Friday 14/02/2014 Issue 15114 الجمعة 14 ربيع الثاني 1435 العدد
14-02-2014

الاستعارةُ التَّبَعِيَّةُ وَهْمٌ

قال أبو عبدالرحمن: الاستعارة التبعية عُرْفٌ قائم عند العلماء على أنه مُسْتَقْرأٌ من بلاغة العرب؛ ومِن ثَمَّ تضافرتْ عليه أفكار النحويين والبلاغيين.. وإنني والله أكره أن يكون ليَ رأيٌ غريب يخالِف العُرْفَ المشتهِر في صناعة أهل النحو والبلاغة، ولكنَّ تحمُّلَ العلم، وأداءَه أمانةً يَجْعَلانني في مثل هذا الموقف؛

...لهذا أذكر رأيي الذي حققته باستقراء علمي، وتدقيقٍ فكريٍّ؛ احتساباً للأجر، ولا يهمني بعد ذلك من يصفني بالإغــراب؛ فالمحقَّق عندي أن ما يسمونه استعارة تبعية ليس ذا معنى جامعٍ مُـحَّدد، بل يكون تارة تهكُّماً وهو الأكثر، وتارة يكون تضميناً؛ فقول الله سبحانه وتعالى عن موسى عليه السلام: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [سورة القصص/ 7] سخرية من الله بهم وتبكيتٌ لهم؛ فدأْبُ آل فرعون قبَّحهم الله قتلُ الأنبياء واستحياء النساء من ذرية إسرائيل عليه السلام، فسخَّرهم الله لالتقاط موسى، والعناية به وتربيته، راجين أن ينفعهم، أو يتخذوه ولداً كما في الآية الأخرى.. ولكن الله قدَّر أن يكون موسى لهم عدواً وحزناً جزاءَ ظلمِهم، وليظهر الله به دينه؛ فهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدواً وحزناً، بل ليكون صديقاً يواليهم، أو يكون ولداً لهم ينفعهم؛ فخيَّب الله مرادهم بعكسِه عليهم؛ ليكون لهم عدواً وحزناً، ولا وجه للاستعارة في هذا ألبتة؛ لأن الاستعارة استعمالُ مفردة مكانَ مفردة لرابطٍ بينهما من المشابهة؛ وذلك الاستعمال يكون مقصوداً قصداً من المستعمِل، واستعارته مجاز أدبي، وهو عاريةٌ مردودة؛ لأنها استُعمِلت في غير معاني لفظها في لغة العرب؛ وإنما استُعمِلت لصفةٍ في المسمى مشابهة كقولك: (رأيت في معمعة الحرب أسداً) تريد رجلاً شجاعاً، والأسد حيوان لا يدخل في معنى كلمة (شجاع) في لغة العرب، ولكنه يَتَّصف بالشجاعة فالشجاعة صفة في الأسد المسمَّى وليس في اسم الأسد شيئ من معاني الشجاعة، بل معناه الحيوانية السَّبَعِية بكل صفاتِ هُوِيَّته المحسوسة، ووجه الاستعارة مشابهة الأسد في الشجاعة فقط، وللأسد صفات أخرى كالنَّتن؛ فلم يُسْتَعْر الأسدُ في الاستعمال إلا لصفة الشجاعة لا غير، ثم هو عارية مردودة.. وفي هذا الردُّ على من جعل الاستعارة مجازاً لغوياً لا أدبياً؛ لأن التجوُّز مفهوم في تركيب الكلام لا غير، فإذا تجزَّأ الكلام عادت كل مفردة إلى معناها اللغوي؛ فالمشبَّه (وهو الرجل) يعود إلى معنى الإنسانية، والشجاعة صفته لا صفة كل إنسان، والمشبَّه به (وهو الأسد) يعود إلى معنى الحيوانية السبعية، وصفة هذا الجنس الشجاعة بإطلاق، والمشبَّه به لابد أن يكون أعلى من المشبَّهإذا أردتَ المدح، وأن يكون أحط إذا أردت الذم إلا في التشبيه المقلوب لنكتة بلاغية ادِّعائية.. والذي أغرى البلاغيين والنحويين بجعل الآية الكريمة من باب الاستعارة هو تَوَهُّمهم التشبيه؛ فلما تبيَّنت العاقبة بكونِ موسى عليه السلام عدواً وحزناً لآل فرعون شبَّهوا حال التقاطهم إياه وهو في المهد بحال من التقط مَن يريده عدواً وحزناً.. ودعوى التشبيه ههنا غير صحيحة، فآل فرعون أخذوا موسى لينفعهم؛ فلا تُشْبِه حالهم حالَ من أخذه ليكون عدواً لهم؛ فلا مشابهة بين النفع والعداوة؛ وإنما يصح التشبيه إذا جئت بطرف آخر مُشابهٍ فتقول: (فلانٌ ربَّى الطفلَ الفلانيَّ ليكون عوناً لهم؛ فكان مُلْتَقَطَ آل فرعونَ موسى عليه السلام)؛ فعاد الأمر سخرية بهم وتبكيتاً لهم بعكس الله مرادَهم عليهم؛ فأخذوه قاصدين أن ينفعهم، وهم في علم الله لا في مرادهم إنما أخذوه ليكون عدواً لهم.. وتصح الاستعارة كأن يقول: (رأيتُ الذي التقطه آل فرعون) تريد من هو شَبيهٌ بحاله، بأن يكون نقمةً عليهم بعدل الله في الظالمين، وإحسانه إلى المؤمنين الصابرين.. ووصفوا ما سموه استعارة - وليس باستعارة - بالاستعارة التبعيَّة؛ لأن معمول الفعل ومعمول ما اشتُقَّ منه الفعل من معاني الصيغ يكونان مستعملين في غير ما وضعا له.. وهذا أوَّلاً لا ينطبق على الآية الكريمة؛ لأن فعل (التْقط) والمصدرَ الذي هو الالتقاطُ المشتقُّ منه في اصطلاحهم كلاهما مستعملان في ما وُضِعا له لا العكس؛ لأنَّ سلوك العقلاء أن لا يلتقطوا إلا ما ينفعهم لاحتوائه، أو ما يضرهم للتخلص منه.. وجَعْلُهم الالتقاطَ ههنا استعارةً تبعية مع نماذج أخرى مختلفة الدلالة دليل على أن ما سمَّوه (استعارة تبعية) صورٌ غير منضبطة في قاعدة واحدة، وأنه اجتهاد أدباء كَثُر فيه اختلافهم، والحقائق الثابتة بالاستقراء من لغة العرب لا تكون بهذه الصفة.. والاستعارة عندهم ههنا واقعة على حرف الجر، وهو اللام في قوله تعالى: (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) ولكن بشرط ملاحظة دلالة الحرف في الكلام المركَّب؛ فإن حروف المعاني لا توصف في نفسها، ولا تشبيهَ إلا بموضوع يتعلق به الحرف؛ فكانت تبعية؛ لأن استعارة الحرف تابعة لما تعلق به، وهما المعنيان اللذان ربط بينهما أبوعبدالله بدر الدين ابن مالك المعروف بابن الناظم [- 686هـ] رحمه الله تعالى، وقد وجَّه ذلك بكلام غامض فقال: « ولا لام الجر [أي لم تدخل الاستعارةَ لامُ الجرإلا بعد ما اسْتُعير ترتيبُ المعلوم [يعني بالمعلومِ الالتقاط] على العلة [وهي العداوة والحزن، وقوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا هو التعليل].. ثم بيَّن وجه الاستعارة بقوله: ((ثم استعير لجانب المشبَّه باللام « [المصباح في المعاني والبيان والبديع ص 179/ دار الكتب العلمية طبعتهم الأولى عام 1432هـ].. بينما جعل الخطيب القزويني [- 739هـ] رحمه الله تعالى الاستعارة للامِ التعليل في قوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ، وهي عنده ما تتعلَّق به اللامُ؛ لتشبيه العداوة والحزن الحاصلين بعد الالتقاط بالعلة الغائيَّة للالتقاط [الإيضاح في علوم البلاغة/ دار الكتب العلمية/ طبعتهم الأولى عام 1405هـ]، ولم يبين وجهاً معقولاً للشبهِيَّة؛ فلا مشابهة بين الحزن والعداوة وبين النفع والضر.. وإن أراد الغاية في مراد الله فهي المذكورة ولا تشبيه، وليس في العقل ولا في الشرع حالة التقاطٍ يُقصد بها العداوة والحزن احتواءً؛ فيكون ذلك حالةً يُشَبَّه بها حالةُ الضر والنفع؛ وإنما هناك تهكُّمٌ بهم، وحذفٌ في الكلام بلا تشبيه ولا استعارة؛ فالمحذوف المقدرُ بضرورة العقل من النص الشرعي ههنا، وضرورة النص الشرعي الآخر: أنهم التقطوه رجاءَ أن ينفعهم هو (فالتقطه آل فرعون لغياب علمهم بأن الله سَيُخَيِّبُ رجاءهم , وأنهم في مراد الله التقطوه ليكون لهم عدواً وحزناً) , وأفاد هذا التقرير تعليلَ مرادِ الله لا تعليلَ مرادِهم؛ لأنهم التقطوه على ترغيم أنوفهم ليتحقَّق مرادُ الله؛ فيكون عدواً وحزناً.. والحذف القليل أو الكثير في نصوص الشرع لا يـُحصى، ولا سعةَ لي في تقصِّيه كما في قوله تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [سورة يس/ 45]؛ فمعلوم بالضرورة أن في الكلام محذوفاً هو (لم يتقوا)؛ لأن ( إذا ) تريد جوابها.. وأما التهكم بهم فهو فواتُ حرصهم في قتلهم الذكور خوفاً من عداوتهم؛ فأبقوا موسى عليه السلام وهم عالمون به، قادرون على قتله؛ فضلَّ عنهم حرصُهم، والتقطوه، وَحَدِبوا عليه؛ ليكون لهم عدواً وحزناً.. وهم ما أرادوا ذلك؛ وإنما أرادوا النفع؛ فذلك هو التهكم؛ لجهلهم بالعواقب من قدرة الله ومراده.. ومن أمثالهم على استعمال الفعل لغير ما وضع له قولُ القطامي:

نَقْـريهمُ لهذمياتٍ نقدُّ بها

ما كان خاطَ عليهمْ كلُّ زَرَّادِ

وفعل قَرى بمعنى أطعم الطعام , وهو معنى مشتق من المِقْراة التي هي الجفنة؛ سُمِّيت بذلك لاجتماع الناس عليها لأكل ما فيها من الطعام، واللهذم السيف الحادُّ القاطع , والزَّرَّادُ صانع الزَّرْدِ في الدروع؛ إذْ يُدخل حِلَق الدرع بعضها في بعض؛ لتغطِّي الجسد، وتمنع من الاختراق.. والزاي مبدلة من السين , وأصل الزَّرْد السرد بمعنى جعْلِها على التوالي أفقياً ورأسياً , ولا علاقة لهذا المعنى بمادة زرد بالزاي , والبدل مألوف بين الزاي والسين؛ لتقارب المخرجين , ولاشتراكهما في صوت الصفير.. ولا شبهيَّة ولا استعارة في هذا البيت تتعلق بعلاقة فعلِ قَرى بمفعولِـها الذي هو السيوف الحادَّة , وإنما في سياق الشعر تشبيه حال أعدائهم - وهو تشبيه بدون استعارة - بحال من زار الديار يريد القِرى , ووجه الشَّبه أنهم جاءوا للطمع والغنيمة من جرَّاء العداوة والذحول؛ فلما كانوا في هيئة مَن يطلب القِرى , (وهم إنما يريدون القتل واغتصاب الغنيمة؛ ليكون منها قِرى لهم وقِرى لضيوفهم)؛ فلما كانت هذه حالهم جعلنا قراهم بخلاف ما يريدون وهو الضرب بالسيوف؛ فهذا تهكُّم وتبكيت , وهو من أنواع المُشاكَلة , ولا علاقة له بالاستعارة.. وفي السياق وفي معاني (قَرى يَقْرِي) ما يُسوِّغ مشاكَلة حالِـهم المشبَّهةِ بطالب القرى مشاكلةً ترتدُّ إلى ما جاءوا إليه حقيقة؛ فأما (قرى) لغة فمن معانيها القارِية بمعنى حد السيف؛ لأنه يفجر الدم؛ ولهذا يقال: (قَرَى الجُرح) بمعنى تفجر [انظر تاج العروس 39/288 في موضعين/ ط الكويت].. وأما السياق فللعرب نِيرانٌ منها نار القِرى ونار المَـنَعة في مكانٍ مرتفع لا يتَّقون عن عدوهم في مُنْخَفَض، ويكْنون بالنارين عن الكرم والمَـنَعة ونشوب الحرب.. قال القطامي في قصيدته هذه:

حتى إذا ذَكَتِ النيرانُ بينهمُ

للحرب يوقَدْن لا يوقدن للزاد

وهم من الأعداء الأقارِبِ كما قال:

لم نَـرَ قوماً همُ شرٌّ لإخِوَتِهمْ

منَّا عَشـيَّةَ يجري بالدَّم الـوادي

وذكر أنهم استعجلوا في المَجيْئ؛ وما استعجالُهم إلا طمعٌ في الغنيمة والنكاية، والضيف يَعْجَل إذا رأى نار القِرى.. قال القطامي:

فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا

كما تعجَّل فُرَّاط لِوُرَّاد

[انظر ديوان القَطامي 212-213 بتحقيق محمود الربيعي/ الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2001م]، والفُرَّاط الذين يتقدمون قومهم لإصلاح شأنهم، فقال القطامي عن تعجُّلِهم الغنيمة والنكاية:

نَقْرِيهمْ لَهْذَمِيَّاتٍ نَقُدُّ بها

ما كان خاط عليهم كلُّ زراد

ولهذه المسائل الشائكة العميقة جولة أطول إن شاء الله في لقاء قريب، والله المستعان.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب