Sunday 06/04/2014 Issue 15165 الأحد 06 جمادى الآخرة 1435 العدد
06-04-2014

عرعر .. مدينة تغيرت حد الدهشة!

لأن الطريق إلى عرعر طريق طويل، وفي الجو غيم، وبيني وبينها شوق، لهذا مضيت إليها سريعاً قبيل المساء، الطقس على طول الطريق يميل إلى البرودة بشكل معتدل يبعث في النفس السكينة والخدر والعافية، قدت سيارتي لم أفكّر حينها بشيء معين، كنت سارحًا، كمن في داخله آخرُ لا يجيد إلّا النبش في مزارع الماضي، أنا ابن من ولدوا تحت الشمس وعلى سفوح الرمل، باحثين عن غيمة

واعدة، وأرض خصبة وعن غدير ماء، وعشب وكلأ، أفراحهم كانت هشة كأفراح الحمام حين يأمن نافذةً يبني عليها عشّه، في الطريق إلى هذه المدينة الحانية مررت بعدة هجر، كل هجرة أصبحت يافعة من الحسن غدت فارهة كغادة فاتنة، عند كل هجرة أوقف سيارتي وأترجل، أنشغل بمرأى التحديث والتجديد وحركة التغيير والنماء والتبدل، دخلت عرعر بعد سفر طويل، الساعة الآن تجاوزت منتصف الليل، المدينة هادئة، والناس نامت، ليس هناك على الطريق سواي وبعض سيارات عابرة، تنفست بعمق شديد، جاءتني عندها ذكريات الصبا كالظلال المتساقط، حاولت الإهتداء إلى إيقاعها، وأن أمسك نفسي المنشطرة بين أن أكون هنا أو هناك، عندما تأخذك الذكريات، كأنك تحتاج إلى ميزان لتزن روحك بين اليقظة والسهو، هي الحياة علمتني وجوب مطارحة الأشياء والتمعن بها، في اليوم التالي وفي سوق المدينة العتيق شاهدت طفلة صغيرة بظفيرة شقراء تحمل قفص عصفور وتضحك، وأمرأة تبحث عن فستان عرس فريد لأبتنها التي ستزف قريباً، ورجلاً يلاسن آخر، أصوات الباعة والمتبضعين وحركة المارة والسيارات تشعل المكان، ورغم ضيق المكان، إلا أن الناس تمارس تسوقها بحب ومرح وتطلع، فجأة أحسست بلفحة هواء تسري في جسدي رسمت حينها قوساً ملوناً أخذني نحو تلك المسطحات البهية الخضراء والأشجار التي أينعت وأزهرت بشكل جمالي خلاب بفعل عمل (الأمانة) البديع، التي حولت الأرض والشوارع إلى أمكنة مترفة زاهية، تأملت كل شيء، أعدت ترتيب الصور بالتأملات التي تشطح في رأسي، وتمر أمام عيني، لتستوي عندي الحكاية مثل أحواض الورد التي تغالب الأتربة والعطش، كل ما في عرعر بهرني، هزني، وأوقظ في الحياة، وأشعرني بالعافية، عرعر اليوم ما يزت نفسها عن المدن الأخرى، بجدائها المخضبة، وعطرها الآخاذ، وفستانها الملون، وأرصفتها الجديدة، حتى هجرها التابعة لها ما يزت أنفسها هي أيضا عن بقية الهجر، حتى غدت هذه الهجر الشمالية كصبايا مترفات حسان، يرفلن بالزهو والعذوبة والفرح، عرعر احتاجت طويلاً لمحفزات كثيرة، وهمم جبارة، وسواعد شابة، حتى تحولت إلى مدينة تصيبك بالدهشة، وتصدمك بالبهاء والعذوبة والرقة، أهلها بـ (أمانتها) وشبابها والقائمون عليها أستطاعوا أن يجعلوها كاللوحة الجميلة، والتحفة المنحوته، والبلورة النادرة، والكريستال الملون، ليكسوها ملامح جديدة، وجمال جديد، عرعر كبرت وازدانت وانتشت واتسعت، وخاتلت العلو والبهاء والتمدد، ولاحت في ساها المنجزات، أقولها بعيداً عن قحط الجحود والنكران والأنانية المفرطة ورمادية التكتل، هي الآن قريبة من أن تشبه القمر، جزيرة للضوء، ومكاناً للجمال والأناقة، فقط تحتاج لتهيئة الفرص لرؤوس الأموال الكبيرة، لتصبح بعدها مركزاً للعمل والإبداع والإنتاج وناطحات السحاب، عرعر تغيرت وفق حراك سريع، بعد أن فاقت من غيبوبة الحال الطويلة، والركود الممل، نمت هذه المدينة وكبرت حتى صارت مدينة للمفاجآت، مشهد الشباب الشمالي باهر بكل أقماره وشموسة، وله أعمال ثرية، وينهمر من منابعه الجمال، له إخفاقات، لكنها في محيط ضيق، هم الإضاءات والرهان والمنجز القادم، لهم لمعان، ولغة، وملامح بهية، ومخيلة عالية، هم مثل رواية لها لغة صافية وشفافة ورزينة، في عرعر تذكرت أيضاً كيف كانت هذه المدينة وكيف صارت الآن، الأشياء هناك تغيرت بسرعة ملفته، صارت هناك منتزهات وحدائق، وطرقات وجسور معلقة في الهواء وجامعة كبيرة ومصحات، والبهاء انتشر في كل مكان، أربعة أيام في عرعر مرت من حولي حينها الكثير من الأحداث والصور، مر أصدقاء ومعارف، مرت غيوم كثيرة ومطر، مرت أحلام وكوابيس، مرت حياتي كلها أمامي، مرت بي تلك الريح المحملة بالرمل والتي أقتلعت عمود الواسط ذات شتاء، مر بي زمن الرحيل المر، والقيظ والبرد والقحط، مر بي كيف كان الخوف والشتات والهاجس، مرت بي أشياء كثيرة كنت أسعى إلى الإمساك والظفر بصورها التي جاءت على شكل ومضات سريعة لكن إيحاءاتها وأشكالها كثيفة ومتنوعة، لقد تشابكت لحظتها عندي كل مكونات الماضي طريقة ورؤى مفهوماً وامتداداً، لقد جاءتني وجوه كثيرة أولها وجه - فضة - التي داهمها وزوجها - غربي - فيضان الشعيب، كنت أصطاد الصور من لوحة الماضي كدرويش كريم في زمن بخيل، تأتيني تباعاً كبرق سريع، وكمن أعطي فرصه ثمينة، رحت أمشي طويلاً في فضاء عرعر الفسيح هضابه شعابة أوديته، أتحاشى الاصطدام بنوافذ الماضي، وغبش ليالية،والملح والرماد، والجرار المكسورة، والفخار التي عفرها الرماد، وإنشاد الذهول، كنت لوحدي أغني للحاضر البهي وفق احتفالية فردية خاصة، فيها سعد مفتوح ولبان وماء وشمس وحناء، مرت بي سحابة تأمل طويل، قبل أن ألملم أغراضي، كي أحث الخطى مغادراً هذه المدينة الحانية وقلبي لا يزال معلقاً بها، عرعر مدينة الرمل والغبار، صارت الآن سيلاً من الضياء، مفاصلها حسناء، جسدها أنيق، وحضنها يقبع فيه الدفء الذي يجبرك على الإغفاءة والتمدد.

ramadanalanezi@hotmail.com

ramadanjready @

مقالات أخرى للكاتب