Saturday 17/05/2014 Issue 15206 السبت 18 رجب 1435 العدد
17-05-2014

{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا}

ذكر شيخي محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله تعالى - قول الله سبحانه وتعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} (21) سورة الفتح، فحملها على العموم، وهو نفي كل قدرة عنهم، لأن فعل {تَقْدِرُوا} في سياق النفي، وهو {لَمْ}.. وقرر الشيخ رحمه الله تعالى أن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم، وأنه متقرر في الأصول، وأيّد ذلك بقوله: «ووجه ذلك ظاهر».

قال أبو عبدالرحمن: المحقق في علم الأصول أن النكرة في سياق النفي والنهي تُفيد العموم، ومن أدخل الفعل المنفيّ الذي ذكره شيخنا الشنقيطي رحمه الله تعالى في العموم فمذهبه أن الأفعال نكراتٌ، وقد ذكر الزركشي عن الايضاح للزجاجي رحمهما الله تعالى إجماع النحويين على أن الأفعال نكرات، كما في البحر المحيط للزركشي 4/175/دار الخاني طبع دار الكتبي بمصر طبعتهم الأولى عام 1414هـ، وهذا المجلد من البحر المحيط أوسع المراجع في تناول صيغ العموم.. والنكرة لا تدل على شيء مُعين؛ لهذا كانت عامة كل شيء يُحتمل.. ولم يجعلوا الأفعال نكراتٍ بإطلاق، بل بأن تكون في سياق نفي أو نهي أو شرط.. وهذه مسألة أطال فيها الأصوليون والبلاغيون، وكثر خلافهم مع الغموض، وتشتُّت الذِّهن.. والمُفترض في الأصول أن تكون واضحة مطردة؛ لتخدم فهم النصوص الشرعية على وجهها، فإذا صارت بهذا الغموض، وبذلك الخلاف المتسع الذي يُشتت الذهن، وتتورم فيه الكتب بكثرة الصفحات تقريراً ورداً: فإن الأمر ينعكس، وتكون الأصول مطلباً في نفسها تُخدم بالاختلاف في فهم نصوص الشريعة.. وهذا خلاف الواقع والمُراد؛ بل الغرض من الأصول خدمة فهم الشريعة بما هو أوجز وأوضح وأقعد من خلال الاطراد بالاستقراء من لغة العرب ورجحان المُراد في الشرع؛ ولهذا السبب أُبيِّن لإخواني طلبة العلم أن المرجع إلى علم الآلة المختص؛ فالمسألة ههنا لغوية؛ فلنرجع إلى علم اللغة، ليغنينا عن اختلاف الأصوليين؛ فإذا قلت: «رأيت رجلاً»؛ فالكلام ههنا مُثبِتٌ، ورجلٌ مجهولُ العين، لأنه نكرة، ولكنه لا يعمُّ كل الرجال؛ فيكون رأى كل الرجال، بل هو دال على رجل واحد مجهول العين؛ لأن رؤيته ودلالة الرجل على الواحد قضت على العموم، وتنكيره قضى على التعيين الذي يُحدد اسمه أو نسبه أو صفته.. وهكذا لو قال: (رأيت رجلين أو رجالاً)؛ فالمثنى معروف العدد مجهول الهُوية بالنسبة لتعيين هُوية الرجلين، والرجال جمعُ مجهولي الهوية؛ فالسياق بصيغة المُثنى، والرجال بصيغة الجمع، وتنكير (رجالاً) و (رجلين) دل على أنه رأي رجلين أو رجالاً من عموم الرجال مجهولي الهوية؛ وإنما يدل على عموم النكرة أن تكون منفية كأن تقول: (ما رأيتُ رجلاً) فرجل نكرة ونفيُه نفيٌ لرجل غير متعيَّن؛ فصار نفياً لرؤيته كل الرجال في الزمن الذي أراده المتكلم أو المكان الذي أراده؛ فدل ذلك على أنه لم يَر أحداً من الرجال في ذلك الزمان والمكان؛ فهذا دليل علالعموم المناسب لمعهود المتكلم لا للرجال بإطلاق إلا إن كان ضريراً.. ومما يخرج عن معهود المتكلم في نفي الرؤية الرجال الذين ماتوا قبل إدراكه؛ فهو لم يَر الرجال الذين لم يُخلقوا بعد؛ فهذا هو المنفيُّ.. وهكذا نفي عموم الرجال في زمان ومكان معيَّن؛ فلا يثبت من الرجالِ إلا نكراتٌ غيرُ مُعينين لم يرهم في ذلك المكان والزمان؛ إذ من المحال أن يعيش آدمي مبصر لا يرى أحداً مدى عمره.. وهذا العموم حينما يكون النفي على حقيقته، وأما إذا كان على سبيل التعجب فهو إثباتٌ لا نفيٌ كأن يقول إنسان لصديقه: (أما عرفت رجلاً من بني فلان البارحة) فيقول: (ما عرفتُ رجلاً؟؟!!)؛ فتكون نبرته نبرة تعجب واستغراب؛ فيكون الكلام بمعهود لغة العرب في التعجب أنه عرف رجالاً كثيراً من بني فلان إن لم يكن عرفهم كلهم، وهذا يُعرف بقرائن الأحوال.. والأفعالُ على التحقيق ليست نكراتٍ، بل هي متعيِّنة بما دلت عليه من حدث وزمان، فهي ليست نكرة بمدلول لغة العرب، وأما بالاصطلاح النحوي فالنكراتُ في الأسماء؛ وبموجب ما مر يتضح أن الفعل ليس في سياق النفي دالاً على العموم؛ وذلك بخلاف دعوى شيخنا الشنقيطي إذ قال: «إن ذلك متقرِّر في الأصول، ووجهه ظاهر».

قال أبو عبدالرحمن: كلا؛ فليس ذلك ظاهراً؛ لأن القدرة في لغة العرب تشملُ كل شيء يحصل به التمكُّن من شيء آخر؛ فالعموم في معنى القدرة من جهة المادة.. أي المفردة اللغوية، وليس بسبب أنه فعلٌ في سياق النفي.. والسياق يحدِّد زمن القدرة ومكانها وموضوعها؛ فنصُّ الآية الكريمة أنكم لم تقدروا عليها فيما مضى والآن، وليس ذلك نفيٌ للقدرة مستقبلاً، وليس نفياً لقدرةٍ عندهم ولكنها قاصرة بالنسبة لأعدائهم.. ثم ذكر شيخنا الشنقيطي رحمه الله تعالى: أن الفعل ينحلُّ عن مصدرٍ وزمن عند النحويين وبعض البلاغيين، وأنه ينحلُّ عند بعض البلاغيين عن مصدرٍ وزمنٍ ونسبة، ثم قال الشيخ: «وهذا هو الظاهر كما حرره بعض البلاغيين في بحث الاستعارة التبعية».

قال أبو عبدالرحمن: لقد عالجتُ دعوى الاستعارة التبعية في إحدى سبتياتي بهذه الجريدة، كما سبق منِّي البيان بأنه لا اشتقاق ولا انحلال في الصيغ؛ وإنما هناك تحويلٌ صرفي إلى صيغ تُعرف معانيها في لغة العرب، والمتحوِّل إلى الصيغة يريد معناها.. وأما الجدل في اشتقاق وانحلال المصدر من الفعل أو العكس فقد أنتج جدلاً عقيماً لا علاقة له ألبتة بفهم لغة العرب؛ وإنما هو تشقيق فكري يُتعب الذهن ولا تحصل به نتيجة عن سليقة اللغة كما نرى في كتاب (الإنصاف) للأنباري رحمه الله تعالى في استعراضه الجدل بين البصريين والكوفيين: هل مصدر الاشتقاق الاسمُ أو المصدر أو الفعل؟.. ومع هذا أُبيِّن بمفهوم لغة العرب السَّمْحِ مسائل حول الفعل والمصدر والزمن والحدث والنسبة، ويُنتج هذا البيان إن شاء الله فهماً لغوياً بعيداً عن الفكر المُرسل الذي لا يلامس واقع اللغة، فأما الحدث فهو اسم للشيء المفعول الذي فعله الفاعل؛ فلما احتاج النحاة إلى معرفة عموم الحدث في الزمان بسبب احتياجهم إلى الاصطلاح النحوي المشروع من أجل تمييز الفعل والمصدر: جعلوا المصدر اسماً لكل حدث وقع، أو يقع الآن، أو سيقع مستقبلاً.. وسبب هذا التعميم في الفعل قابليته لإجراء هذه الأحداث في أي وقتٍ كان.. وأما الفعل فهو في الاصطلاح النحوي يجمع بين وقوع الفعل الذي هو الحدث، وبين الزمن؛ لأن وقوع الفعل لا يكون في زمن معيَّن بل هو يقع في الماضي والحاضر والمستقبل، فصار عندنا معنيان للفعل هما الحدث الذي هو المفعول، والزمن الذي هو ظرفه.. وهذا الاصطلاح في نفسه صحيح، ولكنه تحصيل حاصلٍ بالنسبة لضرورة العقل، لأنه لا يُعقل حدث إلا في زمان ومكان لموقع الحدث، ومكانٍ لفاعل الحدث، ومكانٍ للموقع الذي وقع عليه الحدث؛ فالمرجع حينئذ للمفهوم اللغوي؛ وهو أن الفعل اسم للصيغة الدالة على حدثٍ معين في زمن معين.. والفعل في لغة العرب يدل في الأصل على أداء المفعول من بدايته إلى اكتماله، ويدل على المفعول مجازاً، لأنه نتيجة الفعل، والشاهد على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} (سورة الكهف/ 51)؛ فالخلق ههنا على وزن الفعل، وهو بمعنى الحدث وقت إيقاعه، لأن الله يفعل الحدث ويوقعه في الوقت الذي أراده بقدرة وعلم وحكمة بلا بداية، لأن الله هو الأول لا شيء قبله ولا معه في الأولية والوحدانية في الكمال المطلق والتنزه المطق.. وليست الفعل ههنا بمعنى المفعول كما في قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} (سورة لقمان/ 11)، فهذا إشارة إلى مخلوق قد تم خلقُ الله إياه كالسموات والأرض؛ لأن الله سبحانه وتعالى دلّ المخاطبين على ما شاهدوه من خلق الله باسم الإشارة، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ} (سورة الأنعام/ 138) فالذي يُطعم ويُؤكل الزرع المحروث لا فِعل الحرث.. وأما العلم بالفعل حين أدائه فليس له هو مفهوم مفردةٍ واحدة في لغة العرب؛ وإنما يعرف بكلام مركَّب فيه الوصف والتمييز والعدد والإحالة إلى المعهود من الأحداث التي تم إيقاعها؛ فالضرب مباشرةُ حدثٍ معلومٍ في معهود البشر بأنه رفع اليد بآلة تُلقى على المكان المعهود من إحداث الضرب؛ فتقول حينئذٍ: (رأيتُ زيداً يرفع عصا غليظة ملساء، ويلقيها على ظهر سعدٍ بكل ما أوتي من قوة، واستمر على هذه الهيئة مئة مرة، فكان ضرباً شديداً حتى أُغمي عليه أو حتى ازْرَقَّ ظهرهُ)؛ فهذه إفاضة اضطررتُ إليها بمناسبة كلام شيخنا الشنقيطي رحمه الله تعالى؛ لأبيِّن خصوصية الاصطلاح النحوي، وتنزيله على الثمرة المرادة منه المبنية على الاستقراء من لغة العرب، وأن ما عدا ذلك مما يعجز عنه الاصطلاح النحوي كما أسلفت عن الفعل بمعنى مباشرة أداء الحدث: فلا يفهم إلا بالرجوع إلى لغة العرب بكلام ذي سياق مفهوم، والمرجع أيضاً إلى مشاهدة الحدث وبراهين العقل ومعهود المشاهدة، وقصارى القول: إن ثوابت اللغة هي ما لا يمكن أن تدُلَّ اللغة على غيره؛ فهي إذن (ظواهر اللغة) الت تعيَّن مدلولُها بيقين أو رجحان.. والمُراد بمتغيِّرات النحو قواعد النحاة التي استقرؤوها من ظواهر اللغة؛ وبما أن قواعد النحاة لا تكون صحيحة إلا إذا كانت استقراء من ظواهر اللغة المُتعيِّنة الدلالة: فإن ظواهر اللغة هي الأصل والمرجع في تصحيح ثوابت النحو ومتغيراته.. وكان شيخنا محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى من الحُفَّاظ الأفذاذ: يستحضر قواعد النحاة، ويستحضر قواعد المعارف والعلوم، ويخضع لها بكل أمانة، ولا يكاد يركن إلى ضرورات العلم والفكر في امتحان قواعد النحاة وقواعد المعارف والعلوم.. والشيخ يعلم أن كل تلك القواعد صناعات مردودة إلى الاستقراء من المتعين لغة، وإلى ضرورات الفكر والعلم في امتحان صحة القواعد واطرادا، إذن فالمحقق أن المصدر لما كان اسماً لأي حدث كان أو يكون، أو سيكون: صح بهذا أنه لا وجود لحدثٍ إلا بفعل فاعل؛ ففعله شرط لإيقاع الحدث، ولولا الفعل لم يقع حدث؛ فأصبح الحدث مشروطاً بالفعل، وأقصُرُ الكلام عن الفعل على أفعال المخلوقين المشاهدة، وأما فعلُ الله المغيَّب فهو راجع إلى ما يليق بجلال الله وعظمته وكماله؛ فمفهوم الفعل حركاتٌ وهيئات وأدوات.. إلخ يوصف بها الفاعل؛ فيقال يرفع يده، ويرفس برجله، ويذبح بالسكين.. وأما مفهوم الحدث فأمر خارج عن صفة الإنسان، لأن الحدث مفعولٌ وكينونةٌ يُنسب وجوده إلى الفاعل، ويُضاف إليه بأنه فعل، ولا يوصف به الفاعل، لأنه ليس من معناه ولا من معنى الفعل.. والمصدر بما أنه اسم للحدث ليس نكرة، وإنما هو اسم للكينونة وذلك معلوم باللغة، ولكن الأحداث أنواع: منها ما وقع في المشاهدة كالسعي والدعاء وإطعام الطعام؛ فهي أحداث معلومة بالمشاهدة وبالمعهود في الذاكرة، ومنها ما هو مغيب كزلزلة الأرض عند قيام الساعة؛ فلا يوصف هذا الحدث بأنه نكرة، بله و معروف بالوصف بالخبر اليقيني الصادق، ولكنه لم يحن أوانه، لأنه لا يزال من علم الغيب، وسنشهده ولا بد ونتساءل عنه، ونسأل الله تعالى أن يحسن خواتيمنا، وأن نكون من الآمنين يوم النشور؛ فلا يقال عن ضَرْبِ زيدٍ عمراً: (رأيت زيداً ضرباً)؛ فتجعل الحدث صفة له، وإلى لقاء قريب إن شاء الله، والله المستعان.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب