Saturday 22/02/2014 Issue 15122 السبت 22 ربيع الثاني 1435 العدد
22-02-2014

عن الدكتور جمال سند السويدي وآفاق العصر الأمريكي

الوفاء صفة دافئة، لا يحجبها شيء عن ولوج القلب، لتسكن هانئة، مطمئنة في سويدائه تتجدد قوة فعلها، وتتزايد نمواً وثباتاً مع الأيام.. وعلى رأس صرح الوفاء ما يمكننا أن نكتبه على رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. وأجدني في حيرة من أمري لتفعيل هذه الصفة الحميدة في حق الدكتور جمال سند السويدي،

فشهادتي فيه مجروحة، ولكن حسب الصلة التي تربطني بمعاليه نبيلة، لأنها من نبع الفكر، تتسلل من المعلم، ويبقى انتقالها من جيل إلى جيل، لذلك فهي محاطة بالبركة...

فالدكتور جمال سند السويدي واحد من كبار المفكرين والاستراتيجيين العرب ولا تخفى مكانته الطليعية بين أقرانه من العلماء والباحثين والأكاديميين المرموقين، ليس على مستوى الإمارات والخليج فحسب، ولكن على صعيد العالم العربي والإسلامي والدولي، واستطاع أن يجعل من مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية وهو يحتفل بمرور عشرين سنة على إنشائه واحدا من أهم المراكز البحوثية والإستراتيجية في العالم... وإذا كان مما صنع لمساهمة الدكتور جمال سند السويدي في ميادين الفكر والعلم والعمل الدءوب، فرادتها ونوعيتها ما انطوت عليه ثقافته وذكاؤه من موسوعة وثراء عزت لها النظائر -إماراتياً وخليجياً وعربياً وعالمياً- فإن مما صنع لها حرارتها وصدقها التزام خريج المدرسة الإماراتية قضايا وطنه وأمته، فغدا صاحب مشروع بأتم معنى الكلمة.

نعم إنه صاحب مشروع كتابة وفكر من الطراز المعرفي الهائل سيبقيان مرجعا للأجيال لا محيد عنهما والقائم على البحث والتنقيب المعمق والمدجج بقوة الأسلوب وعظمة الفكرة والاستشهاد.

وانغمس سيدي جمال في الدراسة والتأمل، فإلى جانب تكوينه الأكاديمي عايش وانفتح الباحث على ما هو قادم من الغرب من أفكار وكتب وتأليف.. يعيش في قلب الحدث وينخرط في ما يموج في العالم العربي والإسلامي والساحة الدولية من مخاض وما يعرفه من تطورات وتفاعلات، وأصبح من المتبحرين في مجال الإستراتيجية كعلم وفن إدارة مجموعة قوى الأمة في الجانب السياسي والحربي والاقتصادي والمعنوي، والإستراتيجية كفن وعلم يسعيان إلى صياغة السياسة تماشيا مع مجموع القوى المتوفرة والرهانات والإمكانيات، وليس حصرا في المجالات العسكرية أو الدفاع وإنما أيضا في المجالات الاقتصادية والإستراتيجية والتجارية والصناعية والمالية، إلخ. فهذا الاستراتجي الذي أتشرف بأخوته وزمالته وكما عهدته في أنشطته ونوعية المنتديات والمؤلفات والتقارير التي يسهر عليها، له نسق فكري متقد وعلم ودراية كافية تجعله يستنبط أهم مقومات المرحلة اللايقينية والمستقبل شبه المجهول ليصل إلى الأهداف المرجوة ويحقق الغايات المطلوبة... ولأن الرجل وطني وكريم بطبعه فإنه يشجع الأجيال الصاعدة في وطنه والعالم العربي ويتقاسم حصيلة أبحاثه ودراساته مع الجميع....فكتاباته وتأليفه إشراقات أغنت الفكر الإنساني وعززت جسور الفهم والتحليل.

ونظراً لعمق تجربته وأصالة ثقافته وقيمة أبحاثه، برز الدكتور جمال مفكرا بارعا ومحاورا نزيها، لطيفا ومتفتحا، مستعدا للأخذ والعطاء، يحسن الاستماع ويرسل تأليفه قبل النشر إلى باحثين وأكاديميين ونقاد فيتقبل الانتقاد، وهكذا يكون تواضع العلماء ليساهم في الرفع من مستوى النقاش إلى أعلى مراتب عطاء الفكر الإنساني.

وما بين الحوار والتأليف، اختمرت شخصيته، وبرزت كنموذج لإنسان إماراتي عربي عصامي في تكوينه، ملحاح في أبحاثه، شغوف بتاريخ بلاده، رسول لقيم وطنه وأمته.. ويظل أستاذنا دائم الاتصال بكنانيشه ووثائقه، يستنطق التاريخ، ويستقرئ المستقبل قريبه وبعيده، يمعن الإنصات إلى صدى القرون وآثار الأجيال، فيزيل اللماط عن أسرارها وطلاسيمها، فتبدو أمامه شفافة، بنجاحاتها وإخفاقاتها، بحروبها وفترات استقلالها.

ومما يثير الإعجاب أيضاً بهذا الرجل الفذّ أنه يعمل بانتظام واستمرار، مؤمناً بشعار واحد هو الإنتاج والإسهام في التراكم المعرفي والاستراتيجي، وبمزاجية تختلط فيها الخصوصيات الذاتية لرجل يعشق الحياة بالحركة الدائبة والإقدام على المحاولات الجادة لسبر أغوار المجاهيل التي يُكابد من أجل الكشف عنها كلّياً أو جزئياً المشاقّ لتغتني المعرفة.

وقد اصدر الدكتور جمال مؤخرا كتابا جديدا بعنوان «آفاق العصر الأمريكي: السيادة والنفوذ في النظام العالمي الجديد» يضع فيه خلاصة فكره وعصارة تجربته البحثية، كمحاولة على الطريق لاستكشاف معالم النظام العالمي الجديد، ويعدّ الكتاب إضافة نوعية جديدة إلى المكتبة العربية والعالمية، في محاولة لتقديم نظرة موضوعية تحليلية معمّقة قائمة على الإحصاءات والبيانات والمعلومات، بعيداً عن الانطباعات والانحيازات والرؤى الشخصية غير العلمية، وإسهاماً في تسليط الضوء على بنية ومسارات وهيكلية القوة والسيادة والنفوذ في النظام العالمي الجديد خلال السنوات والعقود المقبلة، بما يسهم في فهم ما يدور إقليمياً وعالمياً، ويساعد على بلورة رؤى إستراتيجية واضحة للمستقبل.

ولم أطلع على كتاب شامل جامع تحليلي استشرافي مثله يوضح الحقائق ويسلط الأضواء بناء على معطيات معروفة عندنا نحن المختصين في مجال العلاقات الدولية والعلوم السياسية المقارنة أو لنقل العلوم الاجتماعية والإنسانية بصفة عامة، كالمؤشرات الإحصائية والتحليلية التي تمكن المفكر والمحلل اللبيب من استقصاء محدداتها ومرتكزاتها لشرحها للملا وهاته هي حقيقة العلوم الاجتماعية في ثلاثيتها: الفهم والشرح والتنظير... وهاته هي حقيقة هذا الكتاب الضخم المكتوب بعربية فصحى تنم عن قوة لسن وعلم كاتبه... وهذا الكتاب يضاهي بل يتعدى ما يكتبه جوزيف ناي وهنري كيسنجر عن القوة والنفوذ الأمريكيين في إطار النظام العالمي القديم والجديد... وإذا سئلت مثلا عن كتاب مثيل له في تحليل المعطيات والتأصيل للأكاديمية والعلمية في أعلى تجلياتها وتحليل النظام العالمي فسأقول بدون تفكير إنه كتاب الدبلوماسية لهنري كيسنجر أو السلم والأمن لريموند ارون... فهاته الكتب لها نفس القيمة الفكرية والعلمية والأكاديمية والوطنية وهي بالثلاثة من كتاب نبغاء وعباقرة يتركون لنا بصمات في تاريخ الإنسانية ويعتمدها المنظرون والباحثون والطلبة وأصحاب القرار في أنحاء المعمور.

وفي هذا الكتاب، كما جاء في تقديم له منشور، لا يرسم كاتبه، المستقبل ويخطط له، فالمتغيرات المتسارعة والتطورات الهائلة التي يشهدها العالم قادرة على تجاوز أي تخطيط، ودفع بوصلة التقديرات المستقبلية إلى التذبذب بين مختلف الاتجاهات في حراك متسارع دونما استقرار، فالمستقبل يرسمه الحاضر انطلاقاً من الماضي، وإنما يسعى من خلال هذا الجهد العلمي إلى تسليط الضوء على معطيات الحاضر مع استيعاب دروس الماضي، من دون استغراق فيه؛ لإدراكه أن الماضي قد يعوق في بعض الأحيان جهود التخطيط للمستقبل، بفعل ما ينطوي عليه هذا الماضـي من أثقال وربما إخفاقات قد يتسبب استحضارها في إطلاق سحابة من التشاؤم، أو الحذر على أقل التقديرات، تجاه المستقبل. فالدكتور جمال لا يسعى في هذا الكتاب إلى رسم خريطة طريق استشرافية، بل إلى توضيح حقائق وتسليط الضوء على مؤشرات إحصائية وتحليلية يستنير بها من يشاء، ويتجاهلها من يريد، لكن في كل الأحوال يبدو من الصعب إنكار دلالات هذه المؤشرات وتأثيراتها، التي تؤطر لنقاشات رشيدة حول النظام العالمي الجديد في حاضره ومستقبله، وبواعث الصراع فيه، ومدى تنوعها من حضارية، أو ثقافية، أو اقتصادية، أو عسكرية، أو علمية، أو تعليمية، أو قضايا تتداخل فيها كل هذه الأبعاد أو بعضها، وتوضيح إذا ما كانت الصراعات العالمية المحتملة بين الأمم والدول ستنشأ وتتمحور حول الحضارات والأديان والثقافات أم حول المصالح الاقتصادية والنفوذ السياسي، وما يرتبط بذلك من تفاعلات العولمة في شتى تجلياتها.

مقالات أخرى للكاتب