Saturday 25/01/2014 Issue 15094 السبت 24 ربيع الأول 1435 العدد
25-01-2014

جابر .. السطر الأخضر في الجفاف..!!

هناك من المواقف التي قد نراها عابرة، لا أهمية لها، بينما تكون هي مادة غذائية لفكرة ما، ولموقف آتٍ، ولملاحظة غافية، ولمقارنة واردة، ولنتيجة راجعة، ولقرار مبرهن، بل لابتكار مسألة جديدة، ونمذجة بشرية، منهج موضوعي، ومحتوى تعليمي، وتربوي، بل إبداعي قد لا تأتي بذور كل ذلك للمرء في لحظة مرورها تلك المواقف..، وإنما يكون في تدوينها ما يمكنه من ذلك حين يفرغ لمدونته فتكون له سجلاً ثرياً بما يمر به، ولم يغفل عنه..!

فالملاحظة أس الابتكار، ومنجم الإنجاز..!

وإن لم تفعل، فلا أقل من أن تمد المرء بحكمة ما، وتمنحه أرضاً خصبة لمرسى اطمئنانه في الحياة، حين تؤكد له مدونتُه على مر الوقت أنه يتعايش بوعي، ويتآلف بفهم مع ما حوله..!!

دوماً كنت أسأل أبنائي، بل «طالباتي» أن يدربن انتباهتهن للالتقاط السريع، ولأهمية أن يتعودن تدوين كل ما يلفت هذه الانتباهة فيهن، ليس فقط ما يرين في سلوك البشر، بل في كل حركة في كون الله المتاح لمداركنا المحدودة في مراحل دبيبنا على الأرض..!!

عليه حرصت ولا أزال أدون ما يلفتني..

وللإنسان شأن طويل مزمن في مدونتي..،

وهو يمر في الشارع، وفي السوق، وفي ممرات المصحات، والبنوك، والمطارات..،

ولا زلت أذكر ذلك المقال الطويل الذي نشر في صفحة «حروف وأفكار» بجريدة الرياض ذات يوم، عن أربع عربات اشتركت في اللون، وفي النوع، وفي سنة التصنيع، وجهته، لا يختلف فيها سوى السائق، وأنفاس الراكبين، وحين كانت جميعها تقف على صفي المسار عند تعطل إشارة المرور، عند عودتي من الجامعة في قيظ يوم حار، وهي بجواري، أقمت بينها حوارا، تخيلت، ففندت فيه انطباع كل واحدة من العربات الشقيقات الأربع اللاتي فرقهن البائع، لتدلي كل منهن تجربتها في الشارع، وعمن يسوقها، وكيف يتعامل معها نفسه، وهو يتصرف في داخلها، وهو مع غيره، الشارع ونظامه، ومن يركبها، وما يدور فيها..، وقد كان لذلك المقال صدى ما كنت أحسب أنه سيكون بعدما بسطت سطور مدونتي، وانطلقت حينها..!

بالأمس القريب كان إلى جواري في الطائرة طفل صغير، امتدت يده بيني وبين نافذة الطائرة فلم تطل، قال : «خالة لو سمحت تفتحين النافذة»، فتحتها وأنا أقول له: أبشر... ضحك طويلاً حتى ضحكت من كركرته البريئة العذبة..، إذ دعتني لسؤاله ما سر ضحكاته..؟ قال: كلمة «أبشر»..!!

ولا زلت أنظر إليه بفرح وهو يواصل: «هناك أجهزة كأجهزة الصراف الآلي اسمها: أبشر»، أدهشني سعادة به، وبمقارنة الذكية، وفطنته البريئة، أسعدني الله بمجاورته في الرحلة..

ثم واصل يفند معرفته الفرق بين الاستخدامين، لكنه قال: «عفواً خالة أنا أمزح، صحيح لا أعرفك لكنك من بدأتِني بالسلام»..!

قليلاً، وقال : اسمي جابر.. وأنتِ؟

قلت له اسمي فالتقطه ليشرح لي معناه، وضحك من جديد، ثم أردف: «لا تسأليني الآن عن سبب ضحكي، تعلمين يا خالة أنهم الآن لا يذكرون اسم جمعية خيرية إلاّ بعد أن يضعوا اسمك قبل اسمها...،»... أضحكني جابر كثيراً..، نباهته، وفطنته، وسرعة بديهته، وانطلاقة لسانه، حصنته بآيات الله، ومشيئته، وقوته، وحوله العظيم..

ثم قال : «طيب سأقول لك معنى اسمي : أنتِ لا تعرفين بأن هناك قصة «جابر عثرات الكرام»..؟!..

استلهمته أن يخبرني، فأمام هذا الصغير تُستلهم القصص..!

قال : «أمي تقول إنها كانت تقرأ في كرم العرب، فاختارت لي هذا الاسم، وأنا أجبر خاطر الفقير في المدرسة فأعطيه مصروفي، وأقسم بيني وبينه وجبتي..»..!

«جابر يا خالة ليس لنفسه، وعدت أمي بهذا..»..!!

جاءتني أمه تعتذر إن كان جابر قد أزعجني..؟!،

وقفت لها إكباراً، وتقديراً أن أحسنت محضنَه ..، وأكرمت إنسانيتَه..، وأخلصت وفادتَه..

فأبناؤنا زائرون ما يلبثوا أن يغادرونا ويمضوا..!

لم تقف الطائرة إلا بعد أن اتفقت أنا وجابر أن نكون صديقين..، يعلمني، وأتنامى معه من جديد...!

كان أجمل من نزل مدونتي..

اللهم احفظ جابر لوالديه، لنفسه، لمستقبل يزخر اخضراراً ..

به دب في مدونتي الرواء، ولاحت به خضرتها بعد أن كساها شحوب الذي في الأنحاء..!!

وجبر خاطر أحلامي، وأمنياتي، ومخيلتي..

عنوان المراسلة: الرياض 11683 **** ص.ب 93855

مقالات أخرى للكاتب