Wednesday 19/03/2014 Issue 15147 الاربعاء 18 جمادى الأول 1435 العدد
19-03-2014

اكتئاب الكتابة أو عصيان المفاتيح

لا أدري لماذا، أو أنني أدري وأريد أن أداري أسبابي، أني لا أجد في نفسي هذا الأسبوع رغبة في الكتابة أو حافزاً لتحمل تحدياتها، وأنني أسحب نفسي إلى موعدها، أتعثر عمداً مرة، وأشعر بأن زعانف لأيدٍ لا أعرفها تدفعني بعيداً عن شوكة الكتابة كلما أوشكت أن أمسك برؤوسها الحادة الصاعقة، مرات.

فأقترب من لوحة المفاتيح وكأنني أخشى الأزرة ألا تستجيب لأصابعي، أو تترصد بصماتي وتشي بي لمن يتشفى بعنفواني وتمردي الكتابي؛ ليقص ما استطال من أظافرها أو ظل عصياً على الاستسلام لمواربة الكلام. أقدم يداً وأؤخر أخرى على علمي بأن الكتابة بيدين لا تكفي، فكيف وأنا أعاني لأسباب غامضة من عصيان أصابعي لمشيئة الكتابة. ومع ذلك لا أرحم حالي ولا حال القراء، فلا أكف عن شد نفسي من تلابيبها إلى وثاق العقد غير الموقع بين الجريدة وبيني ملوحة بيدي ليدي بتمر وتين وبفضاءات رحبة متخيلة، أعلم سلفاً أنها غير مضمونة أو مأمونة العواقب حتى على مستوى الخيال أو الوهم، ولكن ما الذي يتعيّن عليّ أن أفعل أمام تمرد يدي غير أن أستعين بملح الحب، فأذروه على جراح كفي، وأعدها برحاب وحريات لا أملكها؛ علَّها تطاوعني، وتعود إلى عادة الكتابة أو عادياتها. أذكر يوماً أنني كنت من شدة ضنكي وحسي بالقهر من منع الكتابة أنني أخذت أبكي بطفولة ملتاعة أمام أمي، وأشتكي من شد عضلي في ساعدي وآلام مبرحة في كفي من جراء ذلك المنع. فما كان من الشريفة نور بدلاً من أن تربت على كتفي إلا أن انتفضت في وجهي وقالت «قومي من أمامي هذه الثانية، وشمري كمك، واغمسي روحك في الحبر أو النهر أو تراب البلاد إلى ما فوق هام السحب»، على قول محمد عبدو. فلااااااا أحد، أعني لا أحد.. أياً كان، ومهما بلغت سطوته وسلطته وصولجانه، يستطيع أن يمنعك من الكتابة إلا نفسك لا سمح الله.. وواصلت بعنفوان «هناك من قد يستطيع أن يمنعك من النشر، ولكن ليس من يستطيع أن يمنعك من الكتابة، وإن لم تجدي ورقة أو قلماً؛ فالكتابة - وهذه كلمات أمي - فعل تنفس تستطيعين أن تحفريه في الهواء، ولن يضيع. تستعيدينه بلمحة بصر متى ما توافرت الأدوات يـ(ادون). إن الأدوات ليست ملك أحد طالما هناك خيال وذاكرة وإرادة وملكة للكتابة، لا تصادَر بملك أو تمتلك بمال أو جاه». فكيف لا أستحي من أمي الآن ونحن نعيش لحظة تاريخية لم يعد بالمستطاع مصادرة حتى نوافذ ومنافذ الكتابة؟ وكيف لا أستحي من محيا تلك السيدة الرمحية وأنا أتشكى من تمرد أعصابي ووسواس نفسي بما أجده من عدم رغبة في الكتابة لهذا الأسبوع؟

أخجل من قوة شكيمة أمي، ومن القرّاء ورئيس التحرير، ومن الزملاء على تلكُّئي في غرسال المقال، وأثور على نفسي، فأدفع يدي أمامي على الورقة كما يدفع الآباء الذين حُرموا من نعمة التعليم أبناءهم الصغار دفعاً خارج المنزل أول يوم في المدرسة. فتتفرفط الأجنحة، وتتثنى الثياب الجديدة، ويتطلخ الصباح بالدموع والنشيج.

أجرجر نفسي نحو كمين الكتابة كما يجرجر الشباب والشابات أيضاً هذه الأيام أنفسهم من لذة نوم الضحى وأحلام الصحو للبحث عن عمل، يعرفون عن تجربة ودراية أنهم لن يجدوه، ولم تشفع لهم فيه الشهادات أو الطموح أو ذات الحاجة إذا لم يكن مشفوعاً بشفاعة نافذة.

أسوط أصابعي على لوح قدري الكتابي كما تسوط زوجة سليطة اللسان مكفوفة اليد زوجها من الصباح الباكر ليوصلها إلى الوظيفة في يوم عطلته أو طيلة شهور من بطالته.

لا أعرف كيف أفض هذا الاعتصام الذي تجرأت عليه أصابع يدي غصباً عني؛ فليس لي رغبة في الكتابة في السياسة، ليس لأنه لا يوجد ما يُكتب عنها، ولكن لأني سئمتُ المساومة مع الرقباء الذين لا يحصون، وأولهم نفسي. وليس لي رغبة في الكتابة في أي من القضايا الاجتماعية، ليس لأنها أشد من الظلام في الليل الحالك، ولا أدري - بالتالي - أي المواضيع أتخير منها، ولكن لأن حلولها أصبحت أندر من القمل في رأس الأصلع؛ إذ أصحابها أنفسهم إما لا يبالون، أو لا يجدون ما يساعدهم على الحل وإن كان أمامهم، أو لأنهم لا يريدون حلها؛ لأنهم لا يدرون لو حلت هذه القضايا ماذا سيفعلون، وكيف سيديرون أزمة الفراغ والعزلة. وليس لي أدنى رغبة في الكتابة في أي من القضايا الفكرية أولاً؛ لأن الصحف ليست حملاً أو مكاناً لمثل هذه القضايا الشائكة، وثانياً لأنه ليس لدي استعداد للمساهمة في نشر مزيد من الضباب وانعدام الرؤية والتلوث البيئي السائد في الوطن العربي منذ حرب الخليج 1991 إلى تلاحق انتكاسات الربيع العربي هذا، رغم ما يغنى عن الحلم العربي، وما يقال عن الدفاع العربي المشترك، أو ما لا يجرؤ أحد على التفوه به عن فقد المناعة الذاتية بالعالم العربي.

وعدا هذا وذاك، فليس لي رغبة حتى في الكتابة في الأدب أو الشعر؛ حتى لا أقطع رزق الصحيفة التي أكتب بها، وأتسبب في نزول نسبة مبيعاتها؛ ما يعني أن أخاطر حتى بمكافأتي المالية المتواضعة.

وإذا كنتُ أرجو ألا يكون هناك من أخذ على محمل الجد في زمن المثقف المتخصص، تلك القدرات المتوهمة والطاقات الحالمة للكتابة في مختلف شؤون وشجون البشر من الشعر إلى السياسة، فإني ألح بأنها كانت مجرد محاولة مشاكسة لاستدراجكم لتشاركوا الكتَّاب بعض حالات اكتئاب الكتابة التي تعتريهم لكثرة ما تلوي أكفهم بأكفهم أو أكف غيرهم.

فمن يوم أن أصر سعادة رئيس التحرير على أن أسلم مقالي قبل ثلاثة أيام من يوم النشر والوقت يركض من منتصف الليل إلى ترقوة الصبح غير آبه بانسحال أوردتي عكس الوقت، وعلي أن أتكتم على أوجاع المسودة؛ حتى لا يلحظ القراء التشققات على شراييني والكدمات في دمي صباح الأربعاء.

والحقيقة أن يدي من يومها - أي من ذلك اليوم الذي تسلط فيه رئيس التحرير على وقتي ومزاج الكتابة الذي لا يقبل توقيتاً، خاصة بالنسبة للكتّاب الهواة مثلي - ويدي لا تعرف كيف تتخلص من القيد الثقيل الذي ألقت به الأوامر حول معصمها النحيل. من يومها وأصابعي لا تعرف كيف تستعيد مرونة مفاصلها إلا بمزيد من التمرد على عقارب الساعة كلما اقترب الموعد الأسبوعي.

فهل الأمر كما اشتكى بعض الكاتبات والكتّاب بأن مشكلة الكاتب في الصحف المحلية غالباً هي مع رؤساء التحرير، مع اختلافاتها النوعية؛ إذ قد ينصّبون أنفسهم أوصياء على الكتّاب في ماذا يكتبون، وكيف يكتبون، ومتى يكتبون.. وذلك الشرط الأخير على قسوته أرحم أنواع التسلط لاعتباراته التقنية، وليس مجاملة لرئيس التحرير.. هل هي تلك المشكلة التي تجعل من «بعض» رؤساء التحرير - وقد يجانبهم الصواب في معظم الأحيان - ينصبون أنفسهم من خلال مناصبهم خدماً للمسؤولين؛ إذ يخيل إليهم من خلال ما تخولهم الصحيفة من صلاحيات أنهم عين الحكومة، فيفرضون عدداً من المحاذير التي لا تخطر على بال المخبرين الصغار أو الخبراء الكبار؟.. أم أن المشكلة في تهلكة الكتابة نفسها التي عليها ألا تتخلى عن عنفوان المشاكسات النزيهة؛ لئلا تصير فريسة سهلة لاكتئاب الكتابة؟

هذا، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

Fowziyaat@hotmail.com

Twitter: F@abukhalid

مقالات أخرى للكاتب