Monday 20/01/2014 Issue 15089 الأثنين 19 ربيع الأول 1435 العدد
20-01-2014

أساليب وأصول ثقافة المعاريض

هل ثقافة المعاريض تقاليد شعبية مستحدثة ارتبطت بمفاهيم اجتماعية مضمونها الاستجداء واستمالة عطف صاحب القرار في اتجاه صاحب المعروض المقدم، أم أنها في حقيقة الأمر أبعد من ذلك، وتعود إلى بعض الاجتهادات الدينية التي تستمد تعاليمها من عصور الانحطاط في تاريخ المسلمين، وقبل أن نصل إلى ذلك، سنقف على مراحل تطورها في المجتمع، واختلاف أساليبها وعلاقتها بالتخلف والأمية التي كان المجتمع يعيش فيها.

اللافت للنظر أن أساليبها تغيرت كثيراً في الآونة الأخيرة، بعد تسارع تطور التقنيات الإعلامية، وقد كان نجومها في عصر الأمية أولئك الذين يتميزون بالقدرة على الكلام واستخدام الفصاحة في عرض قضية ما بأسلوب غير مباشر، وكان في كل قرية أفراد اشتهروا بتلك الصفة، وكانوا أقرب إلى الممثل الشعبي، الذي لا يستخدم الأدوات القانونية وشفافيتها، لكنه يضطر أحياناً إلى اللحن والكلام المنمق من أجل كسب تعاطف صاحب القرار لأغراض شخصية.

في مرحلة انتشار التعليم والكتابة خرجت ظاهرة كتّاب المعاريض عند بوابات المحاكم والإدارات الحكومية للخدمات ورؤساء المحافظ وأمراء المناطق، وكانوا يأخذون أجراً مادياً مقابل تعريضهم للقضية الشخصية، وكان يتصفون بحسن الخط والقدرة على التعبير عن صاحب العرض، ودائما ما يحرص الكاتب على استخدام الكلمات المناسبة التي تصب في مصلحة صاحب القضية، ويستطيع بسببها التأثير على المسؤول، وكانت هناك منافسة بين كتّاب المعاريض، لكن الأسعار لم تكن مرتفعة، ولم تتجاوز في أحسن المواسم سعر عشرة ريالات للمعروض الواحد.

اختلفت المسألة في العصر الحاضر، وانتقلت ثقافة المعاريض من نجومية كتّاب البوابات الحكومية إلى سيطرة أصحاب الزوايا في الجرائد اليومية على عرض القضايا الشخصية بشكل مؤثر، وذلك من أجل استدرار عطف أصحاب القرار، وكسب تأييدهم، ولازال بعض أصحاب الأقلام الصحفية يشتهرون عند العامة بالمقدرة الفائقة على توصيل مشكلاتهم أو رغباتهم للرأي العام والمسؤولين، وعادة يكون لما تعرضه بعض الزوايا الصحفية من قضايا صدى في المجتمع، قد يصل في بعض الأحيان إلى حد الإثارة الصحفية التي قد تؤثر في القرار.

لكن المتغير الجديد في ثقافة المعاريض خروج برامج تلفزيونية تعتمد في دخلها على الإعلانات التلفزيونية، وتستمد الإثارة الإعلامية من قضايا الناس ورغبتهم في إيصال مظالمهم، وقد أصبحت بالفعل تلك البرامج ناجحة ومؤثرة في إحداث التغيير والتأثير على صاحب القرار في إيجاد الحلول، بل وصل الحال إلى تبني بعض القنوات التلفزيونية هذه الأساليب في أغلب برامجها، وذلك استجابة لمطالب الناس.

لكن المفارقة أن ثقافة المعاريض ليست وليدة التقليد في المجتمع، بل لها جذور في التراث توضح ضخامة الخلل القانوني الذي كان يعيش فيه المجتمع المسلم التقليدي؟، ومعنى المعاريض الاصطلاحي أن المعاريض جمع معراض من التعريض بالقول، وقال الجوهري خلاف التصريح، وهو التورية بالشيء عن الشيء، وقال الراغب: التعريض كلام له وجهان في صدق وكذب، أو باطن وظاهر. قلت : والأولى أن يقال: كلام له وجهان يطلق أحدهما والمراد لازمه، وقد اتفق بعض الفقهاء على جوازه إذا لم يؤثر على حقوق الآخرين، فعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : إِنَّ فِى الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ، ومعنى مندوحة : أي سَعَةً وفُسْحة.

وقد استخدمت مثل هذه المواقف لتشريع أساليب المعاريض التي لا تقول الحقيقة في وجه السلطة لأسباب، منها الرهبة من التصريح، لذلك تنشد استجداءها بالتورية والقول غير المباشر لاستعادة بعض حقوقها إن صح التعبير، ومن أسباب ذمها أنها لا تطرح القضية بشكل مباشر، ولكن تستخدم التورية لئلا تُغضب صاحب الشأن، وقد تؤدي في جانب آخر إلى إفساد المصالح..

في جانب آخر، قد يكون صاحب المعروض سبباً للمظلمة، أو في وضع المتستر لها، وقد يستخدم في بعض الأحيان أساليب أقرب للكذب درءاً لسطوة صاحب القرار، لكنه لا يصل إلى أن يكون كذباً مباشراً، وذلك التزاماً بالرأي الفقهي، ويكتفي بلي لأعناق اللغة واستخدام المحسنات اللغوية من أجل تحقيق المصلحة الشخصية، ويعود انتشار تلك الثقافة إما إلى غياب سيادة القانون في المجتمعات التقليدية، أو تخلف الأساليب الإدارية الحديثة في استيفاء الحقوق، لهذا السبب، تزدهر ثقافة المعاريض، وتملأ فراغ غياب سيادة القانون.

مقالات أخرى للكاتب