والنفث وغيرها من الوسائل التقليدية.

وأن ما يحدث من اكتشافات علمية مثيرة في مجالات الجينات الوراثية والميكروبات المتناهية الصغر المسببة للأمراض، وفي الأجهزة الطبية عالية الدقة في تشخيص الأمراض ليس إلا علامات وإشارات لظواهر المس والسحر والعين، وأن العلم والطب بمختلف مراحل تطوره عبر التاريخ لم يصل إلى ما اكتشفه السلف قبل أربعة عشر قرناً في العلل الثلاث وفي علاج أمراضها، وإن أثبت الطب الحديث غير ذلك..

كانت الحلقات خروجاً عن الخط العام لبرنامج الثامنة الشهير، والذي عُرف عنه تقديم حلقات جريئة عن أوجه التخلف في المجتمع، لكنه في الحلقات عن السحر والعين والجن اصطدم بالعلم الحديث والتجريبي، والذي لا يقبل على الإطلاق أن يتحدث أحدهم عن تجاربه الخاصة والسرية في علاج السحر والعين والتلبس بدون إخضاعها للمنهج العلمي، كذلك خالف الرسالة الإعلامية والثقافة التنويرية، والتي تطالب الإعلام الحديث أن لا يكون مروجاً للجهالة والتخلف.

من دواعي الدهشة في المجتمع السعودي أن المصابين بالسحر والعين والتلبس بالجن ومعالجيهم، لا ينتمون إلى المجتمعات العلمية التي تلقت علومها من خلال مناهج العلم التجريبي الحديث؛ لذلك لن تجد عزيزي القارئ على سبيل المثال طبيباً نفسياً مصاباً بمس جني أو مسحوراً من قبل خادمته الآسيوية، كذلك لن تجد بروفيسور فيزياء أو باحثاً علمياً في مجال البيولوجيا الجزئية يتحدث عن علامات المسحور والمعيون، ويدَّعي أنه قادر بخبرته الشخصية على تشخيص الحالات ثم علاجهم بماء أصفر.

تدخل مثل هذه التقاليد في الثقافة الشعبية، وتنتشر في مختلف المجتمعات، ولكنها تظل محصورة في بعض الفئات التي لم تتلقَ تعليماً عالياً في العلم الحديث، ويزيد الفقر والحرمان والخوف من درجات الإيمان بها، ثم البحث عن الخلاص من خلال ما يُطلق عليه العلاج الروحي، لكن وجه الغرابة أن يتم تقديمها على أنها أحد الأسباب للأمراض العضوية والنفسية في برنامج إعلامي على قناة إعلامية، ثم تُقدم على أنها حقائق علمية غير قابلة للبرهان والبحث العلمي..

كانت الدهشة عندما اختلف الخبراء في تحديد أعراض المعيون والمسحور والممسوس، وبعد نقاش طويل على مدار حلقتين لم يتوصلوا إلى تفاهم موحد عن تلك الأعراض، فقد كانت أغلب الأعراض التي ذكروها عامة ومشتركة في أغلب الأمراض العضوية والنفسية، مثل الوهن والتنميل والتقيؤ والغثيان والإغماء والقلق، وبعد مداولات اختلفوا في تشخيص المرأة المصابة فقال أحدهم: معيونة، وقال اثنان: إنها مسحورة، وانتهت الحلقة بدون اتفاق، وكان الخاسر الأكبر هو الوعي الصحي والعلمي، وكان الرابح فيها ثقافة الخرافة والسحر والتجهيل.

أيها القارئ لك أن تتخيل الحياة بدون مضادات حيوية، أو بدون عمليات جراحية، أو بدون قسطرة لتصلب وضيق شرايين القلب, وبدون عمليات جراحية لاستئصال الأورام، وأن علاجهم الموحد هو ذلك الشخص الذي يدعي معرفة الغيب، وأنه يستطيع شفاء الأمراض بنفث من لعابه، لك أن تتوقع ماذا سيحدث لمعدلات الوفيات ونسب الإصابة بالأمراض في المجتمع؟!.

لك أن تتخيل الحياة بدون أدوية لضغط الدم العالي أو بدون أنسولين لمعالجة داء السكر، أو بدون تدخل جراحي لعلاج زائدة ملتهبة أو جراحة قلب مفتوح، وأن لا خيار أمامك إلا الذهاب لذلك المعالج الشعبي الذي يخلط مواداً غير معروفة ثم يقدمها لك كأسير الحياة المنتظر.

لك أن تتخيل حياة بدون أدوية للأمراض النفسية، وأن لا خيار أمام المصابين بأمراض الكآبة والانفصام النفسي والوسواس القهري إلا أن يُربطوا في جذوع النخيل، أو يضربوا بالسياط أو تتعرض أجسادهم للكي، أو يتعرضوا لهجوم وحشي أو لسع كهربائي لإخراج الجن المشتبه به في المرض النفسي.

لك أن تتخيل حياة بدون أدوية مضادة لنوبات الصرع، وأنه لا يوجد حل جراحي لاستئصال البؤرة مع إمكانية الشفاء التام، وأن لا خيار أمامك إلا التداوي عند معالج يعتقد أن سبب النوبات الصرعية جني ساكن في أحد ضلوع المصاب، وأن حركات الجني المفاجئة هي السبب لتلك النوبات التشنجية المتكررة، وأن علاج النوبات الصرعية سيكون فقط بالرقية والضرب بسوط غليظ لإخراج الجني من جسدك، أو بتسخين قضيب حديدي لدرجة الاحمرار، ثم استعماله لإحداث حرق من الدرجة الأولى في ظهرك، كعلاج للنوبات التشنجية المتكررة.

أحياناً أشعر أننا أمة ترفض الالتحاق بالركب الإنساني في العلم، وتصر أنها أمة من الماضي، شاءت الأقدار أن تنقلها عبر الزمن إلى القرن الواحد العشرين، وتصاب بالصدمة الحضارية الذي تجعلها في وضع في غاية الغرابة، وهو أن تبدع في استخدام الوسائل العلمية والإعلامية الحديثة في حياتهم اليومية، لكنها تروج في نفس الوقت من خلال تلك الوسائل لثقافة التخلف والجهل والسحر..

مقالات أخرى للكاتب