التطلُّعات .. والتوقُّعات في الزمن الجديد

أتذكّر في سنوات دراستي الجامعية، أنّ مادة «التنمية الاقتصادية» كانت تعج بالمصطلحات التي تُفتِّح أذهاننا ـ نحن الطلبة ـ، وتقدم لنا ثقافة جديدة مختلفة عما كنا ندرسه في مناهج التعليم العام، التي كانت تكرر ما كنا ندرسه ونلوكه مرحلةً بعد أخرى من الكلام المعاد عشرات المرات.

من تلك المصطلحات «ثورة التطلُّعات»، ولم يكن المقصود هو ثورات العسكر التي كانت موضة في ذلك الزمان. كان المقصود هو أنّ التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي بدأت تدب في أوصال مجتمعات العالم الثالث أو ذلك الجسد المريض الذي يُطلق عليه «العالم النامي» من باب التفاؤل لا أكثر، قد خلقت زخماً جديداً متواصلاً من التطلُّع الشعبي العام إلى التقدم مثل إلقاء حجر في مستنقع راكد، فراحت موجات الماء تتوالد وتتسع وتقلب السطح الهادئ!

فعندما انتشر التعليم، وخرج الناس من ضيق مجتمعاتهم الصغيرة إلى أفق العالم الرّحب، وعرفوا أنّ بعض عاداتهم وتقاليدهم القديمة هي سبب تأخرهم لأنها معادية للتغير وللتنمية، وعندما عرف الناس ما يحدث في الدنيا من حولهم وما تتمتع به المجتمعات المتقدمة من رخاء اقتصادي ومستويات عالية من الرعاية الصحية والاجتماعية، بدأوا يتطلّعون إلى تحقيق مستويات مماثلة في بلدانهم، فكانت تلك هي «ثورة التطلُّعات»! أي أنّ المجتمع كلما حقق مستوى معيّناً من التنمية، بدأ يتطلّع إلى تحقيق مستوى أعلى من السابق، لأنّ عينيه تفتحت وعرف ما يمكن أن تصنعه موارد بلاده من تنمية وتقدم، وعرف ما يتمتع به العالم من رخاء وحياة رغيدة.

وقد أدت جهود التنمية التي خاضتها الحكومات الوطنية بعد خروج الاستعمار من دول العالم الثالث إلى ولادة ما يسمّى بـ»الطبقة الوسطى»، وهي الطبقة التي يرتكز عليها استقرار وتقدم المجتمع. ومن سمات أبناء هذه الطبقة أنهم طموحون ومتعلمون، ويسعون إلى تحسين أوضاعهم وأوضاع المجتمع. وكانت بعض الحكومات تضيق ذرعاً بتطلُّعات ومطالبات أبناء تلك الطبقة، وهي تجهل أنّ تلك التطلُّعات هي وقود التقدم، بينما وظّفت حكوماتٌ أخرى تطلُّعات الطبقة الوسطى لتحقيق مستويات عالية من التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فنجحت وأصبحت دولها في عِداد البلدان المتقدمة .

وفي زمننا الجديد، زمن التواصل الإعلامي غير المحدود، زادت التطلُّعات والطموحات، لأنّ العالم أصبح أصغر من قرية وكل شيء صار مكشوفاً حتى أنّ قروياً في جبال الهملايا يستطيع أن يعرف ويتابع ما يحدث في شيكاغو في نفس اللحظة والثانية!

لقد حققت بلادنا، ولله الحمد، مستويات من التنمية نراها جلية في حياتنا اليومية، ومن الطبيعي أن تخلق التنمية تطلُّعات وطموحات لتحقيق مستويات أعلى وأرقى. لكن التحدي هو في توظيف تلك التطلُّعات لجعلها وقوداً يدفع عجلة التنمية والتقدم إلى الأمام كي لا تتحوّل إلى حالة من اليأس والتذمُّر، هذا العبء تتحمّله في المقام الأول أجهزة الدولة، لأنها هي التي تقود المجتمع وتكون القدوة الحسنة في نزاهتها وكفاءتها، أو المثال السيئ في فسادها وقصورها.