Sunday 05/01/2014 Issue 15074 الأحد 04 ربيع الأول 1435 العدد
05-01-2014

هل مازالت (الجميلة .. اسمها جدة)..؟

يعرف الكثيرون ممن أحبوا ويحبون مدينة (جدة) .. إلى حد تفضيل الإقامة فيها على غيرها، أو التردد عليها شتاءً أو حتى صيفاً رغم حرارتها ورطوبتها.. أن لـ(الجمال) الجاذب فيها.. عدة أوجه: فهو (روحي)، وهو (مادي)، وهو (إنساني) اجتماعي ثقافي، وهو فني رياضي..

فـ(جدة): هي بوابة الحرمين الشريفين أو (الدهليز) المؤدي إليهما.. عبر مينائيها البحري والجوي، وهي البحر بـ(زرقته) و(فيروزه).. بـ(رماله) الصفراء وصخوره المرجانية الداكنة، وهي المساءات الجميلة بـ(تجمعاتها) المتحابة في (مقاعدها) ومقاهيها، وهي الليل الساهر الذي لا ينام، وهي الصباحات المشرقة بـ(العمل) و(الكدح) .. طلباً للرزق، وهي البحر ورجاله (المعادي) بـ(سنابيكهم) و(لنشاتهم) و(الصيادون) بـ(زوارقهم) وشباكهم وأسماكهم وأنغام (سمسميتهم)، وهي (المنادون) الذين يجوبون أسواقها وشوارعها ليعلنوا عن قدوم باخرة أو سفر أخرى.. فهي كل ذلك، ولولا الخشية من تهمة (الانحياز) لها.. لقلت ما هو أكثر!!

ولكن.. عندما جاءها أول أمنائها: (محمد سعيد فارسي).. واستطاع بدعم غير محدود وغير مسبوق من (ولي العهد) فـ(الملك فهد بن عبدالعزيز) في أيامه.. أن يقيم (كورنيشها) المذهل بأكياله الخمسين وبحيراته وفنادقه ومطاعمه ومقاهيه وملاهيه وجلساته.. وأن يدير وجه الأحياء الجديدة منها تجاهه، فقد كان يضيف إلى جمالها الجاذب.. جمالاً، وإلى رونقها.. إطاراً ذهبياً حلَّق بها إلى سماوات المدن الجميلة.

وعندما غرس على أرصفة ذلك (الكورنيش) وميادينه (النورس) والتوحيد، والعلم والدين، والخيل والرمح).. وبقية ميادين جدة وبرحاتها وأكتاف شوارعها تلك الكوكبة من الأعمال التشكيلية الجمالية لكبار الفنانين والرسامين والنحاتين من أبناء الوطن والعالم باتساعه (325 عملاً).. كان يقفز بـ(جدة) واسمها إلى مصاف مدن الذوق والجمال في العالم.

وعندما أنقذ عمران جدة الحجازي القديم - المعروف بجدة التاريخية - من طوفان نوح (الإزالة) الجديد.. كانت صفحات مدن التراث الإنساني التي يتوجب الحفاظ عليها لدى منظمة (اليونسكو) للعلوم والثقافة.. تفتح أبوابها لـ(مدينة جدة) باعتبار مبانيها التاريخية القديمة جزءاً من التراث المعماري الإنساني الذي يتوجب الحفاظ عليه، ليكون آخر أعماله.. قبل ترجله هو إقامة (متحف الهواء الطلق) العالمي - بكورنيش الحمراء - لكبار فناني العالم.. وأساطينه من أمثال هنري مورو وهولمان ولافونتي وفساريللي وجيوفاني، والذي أصبح على أجندة كبار زوار المملكة من الرؤساء والأمراء والساسة من الرئيس جيمي كارتر إلى الأمير شارلز إلى المستشار الألماني هيلموت شميت الذي قال عنه: (لم أكن أتصور أن بجدة مثل هذه الأعمال الجمالية الرائعة)..؟! ليزورها من بعد الأكاديمي المعماري المصري الدكتور علي محمد علي (1991م).. ابن مدينة (السويس) التاريخية، التي تمثل له (العشق والهم والاهتمام).. فتبهره جدة (خاصة ذلك الوجه الرائع والذي شكلته الأعمال الفنية التشكيلية المنتشرة في شوارعها الرحبة وميادينها الفسيحة) كما قال في مقدمة كتابه - فيما بعد - فلم يجد أمامه (أحلى ولا أجمل من «جدة» لتكون المثل المُحتذى)، ليعود ويكتب كتابه التوثيقي تحت أشجع وأجرأ عنوان أقرأه في موضوعه: (الجميلة.. اسمها جدة).. هكذا وبإطلاق..!؟

* * *

لكن مع تعاقب.. الأمناء الستة أو السبعة الذين خلفوه عليها بـ(الأصالة) أو (التكليف)، ومع اختلاف مرتكزاتهم الإدارية و(الأدائية) تجاه المدينة وموجوداتها من الأعمال الفنية.. إلى جانب تفاوت ملكاتهم الفنية الشخصية في الإحساس بـ(الجمال) وتقديرهم له أو استخفافهم به.. فقد أخذت تنحسر - إجمالاً - عن (جدة) تلك الصورة الفنية الجمالية الباذخة.. التي ميزت ميادينها وشوارعها عن غيرها، وجعلت منها (رائدة) جمال مدن المملكة المُلهِمَة.. مع مسلسل إزالة تلك المجسمات شيئاً فشيئاً، والذي بدأ على استحياء.. أيام أمانة الدكتور خالد عبدالغني لها بإزالة مجسم (أشرعة الانطلاق) من تقاطع شارعي (الأندلس) و(الحمراء) بغرض التوسعة وتسليس المرور في ذلك التقاطع.. فإزالة مجسم (زهرات عباد الشمس) الثلاث الرائعة على الركن الجنوبي الغربي من رصيف قصر الحمراء بحجة أمنية واهية كمنع (الأشرار) المحتملين من الاحتماء به!! ليبدأ بعد ذلك التوسع في إزالة المجسمات الجمالية بجرأة من يعتقد أنه على حق بفعلته.. كإزالة مجسم (النور والظلال) على كتف شارع فلسطين - الشرقي - دون وجود مبررات أمنية أو حاجة إلى توسعة الشارع في ذلك الركن البعيد عن حركة مرور السيارات، ومع أن (الصحافة) المحلية قاومت مشكورة بدايات ذلك التوجه السقيم.. إلا أنها في غيبة تجاوب (الأمانة) لدعوتها.. توقفت عن اعتراضاتها.. ظناً منها أنها تعجلت وأن ذلك لن يتكرر، ولكنه سرعان ما تكرر.. ليمتد إلى مجسم (الطيور المهاجرة) عند النهاية الغربية لشارع فلسطين، ثم إلى (ميدان الطائرة) نفسه بـ(قاعدته) الرخامية الفريدة على شارع الأمير ماجد.. لكن مسلسل الإزالة توقف تماماً مع أمانتي: الدكتور نزيه نصيف والمهندس عبدالله المعلمي.. وهو ما يذكر لهما بالتقدير والإكبار، ليستأنف طوفان الإزالة نشاطه مع أمانة المهندس عادل فقيه.. بإزالة (صندوق السيسم) بحليه وقلائده عند مدخل شارع المدارس من طريق المدينة رغم صياح ونواح مموله شيخ الجوهرجية الأستاذ جميل فارسي، فإزالة مجسم (الحديد) فالانتقال بجرأة صاعقة إلى إزالة نصف بحيرات الكورنيش الشمالية الست - دفعة واحدة - بحجة تحويلها إلى (مواقف) للسيارات لامتصاص أعداد المتنزهين الزائدة.. دون أن يخطر بباله أو ببال أحد مستشاريه - وما أكثرهم وأقل فائدتهم.. آنذاك - فكرة تأهيل (الكورنيش الجنوبي)، ليستوعب متنزهي أحياء جدة الجنوبية كـ(السبيل، والهنداوية والشائ وخزام والنزلة الجنوبية) إلى جانب أحياء (غليل) و(بترومين) العشوائيتين، لكن ذلك لم يحدث.. وبقي (الكورنيش الجنوبي) بطوله وبحره الجميل ورماله الأجمل.. على حاله من الإهمال إلى يومنا هذا!

* * *

لقد واصل مسلسل إزالة (المجسمات) من الشوارع.. إلى إزالة (الميادين) نفسها بما تحتويه من أعمال جمالية.. مساعده السابق - الذي أصبح خلفه اللاحق في الأمانة - الدكتور هاني أبو راس في زمن جوقات من (المطيباتية) انشقت الأرض عنهم فجأة في (جدة)، وأخذوا يملأون قاعات ومقاعد اللقاءات المسائية غير الرسمية، ليقولوا أحلى الكلمات وأجمل العبارات ثناءً على كل ما يجري في جدة.. ربما تقديراً لـ(مقام) بعض المسؤولين.. وربما طمعاً في رضا (الأمانة) وامتيازاتها ومشاريعها ومناقصاتها، يقابل ذلك (طنطنة) صحفية (ع الواحدة).. وأحاديث عن إنجازات باهرة لم يرها غير المسؤولين أنفسهم!! ليواصل أمين مدينة جدة.. مشاريعه ليس في إزالة ما تطاله يده من المجسمات الجمالية ولكن في إزالة الميادين نفسها، بعد أن بدأ بإزالة ميدان (طارق بن زياد) أو ميدان السفن كما يسمى شعبياً على تقاطع طريقي الأندلس والملك عبدالله جنوباً، فإزالة (ميدان المواصلات) على تقاطع شارعي (طريق الأمير سلطان) و(البترجي).. ثم واصل بإزالة ميدان (المفروكة) على تقاطعي شارع إسماعيل أبو داود و(التحلية).. فإزالة (ميدان الدراجة) وسط حسرة الأهالي وأسف المقيمين وغضب الصحفيين الأصلاء، الذين كتبوا واستنكروا.. ولكن لا حياة لمن تنادي، لتتسرب أخبار مشاريع إزالات كارثية مستقبلية جديدة.. بـ(إزالة) أكبر وأجمل وأغلى ميدانين نجيا من طوفان الإزالة حتى الآن.. هما: (ميدان الفلك) الرائع بفكرته وتصميمه وتكوينه المذهل وقاعدته الأخاذة.. للمثال الألماني الأشهر (هولمان)، و(ميدان الكرة الأرضية) للفنان الأسباني الكبير (جوليو لافونتي)، الذي حظيت (جدة) بحبه لها.. فأعطاها من عصارة فكره وفنه الإبداعي خمسة وخمسين عملاً.. كان من أبرزها (الكرة الأرضية) البلوري الفريد، الذي تتوسطه بؤرة ضوء (ليزارية) رائعة تشير إلى مكة المكرمة.. قلب العالم، والذي كلف من الفكر والجهد والمال ما لا يخطر على بال.. حتى قام العمل ليكون في استقبال كبار الشخصيات والزوار القادمين إلى المملكة، بعد أن يتخطوا مجسم الآية الكريمة (وقل ربِّ أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً) على شارع (السلام).. والذي تمت إزاحته عن نقطة تقاطعه مع (طريق الأمير سلطان) بصورة مفاجئة! وقد كان عجيباً أنني عندما سألت أحد كبار المسؤولين.. عما حدث لمجسم الآية الكريمة من إزاحة.. أنكر علمه بـ(الأمر) (أصلاً)!! وهما يخيفني ويقلقني اليوم - كواحد من أبناء جدة - على مستقبل الميدانين.. ويخيف ويقلق كل محبي وعشاق جدة - وهم بالملايين - في داخل الوطن كما هم في خارجه، ويجعلني أستنجد بمن هو أقدر موقعاً.. وأعني به (وزير الشؤون البلدية والقروية) الأمير والمثقف (الدكتور منصور بن متعب).. لإيقاف مسلسل (الإزالات) العشوائي هذا الذي يجري على قدم وساق في (جدة).. بتواتر وحماس مدهشين! فهذه (المجسمات) الفنية الجمالية وهذه (الميادين) - وكما يعلم سموه - انتقلت ملكيتها الأدبية منذ أن غادرت ملفات الأمانة و(دوسيهاتها) - كرسومات وخرائط إلى الشوارع والميادين كـ(واقع) وحياة - إلى المواطنين والمقيمين جميعاً.. إلى كل الناس الذين رحبوا بها وأعجبوا بها والتفوا حولها.. وكانت لهم (متعة) وسعادة ودليلاً إرشادياً وسط متاهات شوارع جدة التي ما يزال معظمها بلا (أسماء)..!!

وهي بعد أن أمست حقيقة وواقعاً معاشاً في حياة المدينة وأهلها وسكانها.. فقد أصبحت جزءاً لا يتجزأ من تاريخ المدينة وذاكرتها ووجدانها ومن وصورتها عند الآخرين، لا يصح لأحد أن يزيلها بجرة قلم.. ما لم يكن هناك خطر فعلي ملموس من بقائها على صورتها.؟!

* * *

آملاً.. أن يكون الزميل العزيز الأستاذ يوسف المحيميد قد صرف النظر عن فكرته في تأمين تذكرة سفر لأمين العاصمة (الرياض).. يغادر بها بحثاً عن (لافونتي) أسباني جديد، ليجمل بأفكاره وإبداعاته شوارع وميادين العاصمة.. حتى لا يحدث له ما حدث لـ(لافونتي) جدة وأعماله.. التي لا أحد يدري في أي مستودع تم حشرها بعد إزالتها!؟ إذ يكفينا - فيما أظن - إثم لافونتي واحد.. لا اثنان..!

راجياً.. أن لا يفكر الدكتور علي محمد علي - إن أمد الله في عمره - في زيارة أخرى لـ(جدة).. حتى لا يصدم بما سيراه.. بعد أن زال - أو كاد - (متحف الهواء الطلق) الذي أذهله.. فيعود إلى مدينته (السويس) ليصدر الطبعة الثانية من كتابه عن جدة.. بعد أن يغير عنوانه من (الجميلة اسمها.. جدة) إلى (الجميلة التي كان اسمها جدة)..؟!

مقالات أخرى للكاتب