Monday 20/01/2014 Issue 15089 الأثنين 19 ربيع الأول 1435 العدد
20-01-2014

التَّرجَمَةُ الميِّتةُ واستدراكٌ على مقارناتٍ سابقة ضمن كتابي عن (رباعيات الخيام): 1-10

قال أبو عبدالرحمن: مِسكينٌ مسكينٌ طالب العلم الذي لا يجيد غير لغته الأمِّ التي نشأ عليها، وهو مُبْتَلىً بحبِّ الاستطلاع، وعنده شيئ مما يُسَمَّى بلغة العصر (مُرَكَّبَ النقص)؛ لأنه كما قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: «يغيظه أن يتكلَّم الناس فيما لا يحسنه هو»؛ وذلك أن (غُمَّةَ الجهل) خانقة؛ فهذا لا مفرَّ له من إحدى أربع حالات: فإما أن يُشَمِّر عن ساعد الجد ويتعلَّم ما جهله كمضامين اللغة التي يتحدَّث بها الآخرون، وهذا لم يُقَدِّره الله لي؛ لأنني مربوط بمعارفَ التصق بها عقلي ووجداني روحاً وقلباً؛ فلا سَعَةَ لي في تعلُّم لغة ثانية، ولا سعة لي في تعلُّم قراءة الكمبيوتر والإنترنت ولو كان في الجوَّالات الحديثة.. ثم إن ما يتحدَّث به الآخرون ذوو الاختصاص هو مما يجهله كثير جداً من المثقَّفين؛ لأنه من المحال لو عُمِّرتَ عمر نوح، وكنتَ من أذكى الناس أن تحيط بعلوم البشر.. وإما - وذلك هو الحالة الثانية -: أن تستلقي على فراش اللامبالاة، وتقول: ثُمَّ ماذا؟.. لن يغيظني هذا الجهل، وأنا في غِنىً عن العلم بما يقولون.. فهذا مفتاح لمركَّبِ النقص؛ فإن سَلِمَ من ذلك فلن يسلم من المُكابرة ما دام مَبْلِيَّاً بحب الاستطلاع، وسيظل في غبن وقلق يتجاذبُه غَبْنُه مما جهله، وجِبِلَّتُه على حب الاستطلاع.. وهذا أمر بحمد الله تغلبتُ عليه كما سيأتي بيانه.. وإما (وذلك هو الأمر الثالث) أنْ يُسْلِمه مُرَكَّبُ النقص إلى داءٍ يُسمُّونه (انفصام الشخصية) أعوذ بالله من ذلك؛ فيكون واقعه الذي يُشاهده الناس ولا يُشاهده هو: (قصوره الفكري والعلمي والثقافي)، ويكون واقعه هو الذي في وِجدانه ولا يعلم به إلا الماهرون في التحليل النفسي وما يُعين على ذلك من مُنْجزات الطب: (أنه فوق ما يعلمه الناس، وأن ما عَلِموه تفاهات)؛ فتنقادُ له أحلامُ اليقظة التي تجعله مَلِكاً ولم ترفع له رأْساً، وفي أحلام السوريالية مفاتيح لهذا الجنون الغامض.. وبحمد الله وقاني شر هذا الأمر؛ لأنني نشأتُ على علم شرعي، وفطرة سليمة تُعَلِّق كل الأحوال بِمُسَبِّب الأسباب جل جلاله، وتضرع إلى الله بالدعاء؛ فلا يكون في روحه عقلاً ووجداناً فراغٌ لأحلام اليقظة.. وإما -وذلك هو الأمر الرابع الأخير- أن يكون مِقْداماً بشجاعةٍ فكرية علمية ثقافية، ولا يُبالي (إن تلعثم في النطق بأعلام أو مصطلحات خواجية لم يجعلها الله يسيرةً على مخارج حروف لغته الأم) بشماتةِ مُتَفَرِْجٍ حاوٍ ليس عنده إلا التعالي والتمنْطُق بلغة خواجية لم تُوَصِّلْهُ إلى هضم معارف تلك الأمة الخواجية، بل يتحدث بها في الحياة اليومية العادية في المطعم والصيدلية والطائرة إن كان طاقَمُها خواجياً.. والطاقَم كلمة خواجية عَرَف معناها خاصةُ العرب وعامَّتُهم، وهي سهلة النطق من حيث المخارج؛ ولهذا أدرجها مجمع اللغة العربية بمصر في متون اللغة العربية، ونِعْم ما فعلوا؛ لأن العرب أخذوها اقتراضاً على الرُّغم من أن اجتماع الطاء المهملة والقاف -وما يقرب من مخرجيهما كالفاء والجيم- مع الميم لا يوجد في كلمة ألبتة في لغتنا، وقلَّما جاءت القاف تالية الطاء وإن كان الأخيرُ غيرَ حرف الميم.. ومعناها المُقْترَض مجموعة متكاملة من الأشخاص والأدوات تؤدِّي أعمالاً خاصة كخدمة رُكَّاب الطائرة، ثم توسَّعوا بها إلى ما كان على مثال واحد كمجموعة أقلام على مثال واحد، وكالتحلي بلباسٍ يماثل بعضه بعضاً، ولهذا التوسُّعِ أصالته؛ لأنك لا تُسمِّي فريق العمل طاقماً إلا بشرط هيئة واحدة كشكل اللباس مثلاً.

