Sunday 13/04/2014 Issue 15172 الأحد 13 جمادى الآخرة 1435 العدد
13-04-2014

أربعٌ وعشرون ساعة .. في «غادة الجنوب»! 2-2

في صبيحة اليوم التالي.. كنت أتعجَّل إفطاري مكتفياً بقطعة من الخبز وفنجاناً من الشاي وآخر من القهوة.. كسباً للوقت حتى أتمكن خلال الثلاث ساعات القادمة من رؤية كل ما يمكنني رؤيته.. من تفاصيل هذه (المدينة).. هذه (الغادة) بصحبة رئيس اللجنة الثقافية الدكتور بانقيب وسكرتيرها الأستاذ الجفري،

اللذين أجازا نفسيهما - تفضلاً - من عمليهما لساعات.. ليصحباني في هذه الجولة الصباحية المبكرة، التي ذكَّرتني بهروب طلبة الجامعات - على أيامنا - من محاضراتهم الصباحية.. لحضور عروض العاشرة صباحاً التي كانت تقدمها كبريات دور السينما في القاهرة والإسكندرية، ليسألني أحدهما: ومن أين نبدأ..؟

- من أجمل مواقع المدينة.. من (الكورنيش)..؟

بعد عشر إلى خمس عشرة دقيقة.. كنا نقف (لثالث) مرة على الكورنيش، الذي أدهشني وأعجبني وأسعدني منذ رؤيتي الأولى له.. بـ(إطلالته) البحرية البانورامية اللا متناهية.. التي لا يحجبها عن البحر حاجب، ولا يشغلها شاغل من أسوار أو أكشاك أو مبانٍ حكومية أو استثمارية.. وبـ(مظلاته) العائلية وممراته الرحبة، وامتداده الذي يقارب الأربعة أكيال.. وزاويته القائمة على واجهتيه الغربية والجنوبية البحريتين. لقد كان جميلاً حقاً.. في هذا الضحى.. كما كان جميلاً بصخبه في أول المساء.. وكما كان عذباً فاتناً ببقايا رواده عند منتصف ليلة البارحة.

ليأخذنا سيرنا المتئد على (الكورنيش).. إلى تلك (القناة) البحرية التي تشق المدينة إلى نصفين: شرقي وغربي.. والذي أذهلني وجودها بداية.. كما أسعدني وأمتعني.. نهاية، فلم يكن يخطر ببالي.. أن يكون بـ(القنفذة) أصلاً (قناة بحرية) طويلة أو قصيرة!! فضلاً عن أن تكون كتلك التي تشق مدينة (دبي) إلى نصفين.. والتي غدت مركزها وأحد أبرز معالمها السياحية.

لقد كان مشهد (القناة) باتساعها الذي يقل عن مائة متر.. وطولها الذي يتواصل مع (مجرى السيول) عائداً إلى البحر ثانية، وبأكتافها الحجرية الجميلة المائلة على ضفتيها.. وجسريها اللذين يعتليانها وهما ينقلان العربات والدراجات والمارة بينهما: رائعاً بحق.. إجمالاً، ومذهلاً بالنسبة.. لتصوراتي السابقة والمتواضعة عن (القنفذة) وإمكاناتها، فلم يغب الأستاذ الجفري (القاهري الهوى) عن التقاط لمحة التشابه هذه مع (النيل) على ضآلتها.. بين نيل القاهرة الكبير والجميل وجسوره الأضخم والأفخم وهذه القناة الصغيرة مقارنة وجسريها الأصغرين.. وقد توسطنا في سيرنا بينهما.. ليقول ضاحكاً هازلاً منتشياً وهو يشير إلى الجسرين: هذا هو كوبري (قصر النيل).. وذاك كوبري (6 أكتوبر)..!! ما الفرق..؟! وهو يستغرق في ضحكه.. لنبادله الضحكات، ولأستدرك بعدها.. قائلاً: إن (كورنيشاً) كهذا و(قناة) بحرية كهذه وعلى صغرها النسبي.. لا تقومان من فراغ، إذ لا بد وأن يكون وراءهما.. عقولٌ وحماس وحب وإرادة، وإذا كنت عادة لا أتوقف كثيراً.. عند (كورنيش) في المدن الساحلية عموماً.. باعتباره تحصيل حاصل أو أمراً مفترضاً: صغُر أم كبُر.. إلا أن هذه (القناة) المتصلة به.. شدّتني واستوقفتني طويلاً وزقزقة فرح تجتاحني، فقد أضافت لـ(الكورنيش) مساحة.. وللمدينة جمالاً لا يتخيله كثيرون!! فمن صاحب فكرتها..؟ ومن أنفذها على هذه الصورة المعمارية الجميلة..؟!

فقال الدكتور بانقيب: إن فكرة (القناة).. هي فكرة جغرافية أوجدتها الطبيعة.. في شكل شرم بحري يخترق اليابسة.. إلا أن مياهه كانت ضحلة.. إلى أن جاء رئيس بلدية القنفذة آنذاك المهندس مصبح عساف الغنيم.. فقام بتعميق الجزء الأوسط منه.. والارتفاع بأطرافه بدفنها ليتكامل له بناء (القناة) وإنفاذها على هذا النحو، وهذا المستوى.. هي والكورنيش الذي أعجبك.

