Monday 20/01/2014 Issue 15089 الأثنين 19 ربيع الأول 1435 العدد
20-01-2014

سفاهة الترف تسبق الموت بالجوع

من يريد التعرف عن قرب على أشد أنواع الترف سفاهة وتبذيرا، فليشاهد مكبات البقايا في صحراء أم رقيبة. من لا يستطيع الوقوف عيانا عليها يمكنه الاطلاع على الصور التي تتناقلها مواقع الاتصال الاجتماعي. مساحات كبيرة من الصحراء تغطيها اللحوم والشحوم والزيوت والنشويات والخضراوات والفواكه، وهي بقايا التجمعات المهرجانية في تلك الصحراء التي لا تنبت زرعا ولا تدر ضرعا يضمنان الاستقرار المعيشي.

المتبارون في تقديم الحفلات والولائم يسمون هذا التبذيركرما، وهم أحفاد من كانوا بالأمس يتقاسمون التمرة ويتقاتلون على ناقة عجفاء ومورد ماء شحيح. هم يعرفون أن ممارساتهم في صحراء أم رقيبة ليست كرما، وإنما مباريات جاهلية في التطاول الاجتماعي. المصيبة الكبرى هي سكوت من يملكون رد الأمور إلى مجرياتها الشرعية في وجوب احترام نعم الله.

تمكنت التجمعات القديمة المتناثرة في الصحاري العربية والخليجية من البقاء عبر التاريخ على الحياة بعبقرية الربط بين الاستهلاك وشح الموارد، وكان الكرم في تلك الظروف بالفعل من شيم الكرام. تغيرت المفاهيم والشيم وقدرات التكيف مع شروط الصحراء حين جاء إلى القوم من يستخرج لهم النفط ويولد الكهرباء ويشق الطرق ويوفر المواد الاستهلاكية مقابل ما يقبضه هو من ثمن. الثمن كان فادحا، ولا أكثر فداحة من فقدان الإرث التاريخي في التعامل مع البيئة، مقابل بضع سنين من الفلتان الاستهلاكي.

لم يكن في تلك المجتمعات قبل خمسين عاما شيء اسمه بقايا أطعمة ولا حتى بقايا قشور، ناهيكم عن عبوات أدوية شبه مليئة ومعلبات نصف فارغة وسيول مياه تجري من تحت المنازل والسيارات. البقايا من كل بيوت أي تجمع سكاني آنذاك كان يمكن جمعها في كيس واحد لا يوجد في محتوياته أي شيء صالح للتدوير وإعادة الاستهلاك. البيت الواحد كان يشرب ويغتسل ويغسل بقدرين أو ثلاثة من المياه.

القانون الإلهي للحياة محدد بكل وضوح. لا تهلك أمة دون أن تكون قد استحقت الهلاك بما تفعل. اندثار الأمم لا يكون بالضرورة بفناء كل أفرادها، بقدر ما يكون بالتفريط المادي والأخلاقي وانقطاع الصلة بينها وبين المفاهيم العقلانية للحياة الموازنة بين الاستهلاك والإنتاج.

أهمية الموضوع تستوجب المقارنة بين التعامل السفيه مقابل التعامل العاقل مع عناصر الحياة. كل الأمم الآسيوية المجاورة لنا مرت بنفس مراحل الضعف والانكسار التي مررنا بها مع ما صاحبها من كمون فيما يشبه البيات الشتوي كمحاولة للبقاء على قيد الحياة بأقل مصروف من الطاقة. هذه الأمم المجاورة لنا استمرت بعد استيقاظها الحضاري في التعامل بشرطية النسبة والتناسب بين الاستهلاك والاستنتاج. جميع المجتمعات الآسيوية والأوروبية التي نهضت من سباتها الحضاري في القرن الماضي كانت مجتمعات تقشفية تستند إلى عقلية تراثية عريقة في التعامل مع البيئة والموارد واستمرت كذلك حتى اليوم، إن لم تكن تقشفية فبالتأكيد عقلانية ومتحسبة لعودة الماضي.

فيما مضى كانت المجتمعات الصحراوية (التي أصبحت اليوم نفطية) تمتلك نفس عقلانية الربط التقشفي بين ما تستهلكه وما تنتجه. الآن يبدو أن هذه العقلية قد ضاعت، تبخرت، أهدرها سفهاء الاستهلاك وانجرف وراءهم المنافقون في المزايدات الطبقية.

الاستهلاك السفيه ليس حكرا على مهرجانات أم رقيبة، لكنه في ذلك المكان الصحراوي المنقطع وحديث العهد بالترف وكفر النعمة، إنه هناك يطبق مثل الجبال على قلوب العقلاء ويزيد القطاع الجائع من المواطنين (وهو ليس بالصغير) حنقا على مجتمعهم ووطنهم. هل هذا ترف ما قبل الزوال الذي حددته الشرائع السماوية؟.

- الرياض

مقالات أخرى للكاتب