قال أبو عبدالرحمن: هذه فائدة على الهامش، وأما تخَلُّصي من هذا الحِصار بشجاعة فكرية علمية ثقافية؛ فبيانه: أن فضولَ حُبِّ الاستطلاع، وعُقْدةَ الغبن دفعاني مُرْغماً إلى أن أتكلَّف أوَّل الأمر ما ليس من بضاعتي؛ فدرجتُ في غير عُشِّي، وزحمتُ مكتبتي بكتب مترجمة في حقول ثقافية وعلمية كثيرة، وحرصتُ على التمعُّن في كُتبٍ لعددٍ من المترجمين تواردت على ترجمة نص واحد؛ ليكَمِّل بعضها لي بعضاً في الفهم؛ فخرجتُ بنتائج سأُجْمِلُها إن شاء الله آخر هذه المُداخلة، وإنما أذكر أساساً لتلك النتائج نموذجين من التراجم: النموذج الأول: أنني وجدت شعراً خواجياً كثيراً لم أجد له غير ترجمة واحدة ولا طعم له، ولا إثارة فيه، وكلام السوقة من العامة أمْتعُ منه، ولا سيما ما تَرْجَمَه الدكتور عبدالغفار مكاوي الذي أخذتُ منه نموذجاً استفتيتُ فيه الدكتورين الفاضلين غازي القصيببي رحمه الله تعالى، وعبدالعزيز الخويطر مَتَّع الله به -كما سيأتي بيانه إن شاء الله-.. ولقد تخلَّصتُ من أكثر ترجمات الدكتور مكاوي تخفيفاً على مكتبتي سوى تقميشات قليلة أبقيتها في كُنَّاشتي، ولكنني أذكر أمثلةً مطابقة من ترجمة غيره؛ فهذه شاعرة ألبانية اسمها (شهر زاد شكريلي) قالت في مقطوعة اسمها (أُحِبُّك):

[خذ الأيام معك.

خذ الحياة أيضاً.

خذ هاتين العينين.

واليدين.

خذها جميعاً معك.

* * *

وأنا أمنحك سواها.

أمنحك أجمل ما في الحياة!!.

أمنحك الحب!!.

* * *

خذ العلم كله.

وادنُ مني.

فأنا حيث أنت هناك.

لأني أحبك.

لأني أحبك].

قال أبو عبدالرحمن: المفردات مفهومة، والجُمَلُ مفهومة بدلالةٍ حرفية لا إيحائية، ولكنْ أيُّ صورة لها دلالةٌ غيرُ المعنى الحرفي، وأيُّ جملة مفهومة المعنى حرفياً وليس في دلالة تركيبها معنى فكريٌّ يُعْقَل؟.. إذا أخذ حبيبها سعيدُ الحظِّ منها كلَّ أشلائها ومواهبها فأيُّ شيئ يبقى للمتعة؛ فَتَمْنَحُه إياه؟!.. وما المراد بأخْذِ العينين والأيام والحياة والعلم؟.. وأيُّ شيئ سيبقى منها فتقول: (ادنُ مِنِّي ؟).. وأي متعة له إذا دنا فلم يجد شيئاً، أو وجد شبحاً؟!.. لا ريب أن شاعرةً مرموقةً في قُطْرها قد عَبَّرتْ بصورٍ وجملٍ فكرية بلا ريب، ولكن الترجمة الحرفية المَيِّتَة لم تُوصِّل مرادَها، والمترجم هو عبداللطيف الأرناؤوط الذي ترجم ضميمة سماها (نفحات من الشعر النسوي الألباني في يوغوسلافيا) صدر في دمشق -أعاد الله مجدها- عام 1986م عن وزارة الثقافة، والعجيب أن المُتَرْجِم يُدِلُّ في كتابه بفهمٍ وتذوُّقٍ فنيٍّ لما ترجمه كقوله ص9 عن هذه المجموعة: «ومن خلال الحبِّ تخترق العالم لتصل إلى أجمل ما فيه.. أي الحب»!!.. ولم يقل أكثر من ذلك؛ فبربكم هل فهمتم شيئاً من الإيحاء تستند إليه دعوى أن الحب أجمل ما في العالم بعد اختراقها إياه؟!..كلا.. إنما فسَّر الماء بالماء من قولها المباشر:

[ أمنحك أجمل ما في الحياة.

أمنحك الحب].

قال أبو عبدالرحمن: الأدب الخواجي صور دالة يستعصي ترجمة كثير منها، وبعضها غير عصيٍّ، وهو موسيقى داخلية وخارجية يؤدِّيها الأديب الفنان بذائقة عربية؛ لأن اللحن والنبر وحِدةٌ تناسبية هي أعمُّ وأشمل من المأثور العربي، وهي ذوق عالمي مُشْترك كما سيأتي بيانه.. والمترجم إذا لم يكن فنَّاناً في لغته الأم، وفناناً في لغته الثانية: فليس أمامه إلا هذه الترجمة الحرفية المَيِّتَة.. ولو أتيح لأديب عربيٍّ فنان لا يجيد لغةً ثانية أن يطَّلع على هذه المقطوعة بترجمةِ مُترجمين مُتَعَدِّدين حتى يفهم معنى الجُمل إيحائياً وفكرياً؛ لترجم النص ترجمةً فنيَّة مطابقة، ولتراكمت في ذاكرته صورٌ إيحائية على مدى الأعوام يُوظِّفها كما هي أو يُحَوِّرها لمراده في تعبيره شعراً أو نثراً، ولا يدري مِن أين تأتَّتْ له، بل يظنها من ابتكاره؛ ذلك أن مخزون الذاكرة: إما كسْبٌ شخصي من ملاحظاته وتجاربه وتأمُّله وخصوبة خياله وسعة ودقة فكره، وإما تلاقُح دلالاتٍ تأتَّتْ له من فهمه نصوص الشعر، وإما تلاقحُ مواهب بشرية.. ومثل هذه الترجمة الميِّتة ترجمةُ الخواجيِّ قولَه تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [سورة البقرة/ 187] إلى معنى «هُنَّ سراويل لكم وأنتم سراويل لهن».. ترجم (اللباس) إلى سروال؛ فهذه ترجمة حرفية ناقصة غير دالَّة؛ فأما نقصها فمن جهة أن اللباس أعمُّ من السروال؛ فقد يكون إزاراً ورداءً، أو ثوباً، أو قميصاً وسروالاً.. وأما كونها غير دالة؛ فلأن العقل لا يتصور المرأة سروالاً للرجل أو العكس، وليس مراد الشرع المطهَّر المدلول الحرفي، وإنما مَثَّل لنا ربنا المراد بصورة مُوحِية يُسَمِّيها البلاغيون استعارة كنائية أمتع وأبلغ من التصريح بالمَكْنيِّ عنه، وهي تدل على تداخلالأعضاء كلها بدافع المودة والمحبة، وتدلُّ على السِّتر؛ لأن كل واحد مُستغن بلباسه عن الطموح إلى الفحشاء.. ولقد درجتُ مرَّةً في غير عُشِّي، وظننتُ أنني فُضوليٌّ عابث؛ فلما أنجزتُ عملي وجدتُ التوفيق في شيئين وفاتني شيئ واحد؛ وذلك أنني قرأت قصيدة (بودلير) المُسمَّاة (غروب شمس الرومانتيكية) بعدد من التراجم نسيتُ الآن مصادرها، وكل ترجمة وحدها لم تُوَصِّلْ لي كُلِّية المعنى، ولكن من جملة الترجمات استوعبتُ فكر النص وصُورَه المجازية، وعجزتُ عن ضبط اللحن والإيقاع وهيئات النَّبْر؛ لأنني لم أسمع القصيدة بإلقاء خواجي أو لحنه؛ فأضبط من سماع نظام الصوت وتَمَوُّجه وإن لم أفهم معناه قالباً وزنياً للحن ذا نِسبٍ مكانياً وزمانياً، وأضبط الوقفات الإيقاعية وهيئة النبر، ولم أشأ أن أوردها بلغتي نثراً، ولا إيرادها على هيئة الشعر العمودي؛ لأن ذلك يفرض عليَّ حشواً ليس من صلب القصيدة، فنقلتها إلى شعر التفعيلة؛ فأما فِكر النص فاستوعبته من سيرة بودلير من السياق الفلسفي التاريخي والأدبي عن التنافي بين زمن الرومانتيكية وزمن التكنولوجيا؛ وذلك أن بودلير نظم قصيدته عام 1860م في آخر حياته، وكانت حياته بين عامي 1821- 1867م، وقد حوَّر بها مذهب الرومانتيكيين امتداداً من (روسو) 1713- 1778م.. وكانوا يرون أن زمان التكنولوجيا آخر الزمن؛ لإحساسهم الحزين العميق بشمس الحضارة الآفلة تُرسل إشعاعها جميلاً شاحباً ينافي مُتْعة الرومانتيكية الخالية من الشحوب.. وربما كان لذلك جذور في فلسفة برجسون عن الديمومة النفسية.. على أن جذورها عندنا نحن المسلمين مُكوَّنة من الأخذ بمجرى سنة الله الكونية في عقوبة الخروج على منهج الله، وتحدِّي سلطانه وقَدَره.. وعلى ظاهرة التنافي بين جفاف الحضارة المادية وأشواق الرومانسية سار بودلير في قصيدته؛ فقد أصبح الزمن عنده رمزاً كريهاً للحضارة، وحشد قصيدته بصورٍ للنور والجمال والنشوة تغرق في الظلام الدامس الرطب الرهيب.. مشيراً إلى فقدان الأمل المتبقِّي في غروب الشمس، متَّخذاً من الظلام متعته وملاذه عن تفاهة التقدم!!.. وأما الصُّور فأكثرها لا يحتاج إلى تحوير من لغتي بعد فهمي لرمزها؛ فصار النص بشعر التفعيلة مِن مترجمٍ لا يجيد لغة ثانية هكذا:

[أيُّ شيئ في الدُّنى يا شمسُ.

يخلب الأسماع والأنظارا.

غير إشراقك بِكْراً يبهر الأنوارا.

يُشعل الأقطارا.

ويحيِّيْ ناعسَ الأكوانِ.

بشعاع ثار كالبركان؟!]

فتشبيه الإشعاع بثورة البركان صورة لا تحتاج إلى تحوير؛ لأن العلاقة نفسية تجعل ألم الإشعاع في النفس كصخب البركان الثائر في السمع، وبقية القصيدة كما يلي:

[فاغربي يا شمسُ.

واحجبيْ عن ناظريْ الأضواءَ.

إن في إشراقك الأرزاءَ.

وانشري فوق المُحَيَّا ستراً.

فأناغي خفْراً.

وأحيِّي عطراً.

دامساً أشهى من الأحلامِ.

يُسْعد الأجيالا.

اُغربي يا شمسُ.

وانشري الهدأة في الآفاقِ.

إنَّ هذا الكون قد ضجَّ من الإشراقِ.

ضجَّ ينبوعٌ وآثار وأزهارُ.

ثمَّ أغْضَى نرجسٌ ذو ألحاظِ

كقلوبٍ تحت عينيكِ تبدَّت تَتَشَكَّى..

رعْشةَ العُشَّاقِ.

يا رِفاقي حَرِّكوا الأقداما.

نحو أفقٍ تتوارى فيه شمسٌ تبعث الإلهاما.

عَلَّكم تلتقطوا ومْضاً من الإشعاعِ.

أو تروا سعيكم ضرباً من الإفلاسِ.

أُغربي يا شمسُ.

إن هذا الكون ضجَّ من الإشراق.

وهفا لِلَّيلِ إذْ لا قمرٌ أو شمسٌ.

إذْ يبثُّ الرعبَ والإظلاما.

وترى الأكوان غرقى في الظلام الرطبِ.

وأرى رائحة القبرِ.

هزَّت الأرجاءَ.

وأرى أقدامي.

تستحق المستنقع الضَّحْضاحا].

قال أبو عبدالرحمن: رائحة القبر توقُّعٌ بسقوط الحضارة التي تسلب المشاعر الفردية المنعزلة عن صخب الحياة.. مع ما في الحضارة من إكراه وتأميم لمشاعر وهموم الفرد؛ فتجعله آلة مُجَرَّدة من أشواق الروح وتحليقها، ومن شفافية المشاعر القلبية.. وإليكم هذا المثال الآخر بترجمة الدكتور صبري حافظ ديوانَ القِطط لإليوت الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1986م؛ ففي مقطوعةِ (تسميةُ القطط) لَمَّا ذكر الأسماء العاديَّة قال:

[لكني أقول لك أن القطَّ يحتاج اسماً خاصاً.

اسماً غريباً موحياً بالأُبَّهة.

وإلا كيف يمكنُه أن يحتفظ بذيله قائماً.

أو ينشُرَ شوارِبَه ويمُدَّها للأمام.

أو يزهو بنفسه في عزَّةٍ وكبرياء.

ومن تلك الأسماء الغريبة.

يمكنني أن أُزَوِّدك بحِفْنَة.

مثل مَانْكُوسِتْراب كِويكْسُو كُوريكُوبات.

مثل بُومْبَالورينا أو قُلْ مثلاً جيلى لورام.

أسماء لا تُسمَّى بها أكثرُ من قطةٍ واحدة.

ولكن علاوَة على هذه الأسماء وبالإضافة إليها

يظلُّ هناك اسمٌ باقٍ.

وهذا هو الاسمُ الذي لن تتمكنَ من تَخْمينِه أبداً.

وهو الاسمُ الذي لا يستطيع أيُّ باحثٍ بشري أن يكتشِفَه.

فحينما تُشاهِدُ قِطاً وقد استغرق في تأمُّلاتِهِ العميقة.

فإن السبب دائماً ما يكون أقول لك.

إن عقله مشغول بتأمُّل عُلْوي.

في التفكيرِ والتفْكيرِ والتفكيرِ.

في اسمه.

اسمه الغامض المُلغِز السِّرِّي.

اسمه الوحيد المتفرِّد.

الذي لا يُبَاحُ به أبداً].

قال أبو عبدالرحمن: لعل الصواب (يكون دائماً ما أقول)، وإليوت الشاعر الرائد الذائع الصيت ما قال عبثاً، وما قال كلاماً مباشراً.. ولكننا أمام كلام نثري عادي، وفي آخر النص لم نفهم الفكر العلوي للقط، وهو فكر لا يستطيع أي باحث بشري أن يكتشفه؟!.. إذن هو -أي القط- غير مُفَكِّر؛ فإن اكتشف الباحث أنه مفكر فقد فهم فكرَه؛ وإنما هو لم يكتشف ماهيَّة عمله في التفكير.. ولم نحظ من الدكتور صبري بأيِّ متعة فنية جمالية بنقلها إلى لغتنا؛ وإنما أفادنا ثقافياً بقوله ص 100: «هذه أسماء غريبة بحق يتَّبع فيها إليوت أسلوب النحت اللفظي الذي يستهدف الإيحاء ببعض دلالات الكلمات دون الالتزام بمعناها الحرفي؛ فالاسم الأول يلعب فيه إليوت على صوت كلمة القرد وكلمة الراهب معاً بالإضافة إلى كلمة شريط، والثاني مقتطع من صفة كيشوتي التي تشير إلى دون كيشوت بطل رواية سيرفانتس الشهيرة، والثالث اسمه غريب يلعب على أصوات أو مجتزءات صوتية من كلمات لاتينية.. وويلشيه تعني شبيه التاج أو الجلد اللامع، والرابع نحت من كلمتي قنبلة وكلمة راقصة مع تحريف في بعض حروف اللين، أما الخامس فإنه نحت من كلمتي الجيلاتين اللزجة وكلمة لاتينية أخرى لها علاقة بالحكمة والمعرفة.. ولا يعني هذا أنه من الممكن ترجمة أيٍّ من هذه الأسماء حرفياً؛ فقد غَيَّر إليوت هجاء هذه الكلمات حتى يَبْعَد بها عن أصلها دون التضحية بإيحاءات الكلمات [يعني دلالةَ حروفها الهجائية في تركيب المُفْردة] الأصلية النغمية والصوتية والدلالية في بعض الأحيان».

