Wednesday 02/04/2014 Issue 15161 الاربعاء 02 جمادى الآخرة 1435 العدد
02-04-2014

عبد الرحمن بُعد إضافي في تجربة تعليمي الجامعي بأمريكا

هناك عدة شخصيات ممن عاصرت وعاصروني خلال تجربتي الدراسية بأمريكا، ممن تبادلت معهم أشواق المعرفة العلمية والحياتية معاً وتساقينا معاً صبار التجربة وشهْدها, وممن ترك وجودهم في حياتي لتلك المرحلة وبعضهم لمراحل لاحقة آثاراً لا تُمحى.. وليس كل من ذكرت الأسبوع ما قبل الماضي كان لنا على بعض نفس التأثير، كما

أن أثر بعض ممن سأتوقف عندهم في حياتي كان يتفاوت بنسبية عالية، فمنهم من كان أثره لا يزيد على أثر غبار الأقحوان على جناح طائر خاطف، ومنهم من ترك أثراً مثل أثر الفراشة على حد تعبير محمود درويش، ومنهم من كان أثره كالنحت في الصخر، أو من لم يتعد أثره النحت على ماء بحر أو نهر أو هواء.

عبد الرحمن بن عبد الله أبو خالد

أول تلك الشخصيات طفل صغير لم يتم عمر السادسة بعد.. فقد رافقني شقيقي الصغير في حلي وترحالي وفي مد وجزر وصخب وهدوء تجربة دراستي بأمريكا.. وقد كان لوجود عبد الرحمن في حياتي خلال تلك التجربة أثر عميق لا شك أنه أثّر تأثيراً نوعياً على طبيعة تلك التجربة.. ومع أنني لم أزن قط ذلك التأثير بميزان تفاضلي مقارن بين لو أنني كنت قد جئت للدراسة وحدي لا أحمل من المسؤوليات إلا مسؤولية نفسي، وبين أن آتي وأنا أحمل على عاتقي الغض مسؤولية ولد صغير, فإنني أرى الآن وقد قررت استعادة بعض من تفاصيل التجربة, أن وجود عبد الرحمن معي شكَّل قيمة مضافة ليس فقط على التجربة بحد ذاتها، بل على مسار وعلى طبيعة تطوري الذاتي في تجربة الدراسة.. وذلك زيادة على ما يكون عادة لتجربة مرحلة الدراسة الجامعية من آثار بالغة في تكويننا الشخصي والمعرفي معاً.. فوجود طفل صغير في حياة أي كان لا يمكن أن يمر مرور الكرام دون أن يتطلب عملية تغيير وتكيف جذري لتلك الحياة بحيث تجري إعادة بناء الحياة وإعادة تحديد مساراتها وسلوكها وطقوسها وهيئتها العامة والتفصيلية، بل إعادة ترتيب أولوياتها وجدول أعمالها اليومي البعيد المدى والقريب.. فالطفل في حياتنا يعني ببساطة وتعقيد معاً أن روحاً أخرى تعيش في جسدك في نفس الوقت الذي تعيش مستقلة عنك.. غير أننا أحياناً لا ندرك معنى وجود طفل في حياتنا وفي عهدتنا ولا نبدأ التغيير والتكيف بما يناسب حياة الطفل معنا وحياتنا معه عن سابق تصور، بل يحدث ذلك بشكل عفوي وتراكمي وبشكل طوعي أحياناً أو بشكل استجابة إلزامية في أحيان أخرى.. على أن الشرط الأخلاقي والعاطفي - عقلياً وميدانياً - في كلا الحالتين أي التحول الطوعي أو الإلزامي الذي يصير إليه مآل حياتنا بوجود طفل هو أن يجري الأمر حباً وكرامة في ضوء مراعاة مصلحة الطفل وإعطائها الأولية دون أن نهضم حقوق الذات أو نضيّق عليها بالشكل الذي - لا سمح الله - يجعل من وجود الطفل عبئاً على حياتنا بدل أن يكون بُعداً عميقاً آخر من أبعادها.. فالمنشود والمشتهى أن نجعل مسؤولية طفل في حياتنا مصدر إثراء إنساني وفكري وشعوري لا مصدر إزعاج, وأن تكون مصدر نمو مشترك للطفل والمربي معاً.

لم أكن لحظة ودّعنا - عبد الرحمن وأنا - أسرتنا العريضة بجدة أعي مثل هذا الكلام أعلاه، ولم أكن حتى قد فكرت فيه خصوصاً أن أحداً لم يناقش معي، ولو كتصور مبدئي لشكل التجربة الدراسية التي سيتعين عليَّ أن أعيشها بوجود طفل صغير في حياتي.. فكل ما شعرته لحظتها كان الكثير من الزهو والاعتزاز بثقة «ماما وبابا» لدرجة أنهما ائتمناني على فلذة كبدهما الصغير لأرحل به بعيداً عن ملاذهما الآمن وسلطتهما الأبوية إلى بلاد بعيدة تختلف عن معتادنا شكلاً ومضموناً نظاماً وقيماً.

الملفت أن دروس متطلبات العيش مع طفل بدأت من اليوم الأول في الرحلة.. كان لدينا بضعة ساعات توقف ترانزيت في باريس لنواصل الرحلة إلى مطار كيندي بأمريكا ومنها إلى بورتلاند. ما حدث أن حرارة عبد الرحمن ارتفعت بمجرد وصولنا لمطار شارل ديقول ونزلت «لوزه», فاضطررت للتأخر يومين ريثما يتشافى عبد الرحمن قليلاً لنعود إلى مواصلة الرحلة.. وهذا عنى لمفاجأتي وقتها جهداً ومالاً ووقتاً إضافياً لم يكن في حسبان خطتي بأن أكون هناك وقت التسجيل الفصلي بالجامعة، فلا أضطر لموقف التسجيل المتأخر لاحقاً.

من اليوم الأول لدخولنا بورتلاند وجدت نفسي في مواجهة تجربة تختلف عن معهودي السابق في الحياة الطلابية. أصبح هناك سلسلة من الترتيبات اللوجستية التي يتعيّن عليّ اتخاذها بالإضافة لعدد من التدابير التربوية والسلوكية عاطفياً وعقلياً.. وكان معظمها يعني الخروج من خف الطلاب الحرير لأمشي مرة بحذاء ثقيل من طين، ومرة بحذاء أوسع من قدمي، ومرة أسير حافية أكاد أطير. كان لا بد أن أخلي السكن الطلابي بحرم الجامعة وأبحث عن سكن مستقل خارج أسوارها لأنهم ولمفاجأتي أيضاً لم يقتنعوا بأعذاري بأن يعيش أخي الصغير ذو الست سنوات معي في سكن يحفل بصخب الشابات. كان لابد أن أغيّر فيزة عبد الرحمن من فيزا سياحية لفيزا تستمد من طبيعة فيزتي الطلابية لأستطيع إلحاقه بمدرسة. كان عليّ البحث عن سكن بجانب مدرسة ابتدائية عامة لأن ليس باستطاعتي مالياً إدخاله مدرسة خاصة وكان ذلك متعذراً في منطقة لويس آندكلارك وليك أسويقو البرجوازية الراقية مما كان يعني البحث في أحياء أكثر تواضعاً وإن بعدت. كان هناك البحث عن بيت ببيئة آمنة بسعر معقول، الالتزام بتوصيل عبد الرحمن المدرسة قبل محاضراتي وأخذ أتوبيس من وسط البلد إلى الجامعة ثم العودة قبل انصرافه والذي كان يتطلب ذهاباً وإياباً تغيير حافلات لأكثر من مرة. كان هناك تأثيث البيت وإدخال خط هاتف وتسديد فواتير الماء والكهرباء والهاتف. كان أمر ترتيب تأمين صحي لعبد الرحمن، وبعدها التدرب على قيادة السيارة والحصول على رخصة وشراء عربة «قرديحي» «تمشي الحال» وتفي بغرض مشاوير التسوق والتنقل وقضاء الحاجات الضرورية ضرباً من المهمات البسيطة عند أعباء أخرى أكثر متعة وأصعب تدريباً. كان من ذلك وضع جدول ملزم بالتوفيق بين محاضراتي وبين اهتماماتي في النشاط الطلابي وصداقاتي، وبين جدول بحوثي واختباراتي ومتطلبات اجتياز المقررات بدرجة مشرِّفة وبين متطلبات حياة أسرية وإن اقتصرت على طفل وفتاة من الطبخ والغسيل والتبضع والتدريس وإقامة علاقة تربوية مع المدرسة وعلاقة اجتماعية مع أصدقاء عبد الرحمن الجدد وأسرهم ومع الجيران.

المهمة الأصعب كانت المرحلة الأولى في فراق عبد الرحمن لأسرة تموج بالأطفال لأسرة ليس فيها إلا نحن الاثنان. كان هناك أيضاً كسر حاجز اللغة عند عبد الرحمن وكسر حاجز أمية الأمومة عندي.

أخيراً، وباختصار مخلٍ لا شك أن وجود عبد الرحمن بكل زخم الطفولة ورغاويها وبما تميزت به شخصيته من مرونة وعناد مبكرين ومن ملكات مدهشة في التعلم والتناغم وفطرة الفضول المعرفي قد ساعدت على جعل التجربة مفتاحاً لعوالم لم أكن لأتعرف عليها لولا مسؤوليتي الوجدانية والقانونية والضميرية عن عبد الرحمن ووجوده الثري في تلك المرحلة من حياتي.

هذا بالإضافة إلى تلك الحظوة الكبيرة بوجود عائلتي المضيفة (النيومن) بجانبي ووجود ذلك الطيف العريض من الصداقات والرفاق والرفيقات في حياتي وفي حياة عبد الرحمن. لقد لعبت تلك الشبكة من العلاقات وتلك «التركيبة المغايرة الفريدة لتجربتي الدراسية» دوراً حيوياً في نقل التجربة من حيز المعتاد الطلابي المحدود إلى حيز أفقي واسع مثل نهر يتدفق بعدة مصبات تجمع بين حلاوة العلم بذاته ولذاته وبين تحدي مشاق الغربة والفراق في تفاعل كيميائي مشوق مع أمل وقلق التطور الذاتي والاستكشاف.. فمن المؤكد أنني لم أكن لأتمكن من تعلم المجتمع الأمريكي والتكشف على التفاصيل اليومية للحياة الأمريكية وليس فقط للحياة بأمريكا لولا وجود ذلك الطفل الملائكي الشقي يحف بروحي كيفما وأينما تحركت.

وأختم هذا الجزء ببعض الذكريات الممشوقة في الذاكرة مع وعن عبد الرحمن.. ومن عينتها حضوري مهرجان طيارات الورق في مدرسة عبد الرحمن وقيام أحد الزملاء المقربين بتصميم طيارة عبد الرحمن الورقية على شكل خارطة الوطن العربي وتلوينها بألوان الأعلام، اكتشاف معلمته لموهبته الفذة في الرسم، ظهور صورته على الصفحة الأولى في جريدة الأورجنيون لشجاعته بين أطفال مدرسته في موقف أثناء زيارة قاموا بها لحديقة الحيوانات, خروجه معي في المظاهرات، نجاح العزيزة نورة الصويان في تعليمه قيادة الدراجة ذات العجلتين في بضع ساعات بعد أن رشته بوجبة شعيرية بالعسل (وقد كانت وزوجها جيراننا في نفس الكمبوند).. وأخيراً لا أنسى يوم عدت لأخذه من المدرسة بعد الرابعة والربع، وقد تأخرت عن موعد خروجه اليومي قليلاً لأجد أنه ليس كعادته بانتظاري في ساحة مدرسة بكمان الخضراء المطلة على شارع ستارك.. فقد مررت بلحظات رعب ظلت لوعتها في نفسي إلى الآن. كان الغروب يحل باكراً كعادة غابة الشمال الغربي في الشتاء, فلما مضت حوالي الساعة وأنا أبحث عنه في الأرجاء دون جدوى، جلست على رصيف باب مبنى المدرسة وبدأت أجهش بالبكاء وأنا أصرخ باللغة العربية ماذا سأقول لماما ضيعت طفلك؟؟؟؟.. فما كان إلا أن انفتح الباب الذي كنت أعطيه ظهري وسمعت صوت عبد الرحمن الطفولي يقول بعتب أخّاذ «عشان تاني مرة ما تتأخري».. ومن يومها صرت أصل المدرسة قبل وقت انصراف الأطفال.. فقد تعلمتُ درساً كبيراً من العصفور الصغير.

Fowziyaat@hotmail.com

Twitter: F@abukhalid

مقالات أخرى للكاتب