Friday 07/02/2014 Issue 15107 الجمعة 07 ربيع الثاني 1435 العدد
07-02-2014

التَّرْجَمَةُ المَيِّتَةُ، واستدراكٌ على مُقارناتٍ سابقةٍ ضِمْنَ كتابي عن (رُباعِيَّات الخيَّام) - (7 -10)

قال أبو عبدالرحمن: من أصداء فلسفة الكوز منذ ديك الجن إلى أبي العلاء المعري إلى الخيام توجد هذه الومضات عند شعراء آخرين؛ فمن ذلك قول سعدي الشيرازي:

[كم صيفٍ وشتاء وربيع فيها.

ستكون تراباً ولبنات آجر].

مختارات من الشعر الفارسي ترجمة الدكتور محمد غنيمي هلال ص221، وقال فؤاد الدين الخطيب:

عند موت عناصر الجسم تنحلُّ

تباعاً وتستحيل رغاماً

قال أبو عبدالرحمن: التفعيلات (/5//5/5 /5/5//5 /5//5/5) مع زحافات الخبن فتكون (/5/5//5): (//5//5)، وتكون (/5//5/5): (///5/5).. إلا أن الخطيب أسرف في إشباع ما لا يُشْبع مِثْلِ (وتنحلُّ) أصبحت (وتنحلو).

ثم تجري المياه فيها فتبتلُّ

(م) فيمْتصُّها النبات طعاماً

فاذكريني إذا تَكَلَّلْتِ بالوردِ

(م م) وإن شئتِ فاذكريني دواما

[أشبع تاء (شئتِ)]

غير أني بالورد أدنو على البعدِ

(م م) ففيهِ هباءُ جسمي أقاما

وانْشقيهِ فإن فيهِ أريجاً

كان مني تحيةً وسلاما

وارشفيهِ فإن فيهِ مزاجاً

عاطراً كان في فؤادي غراما

وهذا استلهام نثريٌّ باهت متكلَّف، وضرورات قبيحة متوالية عن إشباع بعض ما لا يقبل المدَّ، وفيه فهم خاطئ؛ فالموت هو فراق الروح، والجسم ينحلُّ، وانحلاله هو فناؤه عن هيئته وتبدُّلُه، فالعناصر لم تمت إلا بهذا، والموتُ حقيقةً هو فراق الروح.. وقال فوزي المعلوف في قصيدته (بساط الريح/ النشيد العاشر من حفنة من تراب) ديوانه ص 49 ضمن كتاب (شعراء المعالفة) لرياض المعلوف ط م الكاثوليكية ببيروت، وكتاب شاعر الطيارة فوزي المَعْلوف للبدوي المُلَثَّم ص 117118 طبع دار المعارف:

حين يَمْتَصُّه الثرى فَيُغْذَى

منه ما في الأديم من أعشابِهْ

يالَعمري كل النبات الذي في(م)

الأرض من زهره إلى لبلابهْ

ليس إلا عصير أجسام مَن

ماتوا فزانوا الثرى بأجمل ما بهْ

[التفعيلة (/5//5/5 /5/5//5 /5//5/5 مع زحاف الخبن والضرب (/5/5/5)]، وقال الزهاوي:

أكثر التُّرب عظام

من ضلوع وصدورِ

سحقتها أرجل الدهر

وأقدام العصور

رباعياتي للزهاوي ص 292، وهي أسلوب مباشر عادي مع استعارات مستهلكة غير ممتعة خيالاً: أرجل الدهر، وأقدام العصور!!.. وقال الزهاوي أيضاً:

ما الأرض وهي التي تمشي فوقها وتدوسُ

إلا صدورٌ وأيدٍ وأرجل ورؤوسُ

رباعياته ص299، وقال:

ثوى التراب الذي كان فوقهُ تتهادى

[الهاء في (فوقهُ) مُشْبَعَة]

منهُ أتى وإليهِ في آخر الأمر عادا

رباعياته ص299، وكل ذلك نقل عادي، وتراكم أدبي لا طعم فيه لإبداعٍ أو إضافة، وهاء (منهُ) مُشْبَعَة، وهكذا هاء (وإليهِ).. وقال ميخائيل نعيمة:

هَلُمِّي هَلُمِّي نُحَيِّي القبورْ

ونمتصُّ منها رحيق الدهورْ

عسانا إذا ما رأينا عظاماً

يفتَّق منها الربيعُ الزهور

عرفنا بأن الفناءَ بقاءٌ

وأن الحياة قبور تدور

همس الجفون 68، وهذا أداء فني أفضل مما سبق، ولكنه جمالُ أداءٍ أسلوبيٍّ لا جمالُ إبداعٍ فكري أو خيالي يُضاف إلى الخيال الخيَّامي، وقال ميخائيل نعيمة في همس الجفون قصيدة بعنوان (بين الجماجم): ص 99:

حدثيني عن القلوب التي (م م)

كانت قلوباً واليوم صارت ترابا

كيف كانت بالأمس سَكْرَى ولا (م م)

تَحْسِبُ للموت في الحياة حسابا

[ قال أبو عبد الرحمن: نظم الشاعر قصيدته في هذا المقطع على البحر الخفيف الصحيح عروضاً وضرباً هكذا (/5//5/5 /5/5//5 /5//5/5) ويجوز في الحشو والضرب والعروض الخبن فتكون (/5//5/5) هكذا (///5/5)، وتكون (/5/5//5) هكذا (//5//5).. هكذا في الصنعة العروضية المأخوذة بالتقطيع البصري، وهي مُنَغِّصة للسمع إذا لم تكن لازمةً في كل بيت؛ ولهذا يتحاشى الموسيقار تلحينَ كلِّ شعر كثُرت زحافاته وعِلله إلا ما أخْضَعه اللحنُ من تصرُّفٍ في النطق ليس فاحشاً.. والشطر الثاني (سِبُ للموت في الحياة حساباً)، ووزنه: (///5/5 //5//5 ///5/5].

نابضاتٍ حُبَّاً وبغضاً وإيماناً

(م م) وشكَّاً وراجياتٍ ثوابا

ها أنا ألمسُ التراب فلا(م م)

ألمس همَّاً أو غبطةً أو عذابا

أترينَ الأشواقَ صارت بروقاً

ودموعَ الأحزان أضحت سحابا

وأنينَ القلوب أمسى رعوداً

وأمانيَّها استحالت ضبابا

أم ترينَ التراب عادَ تراباً

وسرابَ الآمال عاد سرابا

ففي هذه أداء فني، ومنحى إيحاءٍ جديد في نِصاب العبرة والموعظة.. وقال خليل هنداوي في قصيدة الاتصال، كما في كتاب من الشعر الحديث مختارات لإبراهيم العريض ص312:

ورابيةٍ قد تسامتْ هناكْ

مؤلفة من ركام البشرْ

أتعرفهمْ في زوايا اللحودْ

أتنظرهم في طوايا الحفر

وقد سحب الدهر ذيل العفاءْ

عليهمْ فما لهم من أثر

أتنشقُ في التُّربِ ريحَ الرفات

وتبصر فيها طيوف الصور

هنا قَرَّ كل فؤاد خفوق

هنا أُغْمِضَتْ مُقَلٌ كالزهر

تروح ثرى من طواه الزمان

وفاح عليه شذا مَن غَبر

ففي هذا جمال في الأداء، وتراكم أدبي لا جديد فيه، وقال إيليّْا أبو ماضي، كما في كتاب الشعر العربي في المهجر ص 110-111:

هُمُ في الشراب الذي نحتسي

وهمْ في الطعام الذي نأْكلُ

وهم في الهواء الذي حولنا

وفيما نقول وما نفعل

وقال في قصيدة الدمعة الخرساء:

لا تجزعي فالموت ليس يضيرنا

فلنا إياب بعده ونشورُ

إنَّا سنبقى بعد أن يمضي الورى

ويزول هذا العالم المنظور

فإذا طوتنا الأرض عن أزهارها

وخلا الدجى منّْا وفيه بدور

فسترجعينَ خميلةً معطارةً

أنا في ذراها بلبلٌ مسحور

[تنطق (أنا) غير ممدودة هكذا (أنَ)].

يشدو لها ويطير في جنباتها

فتَهشُّ إذ يشدو وحين يطير

أو جدولاً مترقرقاً مترنماً

أنا فيه موج ضاحك وخرير

[نون (أنا) هكذا (أنَ)].

أو ترجعين فراشة خطَّارة

أنا في جناحيها الضحى الموشور

قال أبو عبدالرحمن: إن لم يكن الكلام مُحرَّفاً عن (المشهور) أو (المنشور) فلا أعرف للموشور معنى مناسباً إلا أن يكون من بياض الأسنان بعد تجديدها بِوَشْرها، أو من وضوح الخشبة إذا وُشِرَت بالميشار؛ وعلى أي حال فالقافية هنا قلقة.

أو نسمة أنا همسها وحفيفها

أبداً تطوف في الربى وتدور

قال أبو عبدالرحمن: هذا أداء جميل، والإضافة ابتهاج ببعثٍ جديد، ولكنه قُبْح بمعيار الجلال والكمال، بل الابتهاج أو الخوف يتعلق بالبعث الحقيقي للروح والجسد في العُمْر الأبدي بعد اللحد.. وقال يوسف غصوب في قصيدة (نور الفؤاد) كما في (الأبواب المغلقة) من ديوانه ص 136:

يَمَلُّ جثماني وقد أُغْمِضَتْ

أجفانُه وامتد فيه الفسادْ

جُنَّتْ إلى الغبراء ذرَّاتُهُ

فأسرعتْ في عودِها للجماد

فهذه هي أنماط الفناء الباقي، وربما وُجد بأدغال الفكر البشري أنماط أخرى، وقد بيَّنتُ وجه الحرج في كل نمط، وبيَّنت النمط المازح، والنمط الجاد.. ولقد قال جماعة من المَادِيِّين: الكائنات في ولادة جديدة؛ لأنها من عناصر وذرات لا تفنى، وإنما تأْتلف فتظهر في صورة، ثم تفترق لتظهر في صورة أخرى.. وهذه الذرات متجانسة، غير قابلةٍ للانقسام، غير مدرَكة بالحس، غير مخلوقة؛ لأنها لا تنشأ من العدم؛ وغير قابلةٍ الفناءَ؟!!!.. وهؤلاء يُنكرون قدرة الله، ويصفون الذرات بالوعي.. والعجيب أنهم قالوا بوعي الذرات في تكوين الأشياء، ولم يقولوا بوعيها في إعادة تكوينِها نفسَها؟!.. وقال جماعة منهم: إن الله يُصرِّف هذه الذرات.. إلا أنهم ألغوا هذا الإيمان لقولهم بقدم المادة، وخلودها، والله سبحانه وتعالى لا شيءَ قبله ولامعه.. ومباحث الماديين لا خطورة فيها، بل هي فتح للعلم الحديث ما دامت تتعلق باستقراء عناصر الأشياء، وتعليل الظاهرات الكونية في ضوئها؛ وإنما الكفر في الأمور التالية: جَحْدُ قدرة الله وعنايته في تصريف المادة، والقولُ بخلود المادة وقدمها بمعنى الأوَّلية، وأن يُعَلَّلَ بها ظاهرات الكون تعليلاً يُصادِم النصوص الشرعية القطعية في دلالتها وثبوتها.. وفلسفة الكوز من قَبِيل الذريَّة المادية، ولكنَّ الخيام لم ينطلق في ذلك عن فلسفة مقصودة؛ وإنما أراد المزاح الفكري، وقد ترجَّح لي هذا الظن بأمور: أولها أن فلسفة الكوز تدور حول الكاعب الحسناء في خدها، وقدها، وجيدها، وغَيَدِها، وأصداغها، وَاحْوِرارها.. كما أنها تدور حول الخمرة ودنانها، وللدنِّ عند غياث الدين حظوة: إما لأنه شهوة عارمة، وإما لأنه رمز لشيئ تقدسه الأوهام الصوفية؛ فلا عجب أن يُضفي على الكوز (وهو مِن أوعية الخمر) حرمة وقداسة؛ فيتخيَّله ذرات من جسم غيداءَ لعوب؛ ولهذا لم يأمر الخزَّافَ قطُّ بامتهان الأكواز؛ لأنها ذرات من حافر حمار، أو ذيل كلب، أو جناح خُفَّاش!!.. كما أن فلسفة الكوز عن رفات العظماء مثل كيخسرو، وجمشيد.. والغرض منها العبرة؛ فهذا القصر المَشِيد من ذرات هؤلاء العظماء، وهذا مصير كل حي!.. وثاني تلك الأمور أن فلسفة الكوز إما تحليل وهو من بداهة الدين كما مر، وإما تركيب وهو أمر لا يَنِدُّ عن الخيام؛ لأنني إذا علمتُ أن هذا السِّفاءَ من هذا الجسم فلا أستبعد أن يكون هذا الكوز من ذلك السفاءِ؛ فالخيام لم يتقحَّم فلسفة الذَّريين؛ وإنما هو شيئ منحي البديهة، والخيال القريب.. وثالثها أن الخيام يُجاري دعابات الأُدباء قبله في هذا المضمار، وقد أسلفتُ أنَّ أقدمَ ما عُرِفَ في تراثنا أسطورة ديك الجنِّ، وليس الشعر المرويُّ عن ديك الجنِّ ذا قيمة فنيَّة؛ وإنما الإثارة في القصة العنيفة، والعجيب أنه صار لها وجود أدبي عالمي عند شكسبير بإمامته الأدبية، وسُمْعَتهِ العريضة.. وسأتناول إن شاء الله اللقاء بين الأسطورة العربية وبين شكسبير في مسرحيته (عُطيل) بعد استعراضي لتطور أسطورة ديك الجن من تراثنا العربي؛ فقد تَعَرَّض صلاح الدين الصفدي رحمه الله تعالى [- 764هـ] لهذه المسألة في كتابه الغيث المسجم في شرح لامية العجم 2/160 دار الكتب العلمية 2/160 طبعتهم الثانية عام 1411هـ؛ فذكر قولَ ديك الجن:

كيف الدعاءُ على مَن جار أو ظلمَا

ومالكي ظالمٌ في كلِّ ما حكمَا

لا آخَذَ الله مَن أهوى بجفوتهِ

عنِّي ولا اقتصَّ لي منه ولا انتقمَا

ثم عَلَّق بقوله: ((ما أحقه بقولهم: (صار فرعون مُذَكِّراً!!).. أليس هو الذي قتل جاريته وغلامه اللذين كان يهواهما، وأحرق جسديهما، وأخذ رمادهما وخلطه بدمهما، وصنع منه برنيَّتين للخمر؛ فكان يضعهما في مجلس شرابه يميناً وشمالاً؛ فإذا اشتاق إليهما قبَّل كل واحدةٍ منهما قبلة؟..))؛ فالصفدي هاهنا يتكلم بحماس وتعنيف كأنَّ الأمر واقعة تاريخية لا أسطورة مُتخيِّلة!!.. والبيتان اللذان ساقهما لا علاقة لهما بالأسطورة، ثم أنشد الصفدي أبياته في الجارية ومنها:

ياطلعةً طلع الحِمامُ عليها

وجنى لها ثمرُ الردى بيديها

روَّيتُ من دمها الثرى ولطالما

روَّى الهوى شفتيَّ من شفتيها

ثم يُقبِّل الأخرى وينشد أبياته في الغلام ومنها:

فقتلته وبه عليَّ كرامة

فليَ الحشا وله الفؤاد بأسره

عهدي به ميتاً كأحسن نائمٍ

والحسن يسفح دمعتي في نحره

وفي إيراد ابن قيم الجوزية [691 - 751 هـ] رحمه الله تعالى: أن ديك الجن وجد الجارية والغلام - وكان يهواهما - متعانقين يُقَبِّل بعضهما بعضاً؛ فقتلهما معاً [روضة المحبين ص 359 360 دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب بدمشق وبيروت/ طبعتهم الأولى 1418، وهي قريبة من رواية ابن الجوزي (510 - 597) في ذم الهوى ص417 دار الكتاب العربي طبعتهم الأولى عام 1418هـ].

قال أبو عبدالرحمن: القصة والشعر وردا منسوبين لديك الجن بسياق متعدِّد لا يتفق فيه سياق الشعر مع سياق القصة، ووردا منسوبين إلى غير ديك الجن.. وكل ذلك يدل على أن القصة والشعر لا يصحان عن ديك الجن، وأن نِسبَتَهما إلى غير ديك الجن من أحاديث العُشَّاق، وأكثرها سمر وأساطير كما فصَّلتْ ذلك في كتابي: (كيف يموت العشاق).. والشعر عادي ليس فيه لفتة إبداع، بل هو نظم سهل مِن وضْعِ الحكواتي، وعن ورودها منسوبة إلى غير ديك الجن قال أبو الفرج ابن الجوزي: «أخبرنا محمد بن ناصر قال: أنبأنا المبارك بن عبدالجبار.. وأخبرتنا شهدة بنت أحمد قالت: أنبأنا أبو محمد ابن السراج.. قالا: أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قال: أنبأنا ابن حَيُّويَهِ قال: حدثنا ابن خلف قال: حدثني أبو عبدالله اليمامي: عن العتبى: عن أبيه قال: كان رجل من العرب تحته ابنة عم له، وكان لها عاشقاً، وكانت امرأةً جميلة، وكان من عشقه لها أنه يقعد في دهليزه مع ندمائه، ثم يدخل ساعةً بعد ساعة ينظرُ إليها، ثم يرجع إلى أصحابه عِشْقاً لها؛ فَطَبِن [يعني فَطِن] لها ابن عم لها، فاكترى داراً إلى جنبه، ثم لم يزل يراسلها حتى أجابته إلى ما أراد؛ فاحتالت، وتدلَّت إليه.. ودخل الزوج كعادته؛ لينظر إليها، فلم يرها، فقال لأمها: أين فلانة؟.. فقالت: تقضي حاجة؛ فطلبها في الموضع، فلم يجدها؛ فإذا هي قد تدلت وهو ينظر إليها؛ فقال لها: ما وراءك، والله لتصدقاني؟.. قالت: والله لأصدقنك: الأمر كيت وكيت؛ فأقرت له؛ فسل السيف، فضرب عنقها، ثم قتل أمها، وهرب وأنشأ يقول:

يا طلعة طلع الحمام عليها

وجنت لها ثمر الردى بيديها

وقال ابن السراج: فجنى لها [قلت: ينبغي أن يكون هذا النص قبل البيت لأنه تابعٌ البيت الذي قبله].

روَّيت من دمها الثرى ولربما

روَّى الهوى شفتيَّ من شفتيها

وقال ابن السراج: الحسام.

حكَّمت سيفي في مجال خناقها

ومدامعي تجري على خديها

ما كان قَتْلِيهَا لأني لم أكن

أبكي إذا سقط الذباب عليها

لكنْ بخلتُ على العيون بحسنها

وشَفِقتُ من نَظَر الغلام إليها

وقال ابن السراج: وأنفتُ من نظر العيون إليها «.. وفي رواية ابن قيم الجوزية: وجد الجارية والغلام متعانقين، وعند ابن الجوزي أنها تدلت من بيت جاره فقتلها وقتل أمها، ولا ذكر لقتل الغلام؛ وإنما قتلها إشفاقاً من نظر الغلام .. وفي رواية السراج لا ذكر للغلام ألبتة؛ وإنما أشفق من نظر العيون جملة.. وزاد ابن السراج في روايته عن خلف قال: وزادني غير أبي عبدالله: وكانت لها أخت شاعرة فقالت تجيبه:

لو كنت تشفق أو ترق عليها

لرفعتَ حد السيف عن ودْجَيها

ورحمتَ عبرتها وطولَ حنينِها

وجزعتَ من سوءٍ يصير إليها

مَن كان يفعل ما فعلت بمثلها

إذْ طاوعتْك وخالفتْ أبويها

فتركْتَها في خِدرها مقتولةً

ظلماً وتبكي ياشقيُّ عليها

قال أبو عبدالرحمن: أول أسانيد ابن الجوزي منتهاها إلى كتاب (مصارع العُشَّاق) لأبي محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج القارئ [417 - 500 ] رحمه الله تعالى، وهو إخباري جَمَّاع مُتصَوِّف؛ والخبر في 1/69 70، وعلى الرُّغم مما ذُكِر عن ابن الجوزي من أوهام فقد جَوَّدَ رواية الشعر والقصة، وأثبت النص كما هو في كتاب السراج، وهي عن رجل من العرب مُبهم وليست عن ديك الجن [161 - 236هـ]، وآخِر الخبر في رواية السراج شعرَ أخت الجارية المقتولة، وهي من رواية أبي بكر محمد بن خلف المرزبان عن رجل مجهول، وأول الخبر عن خلف: عن أبي العيناء أبي عبدالله اليمامي، ومنتهى السند برواية المجهول ورواية خلف عن العتبي؛ لأن ابن السراج أسند الخبر إلى العتبي: عن أبيه، ثم قال عن المجهول في رواية خلف: (وزادني غير أبي عبدالله).. يعني (أبا العيناء)؛ فالزيادة بدلالة السياق تنتهي إلى العتبي؛ فأما العتبي فهو أبو عبدالرحمن محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان رضي الله عنه الأُمَوِيُّ، قتله ابن الزبير عام 228هـ، ويظهر لي أنه مات بُعيد ذلك؛ لأن أبا عبدالله محمد بن عمران المِرزباني [384] ذكر في كتابه معجم الشعراء ص 356/ الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة موتَ ستةٍ من أبنائه في الطاعون الذي كان بالبصرة سنة 229 وَقُبَيْلَه؛ فرثاهم بمراثٍ كثيرة.. وعلى أي حال فهو من طبقة ديك الجن المتوفى عام 236هـ، وروايته عن أبيه عبيدالله بن عمرو؛ فأبوه من طبقة شيوخهما، قبل أن يكون لديك الجن شأن أدبيٌّ؛ فالأسطورة أقدم من ديك الجن؛ لأن رواية عبيد الله والد العتبي خبر عن رجل من الأعراب، وديك الجن من الموالي ولم يكن له شأنٌ بعدُ، والخبر عن بنت القاتل وليس عن جارية له، كما أن الذي عشقها ابن عمٍّ لها آخر اكترى داراً بجوارها، وأن زوجها قتلها وقتل أمها ولم يُحْرِقها ويصنع من رمادها كوزاً؛ فاستحال أن يكون الخبر عن ديك الجن.. ثم إن الخبر في نفسه مع القصة في تناقض؛ فالخبر عن إقرارها بتواصلها مع جارها ابنِ عمها الذي تتدلى من بيته، والشعر يُعَلِّل بشيئ آخر هو قوله:

لكنْ بخلتُ على العيون بحسنها

وشَفِقتُ من نَظَر الغلام إليها

فالمسألة عن نظر غلام لا عن تواصلٍ من ابن عَمٍّ آخر.. والشاعرة الأخت لم تذكر قتله الأم، والشعر نثري ليس من جزالة شعر الأعراب، وفيه خبر لم يُؤْثر في الأسطورة،وهو (إذ طاوَعْتك وخالفت أبويها)؛ وما أظنُّ هذا الإقحام إلا من أجل القافية.. ولي عناية في غير هذا الموضع بتحليل روايات العتبي إن شاء الله، ولكنْ أوجز الأمر ههنا بأنه إخباري أديب يروي أخباره للمنادمة وهو مُسْرِف على نفسه بالشراب، ولا يروي من أجل التوثيق.. ألا ترى أنه قال (كما في الأغاني 2/10/ط دار الكتب العلمية / طبعتهم الثانية عام 1412هـ) رواية عن عوانة: (إن المجنون اسم مستعار لا حقيقة له، وليس له في بني عامر أصلٌ ولا نسب، وأن الذي وضع الأشعار فتى من بني أمية).. ثم يورد العتبي برواية أبي الفرج الأصفهاني عنه وبرواية غير أبي الفرج أشعاراً وأخباراً عن مجنون بني عامر؟!.. فكان ذلك من أجل المُنادمة لاغير كما في الخبر الذي ذكره أبو الفرج في كتابه الأغاني 2/25، وهو خبر لا يتصوَّره عقل؛ لأنه خلاف الطبيعة البشرية.. والعتبي صدوق في نفسه كما نص على ذلك الذين ترجموا له، ولكنَّ الأدباء الظرفاء إذا كانوا أصحاب كأس يأنسون إلى المنادمةِ برواية الأساطير، وبعضهم يختلقها؛ للاستمتاع بالمضمون وإن كانوا يعلمون أنه أسطورة.. وأكثر أخبار العتبي عن بني أمية وما يتعلق بهم من أحداث، ثم يلي ذلك رواياته الأدبية واللغوية، وكان هو نفسه شاعراً مليح الشعر، وكان ناقداً ذا ذوق أدبي رفيع، وله مؤلفات أغلبها أدبية ذكرها ابن النديم [380هـ] في فهرسته ص 195/ دار الكتب العلمية طبعتهم الأولى عام 1416هـ.. وتلميذ العتبي الراوي عنه أبو العيناء (أبو عبدالله اليمامي) محمد بن القاسم بن خلَّاد الحنفي ويظهر من إشارة للخطيب البغدادي أنه حنفي ولاءً [191 - 283هـ] يروي الحكايات والأخبار، وكان عالي الثقافة سريع الجواب بداهة، وهو غير مرضي في رواية الحديث، وقد اعترف بوضعه حديثاً على رسول اللهبعد توبته.. ومن سَهُل عليه ذلك في الرواية عن رسول اللهفروايته عن غيره أسهل، ومصادر ترجمته كثيرة يكفي منها فيما اقتبسته عنه ههنا تاريخ مدينة السلام للخطيب البغدادي [392 - 463هـ] رحمه الله تعالى 4/284295، والفهرست لابن لنديم ص 200201، وليس له من تأليف سوى مجموعتين في وريقات عن أخباره وشعره، ولسان الميزان 7/446449.. وتلميذه في هذا السند ابن خلف، وهو أبو عبدالله محمد بن خلف بن المَرْزُبانالآجُرِّي المُحُوَّاليُّ [309]، وهو إخباري قال عنه الدارقطني: (إخباري ليَّن) كما في سؤالات حمزة بن يوسف السهمي للدارقطني: ص 104 برقم 59/ مكتبة المعارف بالرياض عام 1404هـ، وقد ذكر الذهبي في سِيَر أعلام النبلاء 14/264 أنه صدوق مع أنه ذكر تليينَ الدار قطني له في كتابه الآخر (المُغني في الضعفاء)، وذكر أنه تُوفِّي في عشر الثمانين أوجاوزها، ومن مؤلفاته الحاوي في علوم القرآن سبعة وعشرون جزءاً، وله عدد من الكتب الأدبية ذكرها ابنُ النديم في الفهرست ص 241، ولا أظن أنه يوجد منها شيئ اليوم، وتلميذه أبو عمرو محمد بن العباس ابن حَيَّوَيْهِ الخَزَّاز [295 - 382هـ]، وهو ثقة ثبت ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد 4/205206، والذهبي في سير أعلام النبلاء 6/409410هـ، ولم يذكر مترجموه أن له تأليفاً، وتلميذه أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري [363 - 454] رحمه الله تعالى إمام ثقة، وكتابه بين أيدينا؛ فهو مُغْنٍ عن الأسانيد التي بعده، ولكنني أشير إلى رجالها تطوُّعاً؛ فأما شهدة الراوية عن الجوهري فهي شهدة بنت أحمد بن الفرج الدَّنَيَورِيَّة الإبِرَّيَّة نسبةً إلى بيع الإبر [574هـ] رحمها الله تعالى، وعُمِّرتْ قرابة مئة عام، ووالدها مِن المحدِّثين، وهي مَن هي ثقة وعبادة، ويغلب على رواياتها روايةُ ما أُلِّف في الزهد، وترجمتها في المجلد العشرين من سير أعلام النبلاء، وترجم لها عمر رضا كحَّالة في أعلام النساء 2/309312 / مؤسسة الرسالة الطبعة العاشرة عام 1412هـ، ويظهر لي أن المطابِق ما في كتاب السراج هو روايتها؛ لأنها فوق المبارك شريكها في الرواية عن الجوهري من جهة الضبط وحسن الخط، والمبارك نفسه ثقة عدل، وهو أبو الحسين المبارك بن عبدالجبار بن أحمد الصيرفي ابن الطُّيُورِي [411 - 500] رحمه الله تعالى، وتلميذه أبو الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علي السَّلَامِيُّ البغدادي [467 - 550] رحمه الله تعالى، وهو إمام ثقة، مُتَمَكِّنٌ في اللغة، راوٍ للحديث، من فقهاء الحنافشة كان شافعياً ثم حنبلياً.

قال أبو عبدالرحمن: إن لي ميلاً عارماً إلى منهج الشافعي وابن جرير رحمهما الله تعالى، ولكنني لستُ حنفشياً، بل أتَّبع أصولاً فكرية علمية في فهم نصوص الشرع، وفهم كلام العرب؛ فمن وُفِّق إليها بصواب الاجتهاد وإن لم تحصل له إصابة المراد فهو ظاهري على رغمه في المسألة التي حقَّقها بذلك المنهج سواء أكان حنفياً أم شافعياً.. إلخ أو حَنْفَشيّْاً.. ولقد أسلفتُ القول في الشعر والأسطورة كما ورد في كتاب ابن السراج قبل أن يكون لِديك الجن وجود أدبي، وهي بخلاف رواية الكوز، وهي في تناقض بين القصة والشعر، وهي برواية علماء أثبات خرجوا من العُهدة بذكر السند،؛ وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب