Saturday 03/05/2014 Issue 15192 السبت 04 رجب 1435 العدد
03-05-2014

إعفاء وزير

عزل الفاروق خالدا، وقد أخضع ابن الوليد ، بقيادته العسكرية الفذة، بلاد الشام لأمير المؤمنين، كما أخضع للصديق عتاة المنشقين من المرتدين. فأغمد سيف لله سله رسوله عليه الصلاة والسلام، بعد أن أتى للمسلمين بقياصرة الروم وتيجانها. وصدق عليه السلام وهو يصف ابن الخطاب في الحديث المتفق عليه « فما رأيت عبقريا يفري فريه». والفري من القطع أي حسم الأمر ، ففرى العبقري أمر افتتان المسلمين وقولهم «لا يهزم جيش يقوده خالد ، فلم يهزم خالد قط في جاهلية ولا إسلام، وهو من يقلب الهزيمة نصرا». فلولي أمر المسلمين اعتبارات كلية تحتسب عند تحقيق مصالح المسلمين وأبعاد المخاطر التي تتهددهم. وارتجل فارس الإسلام طائعا وسلم الراية وأغمد سيفه، مأجورا مشكورا، راضيا سعيدا. فهذا هو حال الفرسان، فالتحمل دون أقوامهم والتضحية لأوطانهم هو محل تمحور فروسيتهم التي استحقوا بها وصف الفروسية.

إعفاء الوزير أو المسئول الأعلى عند حصول كارثة أو حادث أو وباء أو شائعات أو أمر ما، قد كثر كلام الشارع ولغطهم حوله هو سياسية يتبعها حكماء عظماء قادة العلماء من بعد الفاروق ومن قبله. وسياسة الإعفاء أو العزل هذه، غالبا ما تكون لأسباب قد لا يكون لها علاقة بمسئولية المسئول. فغرض العزل لقطع السبيل على المغرض الذي تلاعب بعقول الشارع بشائعة كاذبة، لم تخرج بسبب تصريحات مسئول متهور. أو لمنع استغلال عاطفة الناس بكارثة طبيعية أو استخفاف بحمية المجتمع في حادث اجتماعي ونحو ذلك. فالعزل هو حفظ الشارع بقطع الطريق على المتربص المغرض بهم، وإلا فالعزل في مثل هذه الحالات قد لا يغير في المستقبل شيئا فيستطاع بالعزل منع ما لا يمتنع من حوادث الدهر التي لا يد لبشر في التحكم فيها. وأما الوزير أو المسئول المعزول فقد بنى مجده بكونه قد خدم بلاده وقومه وأدى دوره و قام بما ولي من المهام بتمام كمالها. فالتعرض للعزل والإقالة والإعفاء في مثل حالات كهذه هي من المهام المحتمل القيام بها في المناصب ذات المسئولية العليا، والتي عاهد عليها المسئول ولي الأمر الذي عينه وزيرا ومسئولا. فقيادة الدول فيها اعتبارات وحسابات، لا يدركها أحد حتى يخوض غمار المسئولية العالية. وهذا بشهادة كثير من عظماء الرؤساء، الذين اعترفوا بذلك بعد أن عجزوا عن تحقيق كثير من وعودهم التي ظنوا سهولتها قبل أن يرتقوا كرسي المسئولية، ومن آخر من اعترف بذلك، أوباما.

وفي الأمس القريب أعفى الدكتور عبد الله الربيعة عن وزارة الصحة. وبكوني مراقبا خارجيا لم يطلع أبدا على أي أمر مما يدور خلف الأبواب المغلقة، فإني أعتقد بالاستناد على اطلاعي المتواضع على الخطط الإستراتيجية الطموحة التي وضعها الربيعة خلال الخمس السنوات الماضية من حياته التي شغلها في قيادة وزارة الصحة. وبمعرفتي بما أُنجز في هذه السنوات من وضع الخطط والتصورات واختبارها والمقارنة بينها وما وضع من بنية تحتية متطورة تعليمية وإنشائية، مع الأخذ في الاعتبار وضع الصحة عند استلامه لها، يجعلني أكاد أجزم بأن عزل الوزير الربيعة لم يكن لتقصير منه أو سوء تدبير أو إهمال لمصالح الناس، بل هو من تمام إكمال مهامه الوزارية التي عاهد المليك الصادق على الإخلاص في أدائها، والوزارة منصب سياسي كما هو منصب إداري ومهني.

وقد كان اختيار الربيعة مناسبا لهذه الوزارة في هذه المرحلة التأسيسية النقلية بكونه الطبيب المهني الرفيع والإداري المخضرم. والتخصص العلمي المهني من أهم عوامل النجاح المستقبلي أثناء مراحل تأسيس الكيانات التي تعتمد على علوم معقدة كالطب، وتمر في مراحل تطور علمي تخصصي.

فلا أقدر وأنسب من أن يقود هذه الكيانات، خبير عليم بعلومها. وشاهد هذا أن أوباما أخرج البروفسور الحاصل على نوبل في أبحاث الطاقة، من معمله وأبحاثه وجامعته ليسلمه وزارة الطاقة في وقت إرهاصات بزوغ تغير في مصادرها. فلا ينفع لقيادة الكيانات المعتمدة على العلوم المعقدة والمتطورة، إلا العالم بخفايا علومها الدقيقة.

والكرونا أو انتقال الإيدز هو من الأخطاء الفردية التي قد تكون من إهمال عام، لكنه ليس إهمال وليد السنوات الخمس الماضية، بل هو نتاج ثقافة شاملة تراكبت خلال عقود، ولا يمكن أن تتغير في عقد من الزمان، كما أنها تتداخل مع ثقافة المجتمع كله. وإنشاء قطاع للصحة أو التعليم من جديد، أسهل بمراحل فلكية من إصلاح وترقيع الموجود. وذلك لأن هذه الوزارات وأمثالها تعتمد على العمل البشري وثقافته المزروعة معه والتي تحكم سلوكياته وأدبياته وأخلاقياته الداخلية الخفية والتي يصعب مراقبتها بدقة من غير انضباط داخلي من الشخص نفسه. وثقافتنا تكونت من خلال عقود من الوعظ الديني الذي يعتبر هو أساس مفهوم الانضباط الداخلي في ثقافتنا.

والوعظ فيه كثير من مفاهيم التوكل والغفران، والتي توظفها النفوس الإنسانية كثيرا بطريقة خاطئة- للتجاوز عن الاحتياطات اللازمة في الصحة مثلا-، والتسامح مع المهمل، كما أن فيه بابا واسعا للتأويل، فضلا أن أثره يروح ويجيء مع زيادة الإيمان ونقصانه. وهذا بخلاف نظام العقوبات والمكافآت الدنيوية التي يضعها المشرعون في كل مجتمع بحسبه، ولذا جاء الإسلام بالحدود والغنائم. فالقانون يجب أن ينفذ دون تأويل أو إرجاء، فالإشارة حمراء لا تقطع ولو تأكد عدم الضرر.

وقطاع الصحة في بلادنا كغيرها من غالب القطاعات التنموية التي توقف أو تأخر نموها عن نمو السكان بسبب انهيار أسعار البترول واستهلاك الاحتياطيات الأجنبية.

ولو قدرنا محاسبيا -باستخدام الاستهلاك السنوي للمنشآت والمعدات خلال عشرين عاما في المتوسط - لوجدنا أن القيمة المحاسبية للمنشآت والمعدات تقارب الصفر.

بالإضافة إلى تصاغر نسبة النمو في العقل البشري الطبي إلى النمو السكاني العام والى النمو في التخصصات والاحتياجات. والصحة ليست كغيرها، فهي تعتمد على علوم معقدة وتحتاج إلى زمن طويل لتحصيلها علميا واكتساب خبراتها. فالنهوض بقطاع الصحة من الصفر المحاسبي ليتعدى الاحتياجات الحالية المتراكبة إلى الاحتياجات المستقبلية يحتاج إلى تخطيط عميق واختبارات افتراضية للخطط، وبناء حذر محسوب بطريقة علمية رفيعة.

وشجرة ثمرة اللوز تحتاج أضعافاً مضاعفة من السنين عن شجرة التفاح لكي تُثمر لوزها.

وفي عرف الأوطان وقادتها وفرسانها ونبلائها، فالتسبب في الدفاع والحفاظ على الشجرة وأرضها وأهلها واستمرار ثمرتها هو الغاية العظمى والهدف الأسمى لكل من بذل جهدا ومالا وصبرا لإثمارها.

hamzaalsalem@gmail.com

تويتر@hamzaalsalem

مقالات أخرى للكاتب