قلت: فإذا سأل (طفيلي) مثلي: من هو رئيس البلدية أو (المايور) - كما يقول البريطانيون - الذي لا يُنسى في حياة القنفذة..؟

فقالا على صوت واحد: هو المهندس (مصبح عساف الغنيم).. الذي تقاعد منذ سنوات قليلة.

قلت: ولكنه ترك أثراً جميلاً.. لا يُنسى بهذا (الكورنيش) وهذه (القناة) التي تسمونها (البحيرة)، وستحفظه له (القنفذة) وأجيالها المتعاقبة.. ما عاشت المدينة وعاشت خطى السائرين فوق كورنيشها.. وعلى ضفاف قناتها أو بحيرتها..!

* * *

إلى شارع (الستين)، كانت تأخذنا العربة بعد ذلك.. في طريقنا إلى قلب المدينة القديمة، ليستلفت انتباهنا الدكتور بانقيب عند مدخلها.. إلى ميدان مجسم (المُرَبَّعة) التراثي الجميل، والذي يتكون من مربعة سكنية تراثية قنفذية.. ربما بثلث حجمها الطبيعي أو أقل، وهي تتوسط الميدان حيث تمر السيارات من حولها.. وتلتقي عندها نظرات العابرين.. شيء كذلك الذي كان يستوحيه من العمارة الحجازية الفنان (درويش سلامة) في أعماله.. والذي نثر الكثير منها على كورنيش جدة الشمالي، وفي بعض أحيائها.. ثم أزيل معظمها وبقي بعضها مع عاصفة إزالة المجسمات في جدة، وهو ما لا أتوقعه أو أخشاه على مجسم (ميدان المربعة) للفنان (مشهور زين السيد).. ربما لأنه (الوحيد)، وربما لأنه يمثّل روح القنفذة.. روح غادة الجنوب، لتقف بنا عربتنا.. عند (الطاحونة العثمانية) الشهيرة، التي يمتد عمرها إلى القرن الثاني عشر الهجري والتي يعرفها كل أبناء القنفذة.. فقد كانوا حتماً يأكلون جميعاً من خبزها.. من حنطتها التي كانت تقوم بطحنها، وإذا كان مسمى (الطاحونة) لا يوحي عادة بـ (تصميم) أو شكل معماري يستحق التوقف عنده أو تأمله.. فضلاً عن الحفاظ عليه، فإن طاحونة القنفذة.. (العثمانية) التاريخ والمنشأ.. كانت وكأنها تستوحي تصميمها من عهد (سنان) المعماري التركي الفريد، الذي كما ملأ عاصمة الخلافة العثمانية (إسطنبول).. بروائع مساجده وقصوره وقناطره.. ملأ عواصم أقاليمها في مكة والقاهرة ودمشق وبغداد وحلب.. بالكثير من أعماله المترفة الباذخة.. فكان لـ(القنفذة) نصيبها من خلال هذه (الطاحونة) الدائرية الجميلة التي تشبه (القلاع) بأكثر مما تشبه طواحين الحنطة التي نعرفها، والتي أحسنت هيئة الآثار والسياحة.. بضمها إلى مجموعة آثار المدينة التي يتوجب ترميمها وصيانتها والحفاظ عليها، وكان من حسن حظ هذه (الطاحونة).. أن يُقام إلى جوارها - بقصد أو مصادفة - مبنى (متحف) آثار (القنفذة) الجميل حقاً والذي تم الانتهاء منه مؤخراً، وهو ما سهَّل الأمر على إدارة الآثار والسياحة.. بمدّ حرم المتحف.. لتصبح (الطاحونة) جزءاً منه، ليخدم هذا الموقع مجتمعاً: إدارة السياحة والآثار، ومتحف المدينة، وأثرها التاريخي الأبرز.. الطاحونة العثمانية.

قبل أن نترك موقع (الطاحونة).. كان الأستاذ الجفري - على طريقته في الإثارة الأدبية أو الصحفية على وجه الخصوص - يُذكّرنا بضرورة المرور على (المسرح الروماني)!! وهو ما أدهشني.. وجعل صورة المسرح الروماني الأشهر بـ(جرش) أو (عمَّان) تقفز إلى ذاكرتي.. بكثير من الفرح والبهجة والدهشة أن تحتوي هذه (الغادة) الجنوبية على مسرح روماني..؟ ولكن قبل أن يتمادى بي الخيال، ويسرح بي بعيداً.. كان الدكتور بانقيب - وكأنه أدرك ما طاف بخيالي -، يُعقِّب قائلاً: ليس (مسرحاً) كما قد يتبادر إلى ذهنك.. ولكنه (ميدان) خصصته البلدية لإقامة الاحتفالات الشعبية عليه لاتساعه، ولكن ولأن على محيطه أقيم (مدرجان) للمشاهدين.. فقد شاع بين الناس بأنه (المسرح الروماني)، ليتداوله العامة والخاصة ويسري بين الناس أجمعين.

على أي حال.. أخيراً وصلنا إلى (القنفذة) القديمة.. والتي يتوسطها السوق كما هو شأن المدن العربية كلها.. كـ(السوق الكبير) في جدة، بمبانيه (المسلحة).. ودكاكينه المتلاصقة وزحامه المحدود في تلك السويعة من سويعات الضحى، ومع أن السوق بدت جميلة بمعروضاتها.. إلا أن أهالي القنفذة ما زالوا يذكرون بحسرة دكاكين السوق القديمة التي بُنيت من الحجارة البحرية.. والتي تمت إزالتها هي والقصر الذي كان يسكنه أمير القنفذة في عهدي الملك عبد العزيز والملك سعود.. والذي كان يمر به الدكتور بانقيب في صباه ليمتع بصره برؤية مبناه الحجري البحري الجميل، ورواشينه الخشبية الضخمة التي قد تختلف قليلاً عن رواشين جدة.. إلا أن منظومة جمالها لم تكن خافية على أحد سواء في ماضي تلك الأيام.. أو حاضرها لمن رأى بقاياها!!

* * *

أعرف.. أنني لا أتحدث عن (فلورنسا) الإيطالية وآثارها أو (مونترو) السويسرية وساحلها أو (آنسي) الفرنسية وبحيرتها وقنواتها.. وإنما أتحدث عن مدينة صغيرة على الساحل الشرقي للبحر الأحمر.. ربما ظلمها اسمها (القنفذة)، ولم يخدمها إعلامها.. إلا أن قليلها الجميل وغير المتوقع الذي رأيته، فأدهشني وأسعدني.. بدا (ساطعاً) في نظري يستحق كل هذه الكتابة بطولها، وقد رفد أسبابي.. هذا التماسك المجتمعي الملفت الذي رأيت عليه أبناء (غادة الجنوب)، فالكل يعرف الكل.. باسمه وعمله وربما بعنوان منزله ورقم هاتفه، وهو ما صنع ويصنع لُحمة مجتمعية.. تفتقدها المدن الكبرى كـ(جدة) و(الرياض) وربما (الدمام).. ستعبّر عن نفسها وأحلامها وطموحاتها ذات يوم، وأحسب أنه لن يمضي وقت طويل.. حتى نرى قيام شركات سياحية ملاحية لتسيير رحلات (اليوم الواحد) البحرية بين هذه (الغادة).. و(جدة) في الخريف والشتاء من كل عام، وشركات إعلامية (أخرى) لإقامة مهرجانات للفنون الشعبية التراثية والغنائية الموسيقية في بلد يشكو من (التخمة) فيهما بين أيام الخريف والشتاء من كل عام.. لزيارة هذه المدينة.. هذه الغادة، التي يستحق كورنيشها وبحيرتها ومجتمعها المتحاب والمتصالح مع نفسه ومع الدنيا.. الزيارة.

ربما كانت أبرز مشكلات هذه (الغادة).. هي (المواصلات) التي تفصلها عن غيرها وتوصلها بغيرها، فميناؤها التاريخي القديم.. أصبح بالياً، وهناك ميناء جديد تحت الإنشاء، ومطار إقليمي مرتقب.. صدر القرار بإنشائه منذ أيام المرحوم الأمير سلطان بن عبد العزيز.. ولما يصدر القرار بـ(إنفاذه) بعد.. فـ(يوم الحكومة.. بسنة) كما تقول أعرافنا!! فلا يبقى لها غير هذا الطريق الدولي.. المسمى بـ(الساحلي)!! وطريق آخر كسيح.. من مسار واحد، يوصلها مع مكة المكرمة.. يمكن أن نسميه دون أدنى تجنٍ بطريق (المهالك) لاختناقه بالشاحنات وناقلات البترول وحافلات الركاب والمضطرين من أصحاب السيارات الخاصة، وهو ما يحملني - دون إذن من أحد - بتوجيه دعوة لمعالي الدكتور الصريصري وزير النقل.. لـ(زيارة) هذا الطريق (فقط)!!

* * *

بعد الواحدة ظهراً.. كنت آخذ مقعدي إلى جوار أخ كريم، تفضل بإعادتي إلى (جدة).. لأسأله: أن يمر بنا في طريق مغادرتنا للمدينة.. بمنطقة الكورنيش والبحيرة.. ففعل، لأستمهله عند بلوغهما.. وأصمت، فتسرح عينايا بين زرقة مياههما الصافية الجميلة.. وصوت مضطرب يتردد في داخلي: يا غادة الجنوب.. لا أخاف عليك من شيء قدر خوفي عليك من لصوص الأراضي وسماسرتها وتماسيح الشواطئ.. القادرين دوماً على تحويلها إلى ملكيات خاصة.. تحرم الناس جميعاً منها..؟!

وانطلقت بنا العربة.. إلى جدة.

- جدة

مقالات أخرى للكاتب