قال أبو عبدالرحمن: هذه إفادة ثقافية نفرح بها وإن كانت ناقصة، وهذا العمل لا رائحة فيه لترجمة نصٍّ أدبيٍّ نتذوَّقه بمعايير جمالية؛ فهل الترجمة الأدبية متعذِّرة؟.. كلَّا لو كان أديباً فناناً في اللغتين أو في لغته الأم وحسب؛ فما الحيلة إذن؟.. وجوابي عن هذا الإشكال لو أُعْطِيتْ الترجمة حَقَّها: أن يكون عملُ المترجِم هو عَمَلَ مُحَقِّق المخطوطات؛ فيضبط النص حرفياً كما هو في لغته الأجنبية بالنسبة للأسماء، ولا سبيل إلى ترجمة الأسماء إلا باقتراضها كما هي.. ثم يُبَيِّن في الحواشي مُسَمَّى كل اسم من الأحياء والجوامد، ثم يذكر المعنى الدلالي الكُلِّي من اقتران هذه الأسماء وترابطها؛ لتحصل الإحاطةُ بفهمِ معنى النص في نفسه، وفهم دلالة معناه المراد الذي هو فِكْر النص بِتَلَقٍّ عقلي، وفهم المعنى الرمزي المراد من مُسَمَّى ما كالقرد الذي يؤخذ من خصائصه وأحواله دلالات كما يؤخذ من دلالات الألوان رموز أخرى، أو إيحاء النص بتلقٍّ بلاغي جمالي.. وههنا أَنْهَى المُتَرْجِمُ بعض المهمَّة علمياً وفكرياً في ترجمته نصاً أدبيَّاً، وبقي توصيل النص بأداء إيحائي جمالي؛ ولذلك حديث يأتي.. وأما أنَّ شرْحَه الذي أسلفته عمل ثقافيٌّ نفرح به ولكنه ناقص: فلأنه أعطى المُتَلقِّي مِفْتاح المراجعة إن كان يستطيعها، وليس كل أديب عربي يستطيع ذلك؛ فأول ما يواجهنا من النقص أن (ديوان القِطط) تعاملٌ ذكيٌّ بين القطِّ المُفْترِس وبين الجرذ العجوز ذي التجربة والدهاء الذي يريد أن ينجو بنفسه وصغاره من افتراس القط.. ولهذا التصوير الواقعيِّ دلالةٌ أعمُّ من العلاقة بين الضعفاء والأقوياء من البشر، ومُقَدِّمة المترجِم لم ترسم لنا الصورة بلغة أدبية نثريةٍ مُبسَّطة يعرفها القارئ العربي ذو اللغة الواحدة؛ فإذا تلقَّى التصوُّرَ الكليَّ الفكري عن العلاقة بين الجرذ الذكي الخائف والقط المُفترِس، ثم تصَوَّرَ مدلولَ ذلك وإيحاءَه في العلاقة بين أصناف البشر: حصل له تصوُّر كُلِّي يَسْهُل به هضْمُ الصور الجزئية المتتابعة خلال الديوان.. وأكتفي ههنا بظاهرتين عن شرح المترجِم، وأنه إحالة إلى المراجعة، وليس هو تبسيط ما يصبح مفهوماً مِن غير مُراجَعة، فما كل أديب عربي بمستطيع ذلك؛ فالظاهرة الأولى تخلُّفُ الإراحة ببيان صفة (كيشوتي) في رواية (سيرفانتس)، ودلالة تلك الصفة في سياق إليوت، وقد تكون بعض الروايات المُحال إليها غير مُعَرَّبة؛ فيبقى المتلَقِّيلعربي غير منتفع بجزئيات القصيدة من جهة دلالتها وإيحائها.. والظاهرة الثانية أنَّ ما أجمله ولم يُبَيِّنه أضاع على العربي فهم العلاقة بين مفردات من جهة أصواتها، ومن جهة علاقة الكلمات المنحوتة بالحكمة والمعرفة؛ فالمُتلَقِّي العربي لن يفهم شيئاً من ذلك -لا من الناحية الثقافية، ولا من ناحية المنفعة الجمالية-، وسيظلُّ غيرَ مُسْتَوْعب حتى تُبيَّن له تلك العلاقات ببيان جليٍّ فكراً وعلماً؛ لتحصل له ثقافة النص الأدبي.. ولن يستمتع جمالياً حتى تعبِّر له بصورٍ من لغته العربية فيها أصوات ونحت وعلاقات يكون مدلولها إيحائياً جمالياً.. وأما الترجمة الأدبية الجمالية فإذا عُدِمَت الصورة المطابقة بين اللغتين، وعُدِمت الموسيقى المطابقة في آداب اللغتين: فإنه من الإمكان الترجمة الإيحائية الجميلة بالمعنى بطريق المُقارَبة؛ ولهذا حديث يأتي إن شاء الله في مقارنة ترجمات لمقطوعة من رباعيات الخيام.. ولا ريب أن المترجِم إذا كان أديباً فناناً في اللغتين هو أقدر على تحديد اللحن بِنِسَبهِ الزمانية والمكانية إيقاعاً ونبراً، وهذه القدرة مشتركة بين الفنانين وإن لم يُجيدوا اللغتين إذا سمعوا اللحن وإن لم يفهموا معاني مادته من الألفاظ بِرَصْدِهم تموُّجات الصوت.

قال أبو عبدالرحمن: وهذا مثالٌ شعري ثالث من كتاب (غيمة في بنطلون وقصائد أخرى) للشاعر الشيوعي (ماياكوفسكي) [1893- 1929م] مات مُنتحراً غير مأسوف عليه، وعمره ستة وثلاثون عاماً.. صدرت الترجمة بقلم رفعت سلَّام، وصدر عن المجلس الأعلى للثقافة بطباعة الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية بالقاهرة عام 1998م، واستفتح بمقدمة مُتَحَذْلِقَة تجعل الواضح غامضاً، وهو عن مسار الحركة الشيوعية، ومسيرة حياة (ماياكوفسكي) القصيرة خلالها، ثم أتبعها بمقدمة الشاعر، وهي تعريف بنفسه، وبمسار حياته، وبالتأريخ لأعماله الأدبية، وبموجز تاريخ عصـره، وبشيئ قليل مما قيل فيه؛ فهي سِيرة شخصية ومذكرات مُخْتَزَلة بإيجاز.. وأكتفي بشذرات من القصيدة الأُمِّ (غيمة في بنطلون) التي كتبها في عامي 1914- 1915م قبل انتحاره بأربعة عشر عاماً وعمره اثنان وعشرون عاماً.. والقصيدة طويلة جداً مليئة بالصور؛ فهي فوق الترجمات النثرية التي مرَّتْ، وأما اللحن والإيقاع والنبر فلا سبيل إليه في هذه الترجمة.. نجد من الصور خلال الافتتاحية الشعرية (ما مِن شَعْرة رمادية في روحي)، وهي كناية تنفي أَلَمَ الشيخوخة في النفس، وهو يجعل الغِناء سبيل التنفيس عن فيوض الحُبِّ الوامِق.. إلا أن العاشق المُرْهف أداته (الكَمَان)، وأما الأجلاف [ولو ذكر العاديين الشعبيين لكان أذوق؛ لأن الحب لا يدخل في جِلْفٍ] فأداتهم الطبل.. ومن البديهي أن الضَّنى يجعل المُضْنى روحاً بلا جسد؛ فهذا المَعْنى أصبح على المدى عبارةً شعبية موجزة أفسدها بهذه الصورة الطويلة المتحذلِقة:

[لكن هل يستطيع أحد أن..

يقلب داخله في الخارج مثلي

ليصبح لا شيئَ سوى شفاهٍ

بلا جسد أو أعضاء].

ولو كانت هذه الافتتاحيةُ افتتاحيةً رومانسية لقلتُ: (لعلَّ المترجِم هو الذي عجز عن أداء الصورة التي تعني أن المُضنَى روح بلا جسد)، ولكنَّ الافتتاحية من شيوعي غِرٍّ غرير ثائر على الرومانسية، يريد أن يكون الفرد آلةً صمَّاء بلا مشاعر؛ فداخِلُ هذا الماركسيِّ الذي يفخر بقلبه في الخارج هو مشاعره الفردية، وتأميمها للجفاف الشيوعي؛ وحينئذٍ لا يكون رومانسياً -كأن المشاعر محصورةٌ في الرومانسية- ليس عنده جسد ولا أعضاء، بل هو شبح هائم مع شفة الحسناء.. ومن واجب المترجِم أن يبين هذا المَقْطع الثوري بما يَعِدُ به؛ فلا يُغَرَّ المتلقِّي بأن الافتتاحية رومانسية من أجل الغناء والكمان والشفاه والضَّنَى، وإلى لقاء، مع تحليل بعض هذه القصيدة إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتِّكال.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب