Wednesday 28/05/2014 Issue 15217 الاربعاء 29 رجب 1435 العدد
28-05-2014

من أدب الرحلات: ذكريات رحلة طلابية قبل أربعين عاما 1-2!

كانت فكرة متمردة مجنونة تدفعنا دفعا إلى أن نعلن عن ذواتنا الصغيرة التي بدأت تتقافز على قسوة التوجيهات وتحديد التصرفات إلا بإذن من مدير المعهد العلمي الذي كان يديره رجل فاضل مخلص وتربوي كبير؛ بيد أنه شديد الهيبة صارم قاس في إيقاع العقوبات بمن يخالف توجيهاته الإدارية؛ فكأننا أردنا أن نعلن لأول مرة عن استقلالنا في اتخاذ قرار يخصنا نحن طلاب السنة الثالثة الثانوية دون أن يتسرب أمر ما نتفق عليه إلى مسامع شيخنا ومديرنا الفاضل الحازم!

أيام قليلة ثم تبدأ بعدها إجازة منتصف العام الدراسي مع مطلع شهر ربيع الأول من عام 1396هـ وسيكون لدينا أسبوع كامل من الاسترخاء والراحة لا نعلم كيف يمكن أن نستمتع به وهذه السنة الدراسية هي سنة التخرج وثمة شعور قلق محير يدب في نفوسنا ويطلق صيحة فراق قد لا نجتمع بعده في دراسة أو وظيفة؛ لا بل ولا ربما مدينة واحدة كما نحن الآن طوال هذه السنين الدراسية الست، شعور ممض بأن تفرقنا نحن العصبة المختارة المتجانسة المتآلفة المتقاربة التي لم يبق منها بعد الرسوب أو التأخر أو تطليق الدراسة إلا أربعة وعشرون طالبا هم هؤلاء الذين يتآمرون الآن على إعلان العصيان والتمرد على الإدارة باتخاذ قرار رحلة وداعية دون إذنها ودون أن تعلم فلابد من التعجل بالعزم والحزم على تحديد الوجهة: إلى أين ؟! لم تكن الخيارات المتاحة آنذاك كثيرة ولا متعددة؛ فإما إلى الرياض التي لا تبعد عنا إلا مائة وثمانين كيلومترا، أو إلى المنطقة الشرقية التي تبعد ستمائة كيلو متر؛ ولكنها مثيرة لخيالاتنا الحالمة بالبحر وأدخنة المصانع وأرامكو والبترول والمدن الحديثة المتطورة التي نسمع عنها ولا نرى إلا صورها المبهرة في الصحف لا التلفزيون؛ لأن التلفزيون بقناته الوحيدة لم يصل بثه بعد إلى قريتنا، وكانت الخبر والظهران والدمام في خيالاتنا أكثر المدن السعودية تقليدا للحياة الغربية وللنمط الأمريكي في التخطيط والمعمار وأنظمة المرور وتسامح ساكنيها؛ لتأثرهم بالثقافات الأجنبية على خلاف المدن والقرى النجدية التي كانت أكثر تشددا في المحافظة على القديم وأبعد عن التأثر بالحياة الحديثة إلا بقدر كبير من الحذر والتردد؛ فكانت المداولات الهامسة بيننا في الفصل في فترات الفسحة ترمي بعيدا إلى هناك؛ حيث الحداثة والجدة والبحر والانطلاق واكتشاف الجديد، وتولى كبر التنسيق وجمع « القطة « التي لم تزد على مائة ريال ممن وافق من المجموعة شابان نشيطان كانت لهما سبق قدم في الأعمال القيادية في المعهد ولا تخلو شخصيتهما من تطلع إلى الزعامة؛ فسجلا اسم عشرين طالبا موافقا بميزانية ألفي ريال، وهو مبلغ مترف جدا في تلك الأيام نستطيع أن ننعم خلال أسبوع الرحلة بكثير مما نشتهي مما يؤكل أو يشرب، وهكذا انطلقنا بعون الله في سيارتين ذواتي غمارتين محملتين بخيمتين وبعض المؤونة اللازمة، ولم أنس كاميرتي العتيقة التي لا أدعها أينما حللت أو رحلت لتدون بفيلمها الأسود أو لنقل شريطها شديدالشبه بأفلام السينما القديمة كل التفاصيل الجميلة والغريبة المتوقعة لهذه الرحلة، وقد اكتسبت حب التصوير والغرام به من ابن عمي «صالح» - رحمه الله - المصور الشهير الذي لو كان الآن حيا لرأى كيف أرخت لقطاته النادرة تاريخ قريته ومعالمها وشخصياتها في وقت مبكر جدا!

مررنا في طريقنا على الرياض وقبل أن نخرج منها ليلا رأينا دائرة عملاقة كبيرة على الطريق القديم ذي المسار الواحد المؤدي إلى المنطقة الشرقية فأردنا أن نقف عندها لنعلم ما شأنها؛ فإذا هي «ملاهي» ملاعب أطفال هائلة ضخمة مغرية بدائرتها العالية المضاءة فسال لعابنا وتحركت شياطين الفتوة والصبا فينا ووقفنا عندها مبهورين مندهشين حائرين من أين نبدأ ؟ فلم ندع لعبة صغيرة ولا كبيرة إلا وجربناها سعداء بألعاب لم نحلم بها قط ولم تتيسر لنا في قريتنا الصغيرة النائية المندسة بين الجبال!..

يتبع

moh.alowain@gmail.com

mALowein@

مقالات أخرى للكاتب