Wednesday 07/05/2014 Issue 15196 الاربعاء 08 رجب 1435 العدد
07-05-2014

بورتريه (1) من بلاد التنين

من الطبائع البديهية أن يستمد الإنسان هويته من الأرض. ووجه الشبه بينه والتضاريس عميق جدا، ووجه التشابه يطّرد باتجاه محسوب ومتفق عليه مذ ابن خلدون، حينما أصاب فكرة تعارف عليها علم الإنثروبولوجيا عن سكان المناطق الحارة والباردة وتفريعاتها.

فكيف إذا كان عالما حدّي الملامح في أقصى الشرق ويشكل كوكبا مستقلا بطبيعته وتنوعه وثرائه مما يصوغ عنصرا مستقلا بثقافته ومنتجا لحياة عجيبة بأسلوبها وسلوكها وهيئتها. فاتساع الرقعة وتلون أرضها وخصوبة جغرافيتها وتخصص كل رقعة بخط مناخي معين.. كل ذلك يعطيها استقلالية عن بقية العالم لإشباع نهم العقل لرؤية عجائب الخلق من الشواطئ والأنهار الصفراء والحمراء، وسلاسل الجبال الطويلة، والهضاب المرتفعة، والصحاري المترامية، والغابات الكثيفة.. وكل موصوف يتصف بتعقيدات تضيف إليه أورادا ضمن ألوان مدرجة لا تنتهي في هذا العالم الغريب.

ولذلك لا نعجب عندما تتميز تلك البلاد بأيقونات تعدها ماركة مسجلة باسم أراضيها عن بقية بلدان العالم، فقمة جبل إفرست فيها (في جبال الهملايا)، ودب الباندا العملاق على طول (نهر يانغتسي)، وأهم غابات الخيزران ومدرجات الشاي وأحيائيات لا تنتهي من نبات وحيوان وحجر نحته الإنسان والطبيعة..كل ذلك شكّل جزءا من خصوصية هذه الأرض وهذا الشعب الذي عجن تميزه في بقائه مع حدود أكبر عدد من الدول المحيطة فاستحال البلد من عرقية واحدة إلى عرقيات، ومن ثقافة إلى ثقافات، ومن مقاطعة إلى مقاطعات.. إلخ..

وينحصر تفرد هذا الجنس باستقلاله العميق في ضرورات حياتية ومفاصل مشتركة تجعله ذا وميض مميز ونكهة خاصة تعاد حتما إلى أصحابها، كما هو أسلوب الرجل الذي يعبر عن خامة عقله وفكرة. ولو لمحنا لوحة تشكيلية تعبيرية من أي مكان أو على قارعة الطريق نجدها تختصر الحياة المعيشة على أرض الواقع ببساطة الخطوط والألوان والتفاصيل القليلة التي تتوازى مع بساطة الممارسة اليومية للشخص الصيني والخالية من التعقيدات، والرقي والفخامة في الحرف والصناعات اليدوية التي تفضي بك إلى تاريخ من العراقة والأصالة.

كذلك بالنسبة للموسيقى الشبه الصوتي لهذا العالم بآلاته البسيطة ذات الأوتار القليلة والنوتات الشحيحة، إلى زهد الشراهة والاكتفاء بما يروي الظمأ، والاستئناس بأنغام فقيرة سائلة من وتر وحيد ونقرة بطيئة محسوبة على قضيب بسيط يقيم أود الجوقة. وركن متسول في الشارع كاف لتمثيل هذا الفن برشاقة أدواته والغني بروحه وإيقاعه الرتيب الذي يتقلب على فسيفساء لاتنتهي من المعاني المجردة.

وإذا تأملنا السلوك اليومي للإنسان فهو عبارة عن خطوة مبرمجة ومعدة سلفا لا يلفته غير الصخب والحالات الاسثنائية كي يتخذ رد فعل تجاهها. فإذا أحس بالخطر اتخذ خطوة صارمة محسومة مثيرة للاستغراب لكل من اعتاد حلولا عاطفية معتمدة على قيم دينية أو تقليدية. ولهذا لا نعجب من اختراع الرياضات القتالية الحادة والصارمة كالكونغفو والتاي تشي والكانتاو والتي شابهت طبيعة الحياة الشخصية والعملية التي لا تداهن ولا تعرف المواربة والقائمة دائما بصورة حدية وقاطعة! يدعم تلك الحقيقة المشاهدة في الحياة العامة، حياتهم الاجتماعية المحصورة على الجد والابن والحفيد مع مجاملات ضرورية تجمع الجار بجاره في حديقة المجمع السكني ومن هم في تماس دائم وفي مصالح يومية روتينية في العمل أو خارجه.

ويعزز فكرة البساطة انحصار العيش في أقل قدر ممكن في ملذات الجسد المحسوسة كالغذاء، لا عجزا في الحصول عليه، وإنما انبثق كثقافة تشكلت مع الزمن، في توقيت محدد كأوقات الصلوات لا يتنازل عنه العامل مهما كانت الظروف، إلا أنه يطوي سفرته في لحظة لأنها لا تتجاوز صفحة الكف الواحدة. وينطبق ذلك على الهندام واللباس الذي يتبدل مع رديف ثم يستغنى عنه حالما يبلى، ويساعد على ذلك قلة ذات المساحة السكنية التي لا تسمح بغير الضرورات وزاد المسافر المتمثل في أدوات البيت الأخرى. وربما كان لتعاليم (كونفوشيوس) في حكمه الموثقة دورا في الوصاية وحث الفرد على التقشف والاستغناء عما يزيد عن الحاجة، وإذا زاد يدفع إلى الفقراء والمحتاجين.

كما أن المتأمل لهذا البورتريه الأفقي للصين لن يجهل حياة البذخ البارزة في أركان متباعدة من هذا البيت الكبير، لكنه يعد استثناء وليس قاعدة، حتى في حياة الأغنياء الذين اجتذبتهم ثقافة الصينيين الجارفة في حياتهم اليومية اللاهبة. مع أن السائح والإنسان الطارئ على هذا الشعب العجيب قادر على ممارسة أي درجة من درجات البذخ والبطر. وقد أوجد لكل منحى حياتي ومن جميع مناحي الحياة ومتفرقاتها سلم لا ينتهي من التمايز بين شيء ومثيله. ويحكي تلك الصورة الفاقعة المعروضات السلعية في مكان واحد والمدرَّجة في جودتها وفخامتها كل بسعره المحدد وفق معايير خامته! وتلك حقيقة لاحظتها بالمعايشة بعد غبش من المعروضات القادمة إلينا من كل مكان فلا تستطيع التمييز بين شيء وآخر، فالغش والخداع سيد الموقف للأسف فبرمجت عقولنا على ذلك ولم نستطع انتزاع الفهم إلا بالتجربة.

هذا العالم العجيب لحمة واحدة، وصفحة ثلاثية الأبعاد تشير بعمق إلى تناسق صوره وألوانه. ولذلك هذا المقال عنوان عريض وفقرة أولى ضمن فقرات علها تضيء تفاصيل قادمة عن هذا التنين العظيم..

المدرسة السعودية في بكين

مقالات أخرى للكاتب