Thursday 30/01/2014 Issue 15099 الخميس 29 ربيع الأول 1435 العدد
30-01-2014

هل صلاح التربية يكفي لمحو الفساد؟

لو طرح السؤال بهذه الصيغة: (ما الذي يجعل الناس صالحين؟) لوجد أكثرنا الجواب سهلا؛ إذ سنقول: بإتباع شرع الله والمخافة منه، وبالتربية على أسس الدين الحنيف. لن يجد هذا القول معارضة من أحد، لأن الله نهى عن الفساد نهيا قاطعا، حيث قال في محكم كتابه الكريم: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.

لكن الفساد لا يظهر إذا وجد من يترصد له قبل أن ينشأ أو قبل أن يستفحل. وقصة أبى هريرة -رضي الله عنه- مع الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- معروفة؛ وهي استنكار عمر لما حسبه أبو هريرة من ماله الخاص، مثل ما وصل إليه من هدايا عندما كان واليا على البحرين، فسأله عمر ( من أين لك؟)، فلما أخبره بمصدرها لم يشك في أمانته وإنما أمره برد نصفها إلى بيت المال، لأنها وصلت إليه في أثناء ولايته على البحرين. وفى بلد علماني مثل ألمانيا سيكون الجواب على سؤالنا: (بإتباع النظام والتربية الجيدة). في ألمانيا أطيح قبل سنتين برئيس الجمهورية (كريستيان وولف) لأنه قبل - خلال توليه مسؤوليات حكومية قيادية سابقة- من صديق له من رجال الأعمال تغطية الفرق في قيمة إقامة في فندق أو المساعدة في الحصول على قرض ميسر من أحد البنوك يسدده من ماله الخاص، ولم يدر بخلده وقتها أن في تلك المزايا البسيطة انتهاك للقانون. القاسم المشترك بين هاتين الحادثتين اللتين يفصل بينهما أزمان ساحقة وفوارق ضخمة في الانتماء العقدي والشخصيات هو أن هذه (المزايا البسيطة) لم يكونا ليحصلا عليها بدون توليهما وظيفة عامة. وفي الحادثتين أيضا كانت هناك عين شديدة اليقظة، ترقب ما هو في صميم الحق العام. في الأولى عين ولي الأمر الفاروق عمر المعروف بعدله وصرامته في محاسبة نفسه وولاته على الأمصار عما هم مسؤولون عنه أمام الله. وفي الثانية إعلام لا يستر شيئا ونظام صارم يطبق دون تمييز بين شريف وضعيف، ورئيس أو مرؤوس. ذلك أن محاسبة الكبار على صغائر التجاوزات- ولو تم التجاوز بحسن نية أو لعدم العلم- تجعل الناس يعرفون ما يجوز وما لا يجوز، وأن أحدا- كائنا من كان- لن تشفع له مكانته في النجاة من الحساب العسير إذا تعدى على الحق العام. كيف نفهم إذن ما حدث في تركيا من فضح فساد اثنين من أبناء الوزراء الذين اتهما بقبول رشوة من إحدى الشركات الإيرانية، فأطاحت هذه الفضيحة بعدد من الوزراء في حكومة أردوغان، وهي - كما هو معروف - تمثل حزبا إسلاميا حصل على الأغلبية ثلاث مرات متتالية، واستمد انتصاراته السياسية والشعبية من إعلانه التمسك بمبادئ الإسلام. وكيف نفهم أيضا ما حدث في جدة وتسبب قبل سنوات قليلة في نزول كارثة السيول، حيث كشفت المحاكمات التي تلت هذه الكارثة عن حصول بعض ضعاف النفوس من الموظفين على رشاوى من بعض أصحاب المصالح الخاصة لتسهيل البناء في المنطقة التي جرفتهاالسيول فيما بعد. حصل هذا الفساد الكبير في بلد دستوره الكتاب والسنة ويسن قوانين صارمة ضد الرشوة. هذا مع أن كلا من تركيا والمملكة العربية السعودية يقعان في قائمة الدول ذات المتوسط الجيد من حيث النزاهة، حيث هناك دول كثيرة في مرتبة أدنى - حسب تقييم منظمة الشفافية الدولية. فالفساد - كما جاء في الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد - يعد ظاهرة دولية ولا يرتبط بنظام سياسي معين، بل يظهر (عندما تكون الظروف مهيأة لظهوره)، وحسب الإستراتيجية أيضا (فإن الفساد ظاهرة مركبة تتعدد أسباب نشوئها التي منها عدم اتساق الأنظمة مع متطلبات الحياة الاجتماعية، وضعف الرقابة). ولكن حادثة الفساد في تركيا احتاجت إلى كارثة سياسية لتنكشف، أثارتها حركة (غولن) الدينية - الحليف السابق والخصم الحالي لأردوغان. وحادثة الفساد في جدة كشفتها كارثة طبيعية -كارثة السيول. فلماذا احتاج الأمر إلى كوارث للكشف عنه؟ إن المجتمعات الشرقية - بصفة عامة- مجتمعات عاطفية، يمنح الفرد فيها عاطفته إلى القريب منه. وهذا القرب نسبيّ، فقد يكون قربا عائليا أو دينيا أو طائفيا أو قبليا أو مناطقيا أو مهنيا أو مصلحيا. العلاقات الاجتماعية تنظمها عاطفة القرب هذه فتصبح جزءا من الثقافة السائدة. وبسبب هذه العاطفية لا يكون تقييم الناس لسلوك عامة الأفراد أو شاغلى المصالح العامة موضوعيا مجردا من التأثير العاطفي. ولذلك تكتسب مثل هذه العلاقات الاجتماعية قيمة أكبر من قيمة الأداء في العمل أو الالتزام بالقوانين، ومن ثم تنشأ منطقة رمادية تصبح فيها التجاوزات في الأداء أو الالتزام أمراً غير ملحوظ ما دامت لا تخل بالدين أو الشرف أو أنها تستجيب لداعي العلاقات الاجتماعية. وهذه المنطقة الرمادية هي محك الاختبار للتربية الصالحة التي تعنى التدريب على الأنماط السليمة في القول والفعل والاعتقاد. لكن الذين يدربون (يربون) هم أيضا تعلموا وتعودوا على الثقافة السائدة بما فيها التساهل والتعايش مع تجاوزات المنطقة الرمادية التي يعلمون أنها مخالفة ولكنهم لا يرون فيها فسادا. على سبيل المثال تجاوز المسؤول إشارة المرور، أو حضور الموظف متأخرا، أو المسؤول الذي يلين للواسطة، أو الطبيب الذي يعطى تقرير إجازة مرضيه بدون مبرر، أو المسؤول الذي يحابي محسوبيه بالوظائف، ... إلخ مثل هذه التجاوزات التي لا تحسب فسادا، بل قد تقيم في نظر المجتمع تقييما عاطفيا مثل: المروءة، انخوة، الكرم، الشطارة، السماحة...إلخ. ولا يتم الانزعاج منها حتى تتكرر أو تتفشى وتتعطل منها الأعمال والمصالح. ربما يحتج البعض ويقول: أليست هذه دعوة إلى الغلو في إتباع أسلوب سد الذرائع؟ فالجواب هو أن سد الذرائع استباق لمنكر لم يقع ويغالى في تطبيقه من بعض الجهات بالحكم على النوايا. أما الحديث هنا عن المنطقة الرمادية فيدور حول تجاوزات ومخالفات (هي في الواقع منكرات أيضا) وقعت بالفعل. و هذه المنطقة الرمادية قد تصبح تربة خصبة تنمو فيها فطريات الفساد الحقيقي كما تنمو الفطريات في الأجسام الحية الضعيفة بطيئة وساكنة لا يفضحها إلا العفن. ولأن التساهل في القليل يقود إلى التهاون في الكثير فإن التربية الصالحة وحدها لا تقوى على إصلاح هذه التربة ووقايتها من عفن الفساد من دون مساندة من (قوى خارجية) تتمثل في الأمور المعروفة التالية:

الأول: حماية شؤوننا ومصالحنا العامة بشبكة من الأنظمة واللوائح التي لا تدع ثغرة مفتوحة يمكن أن يتسرب منها فساد لا يمكن ملاحظته أو ملاحقته قانونيا، أو ازدواجية في التفسير أو مرونة مطاطية تخل بأهداف النظام أو اللوائح. والمعول عليه هنا هو الجدية في التطبيق والمتابعة المستمرة بالأساليب الإدارية الحديثة الفعالة.

الثاني: الأسلوب العمري- أو القدوة الحسنة: فكما أن الأولاد يقتدون بوالديهم، كذلك المجتمع يقتدي بكبرائه من الموظفين. ومرة أخرى نعود إلى الفاروق عمر -رضي الله عنه-. فعندما اشتكى أحد المصريين لديه أن ابن واليه على مصر عمرو بن العاص قد ضربه، استدعاه عمر وأعطى درته للمصري وقال (اضرب ابن الأكرمين). ولو ذاع بين الناس أن أحد الكبراء من الموظفين قد أوقفه شرطي المرور لمخالفة مرورية، ولم تشفع له مكانته؛ وحدث مثل هذا الشيء لكبراء آخرين في مخالفات مماثلة أو مختلفة، لاستوعب الناس أن القوانين تطبق بجدية ولا تفرق بين شريف وضعيف، وأن المسؤول لا يحمي المخالفين.

الثالثة: الرقابة الذكية (أو السباقة) التي تراجع مدى سلامة الإجراءات قبل تطبيقها، والمشاريع الإنشائية والتشغيلية أهم مجال لمثل هذه الرقابة على مواصفاتها وإجراءات ترسيتها واستلام المقاول لها وتنفيذها وإنجازها. وهذه رقابة فنية تتطلب الخبرة والتأهيل والموضوعية.

وغني عن القول إن هذه الأساليب الرقابية مهما بلغت فعاليتها فهي لن تستأصل شأفة الفساد أو تمحوه من الوجود. فهناك من ضعاف النفوس والأخلاق من يتعمد الالتفاف على الأنظمة والتنكر للتربية الصحيحة، عندنا وعند غيرنا. لكنها تمنع أن يكون ظاهرة متفشية وتجعل افتضاحه ميسورا وملاحقة مرتكبيه ومعاقبتهم مستطاعة.

مقالات أخرى للكاتب