Wednesday 29/01/2014 Issue 15098 الاربعاء 28 ربيع الأول 1435 العدد
29-01-2014

ليس ختاماً لسيرة دراستي الجامعية بأمريكا

قبل أن أغادر مرحلة دراستي الجامعية بأمريكا أحتاج أن أعرج على أمرين. الأمر الأول ينصب على البدايات الأولى لدراستي الجامعية ببيروت. وهذا الأمر ربما أؤجله لعودة أخرى لو قدر لهذه الكتابة من سيرة الدراسة والعمل أو ما سميته بزهرة العمر أن تكتمل بما قد يسمح في مرحلة،،

لاحقة بتجسير ماسكتُ عنه من فجوات التجربة أو ما تركته كفراغات مواربة أو شاهدة على غياب متعمد أو حضور مموه بمسحة من الغموض. الأمر الثاني يتعلق بتجربتي التعليمية نفسها بأمريكا.وفي هذا الأمر سأمر بالمزيد من ملامح تلك التجربة التعليمية مما كنت قد لامست بعضه في حديثي عن علم الاجتماع وأساتذتي في ذلك التخصص وولعي الشعري دراسيا وهو مع ما توقفت فيه عند انعكاسات طبيعة المرحلة السياسية الاجتماعية بأمريكا على تيارات الفكر الأكاديمي ونشاطاته الصفية واللاصفية. أما هنا سأتناول التجربة التعليمية من زاوية أخرى غير زوايا البصر السابقة. أريد أن أتناول التجربة التعليمية بمعناها المعرفي العميق وليس بالمعنى البرجماتي لعملية التعليم الجامعي. فبالمعنى الأخير يصبح الحديث عن التجربة مجرد تسجيل لمجمل التجربة ولمعطاها الغائي أي النتيجة النهائية التي تتوجت بالحصول على شهادة جامعية في تخصص علمي في مجال من مجالات العلوم الإنسانية أو الطبيعية. أما تناول تجربة التعليم الجامعي بالمعنى المعرفي العميق فيصير حديث الروح عن طبيعة تفاعل العقل والوجدان والمرجعية الثقافية والجسد والشعور واللاشعور مع العلمية التعليمية كتجربة إنسانية عميقة على مستوى معرفي وحياتي. وكذلك حديث عن الشغف والتحديات العقلية والقيمية والفكرية والعاطفية التي لابد أن تواجهنا في أي عملية تعليمية لا يكون الهدف منها والطريق إليها إلا الحصول على درجة علمية بأقل تغيير, وبأقل تفاعل وبأقل تحدي ممكن وأكثر الطرق حيادية وأقلها قلقا. وللتوضيح فالفارق بين نوعي التجربة كالفارق بين من يمشي بمحاذاة البحر وبين من يرتمي في أحضان الماء ويواجه احتمالات الغرق ويقبل الخوض في تحديات التجربة بجروحها ومنجاتها.

الفرق هنا شبيه بالفرق بين من يرى خيط نور فيسعى في فجاج اليابسة وظلمات البحور يهبط الأودية،يتسلق الجبال،ينغمس في قيعان الماء،يدق جدران المغارات،يهز أشجار الغابات ووحوشها, يقلب درجات السواد في الليل وأطياف العتمة في النهار بحثا عن أنواع القبس في كل منها ليأتي بباقة متنوعة من الضياء وبين من يستعير خط كهرباء من الجيران أو يضيء شمعة لمجرد أن يهش عن وجهه ذباب الظلام دون أن يجرب دوار الضوء وشهقات الانخطاف. فالعملية التعليمية في تجربتي الدراسية لم تكن الكورسات الإلزامية والاختيارية التي درست كلاهما حبا وكرامة بما تكلل حمدا لله بزهوي في موكب التخرج مع مرتبة الشرف, ولكنها كانت أبعد مدا من لك . فقد اشتملت أيضا على تلك الرشفات الصغيرة من مختلف مناهل الألم والأمل والتفاعل العلمي والعملي مع تموجات الحياة اليومية التي تتحول بها عادة البذور الصماء إلى بساتين مشتعلة بالسواد والبياض معا.لم أكن أصدق كم أنا محظوظة بهذه التجربة التعليمية الرائدة بحلوها ومرها وبنجاحاتها الصغيرة وتحدياتها الكبيرة. وكان سؤال التحدي الملح في حياتي المعرفية الذي لم أطرحه على نفسي وقتها بنفس الوعي الحالي ولكنني وجدتني حينها متورطة بأنواع شتى من إجاباته الموجعة أو الممتعة هو سؤال، هل كان يمكن لفتاة صغيرة لا تملك من الأجنحة إلا أخيلة جامحة أن تتطير وتعود من السموات بحفنة نجوم ورشة ماء تنثرها على أرضها المشتاقة إلى كل مشتقات الهواء من الكلمة الحرة إلى رد الاعتبار الحضاري بين الأمم. غير إنني سأترك جانبا هاجس السؤال وأتجه مباشرة لتقليب الاحتمالات.

كان من الأخلاط السرية التي أعطت لتجربتي المعرفية مسارات أعمق من ذلك المسار الغائي المرسوم بين نقطة القبول بالجامعة لنقطة استلام الشهادة مكون بسيط معقد أسميه مكون الكيفيات. وأقصد بذلك الكيفية الدراسية والكيفية المعيشية للتجربتين العلمية والحياتية بأمريكا . فبينما كان من الممكن أن يكتفي في التجربة الدراسية بالجانب التعليمي الصفي لتخصص مثل تخصص علم الاجتماع كما يجري اليوم وبعد ربع قرن بجامعة الملك سعود وسواها من مؤسسات التعليم الجامعي بما فيها جامعات الخارج, فقد درست معظم مقرراتي بين الفصل وبين الفضاء العام. وهذه الكيفية بحد ذاتها استطاعت أن تمد بعدا إضافيا للتجربة المعيشية والعلمية معا. فحضرت عددا من جلسات المحاكم الجنائية والسياسية بل والمرورية سواء في علم الاجتماع الجنائي أو في علم الاجتماع التنظيمي أو السياسي. حضرنا أيضا بل وشاركنا في متابعة الترشيحات والانتخابات من كواليس ومهرجانات حملات انتخابات الرئاسة إلى حملات المجلس البلدي.

كنا ندرس علم اجتماع الأدب والمسرح والسينما عبر مسرحيات كلاسيكية وحديثة تقام في الهواء الطلق للحرم الجامعي بلوس أند كلارك, من ماكبث وهاملت شكسبير إلى جودو صمويل بكيت. بالإضافة للتحليل السيسيولوجي لكلاسيكيات السينما د.زيفاكو وذهب مع الريح بما تمثله رواية مارجريت ميتشل من لحظة عاطفية موجعة أمريكيا في استرجاع الحرب الأهلية في الصراع العرقي و الطبقي بين ولايات الشمال وولايات الجنوب الأمريكية. بل أنني أذكر وقتها استجابة عدد من زملائي وأستاذتنا لتلك المادة اقتراحي بحضور فيلم (الرسالة لمخرجه مصطفى عقاد عن الرسالة المحمدية صلى الله على سيدنا محمد وسلم أفضل تسليم) الذي كان يعرض نهاية السبعينات في أحد دور السينما غير التجارية بوسط البلد.

كنا نذهب أيضا كجزء من دراسة علم الاجتماع للفوارق الطبقية العميقة بالمجتمع الأمريكي إلى أماكن ما يمكن أن يكون «منطقة عشوائية « بمدينة بورتلاند . ومنه تلك المنطقة المسماة بـ»البرن سايد « وما يعرف اليوم بمنطقة اللؤلؤ Burnside، pearl distract

وكانت المنطقة وقتها على خلاف التحول السياحي الذي تشهده الآن, مجرد منطقة رثة يرتع فيها الفقر ويتخبط على أرصفتها «المشردون» ممن يسمون بالهووملس.Homeless

فكنا لا ندرس التفكك الاجتماعي والآثار الكارثية المسكوت عنها للرأسمالية من أنواع الإدمان والفردية الضارية والتهميش الموحش لقيمة الإنسان . إلا أن ذلك لم يكن من خلال دراسة كلاسيكيات التنظير الوظيفي وكتابات ماركس وإنجلز ونظريات الاغتراب فقط، بل وأيضا من خلال دراسة التنظير النقدي الجديد. مع عدم الاكتفاء بالتنظير النقدي الفرانكفورتي وسواه من ماكس هوركهايمر ، ثيودور أدورنو ، والتر بينجامين ، هربرت ماكوز ، ليو لوينتال وفريدريك بولّوك إلى إريك فرومّ وغيرهم، بل كنا عبر منهجية الإثنو ميثودولجيا ندخل محاولات تجريبية تتجاوز الطروحات الأولية لمؤسسي هذا التيار السيسيولوجي أمثال هارولد غارفنكل و أرون سيكورين . فنذهب بعيد في الربط بين الجانب النظري والتطبيقي لعلم الاجتماع لنخوض غمار مغامرات ميدانية تغوص بنا إلى رمانة الكتف في الواقع الاجتماعي بما لا يخلو من مخاطر من يدخل يده في أتون النار أو في جحور الضباع والثعابين والنحول.

فكان لتلك الكيفية التعليمية الميدانية تأثير عقلي ووجداني بل واجتماعي يتعدى المعطيات المعتادة لعملية التعليم فقد أدخلتنا حيزا ميدانيا لأمكنة لم تكن جديدة فقط بل إننا لم نكن لندخلها في الدور الطلابي التقليدي. ما أتاح لنا الاحتكاك عمليا بالحس اللوجستي والحضاري والنفسي للمكان ولأطره المؤسسية ولمحددات العلاقات الإنسانية ببعديها الرسمي واللارسمي فيه. وقد عرفتنا تلك التجارب الميدانية ليس على تنوعات البشر العرقية وحسب بل وعلى تنوعاتهم المهنية والطبقية والثقافية وانعكاسات ذلك على تكوينهم الجسدي وليس على تعبيرات الجسد وحسب. بما جعلتنا نجرب مواقف محرجة إما لجهلنا أو لصدمتنا الحضارية أو لتعارضها مع حس الفطرة أو مع ما نريده . وهذا شجعنا على أن نطور مواقف مما يجري مع أو ضد وأعطانا حيزا حرا لتكوين الرأي وتغيير الرأي نجهر بمواقف لم نكن لنكونها لولا تلك الكيفية الميدانية التي لا يمكن فيها الاكتفاء بهز الرأس موافقة أو استنكارا أو حيادا محاذرا لما يلقى في محاضرات نظرية بحتة.

هذا على مستوى الكيفية المعيشية في بعدها المعرفي التعليمي لدراستي الجامعية بأمريكا، أما الكيفية المعيشية في بعدها الحياتي اليومي فهذا ما أترك تناوله للمقال القادم من هذه السلسلة في تجربة زهرة العمر لتجربة العليم والعمل.

Fowziyaat@hotmail.com

Twitter: F@abukhalid

مقالات أخرى للكاتب