Wednesday 18/06/2014 Issue 15238 الاربعاء 20 شعبان 1435 العدد
18-06-2014

موسم الهجرة للسياحة

لا بأس من سرقة الشِّقِّ الأول من عنوان الرواية المشهورة (موسم الهجرة إلى الشمال) للأديب والروائي الأكثر شهرة (الطيب صالح) - رحمه الله.

إنه مناسب للموضوع الذي أود الكتابة عنه،

وهو الهجرة من أجل السياحة. لا نختلف على أن العطلة الدراسية الصيفية هي موسم السفر للسياحة العائلية، وإن كنّا نسافر أيضًا في العطل الأخرى مثل الأعياد ونصف السنة، وبدرجة أقل نهاية الأسبوع، إلا أنها عرضية وقصيرة المدة وتخضع للظروف. العطلة الطويلة يخضع فيها رب العائلة ليس للظروف، بل لإصرار أفراد العائلة. هم يريدون بيئة مختلفة وحياة مختلفة عمّا كانوا فيه طوال العام. في هذا المكان المختلف تتقابل ثقافتان: الثقافة التي يحملها السائح وثقافة البيئة الجديدة التي يحلّ فيها ضيفاً، كما أن قضاء الإجازة على هذا النحو يتكرّر سنويًّا أو سنة بعد سنة؛ ولعل ذلك مما يسوِّغ تسمية هذا السفر السياحي بالهجرة. فإن لكل امرئ ما نوى لهجرته، كما جاء في الحديث الشريف:(إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).

السياحة قريبة من مفهوم إصابة الدنيا- لا سيما إذا كانت عائليه، ففيها إنفاق مالٍ مقابل الاستمتاع بقضاء الإجازة في جوّ مريح وبلد مختلف. لكن لماذا يهاجر المصطاف؟ لماذا لا يصطاف في بلده ويقضي الإجازة فيها؟ فهو هنا أيضًا يتخفف من أعباء العمل، وأولاده كذلك من همِّ الدراسة، وربة البيت قد لا يتغير وضعها - إن لم تكن موظفة- ولكنها على أي حال تشارك أفراد عائلتها في سعادتهم وانشراحهم، وتسعد نفسها خاصة بالتسوق من وقت لآخر، وإن كان ذلك قد لا يسعد ربّ العائلة. فوق ذلك -بل أهمّ منه- أن المصطاف سيجد في المنطقة التي يقصدها (مثل عسير والباحة والطائف) جوّاً مختلفاً يحقق له أهمّ أهداف الاصطياف، وهو الهرب من الحرِّ اللافح في منطقته.

ومصائفنا تجذب -كما هو مشاهد- مصطافين كثيرين تناسبهم في هذه المصائف البيئة الاجتماعية المحافظة التي يستمتعون فيها بصيف بارد وطبيعة جميلة، دونما تغيّر في نمط الحياة العائلية، ولا يريدون شيئاً غير ذلك. لكن الهيئة السعودية للسياحة والآثار لم تأل جهداً في إتاحة المزيد من المتعة والتنوع لتزيد من جاذبية السياحة الوطنية، متعاونة في هذا النشاط مع الغرف التجارية والقطاع الخاص وإمارات وأمانات المناطق والمحافظات. فشملت برامج الهيئة أكثر من 45 مهرجانًا متنوعًا في عروضه وفقراته المثيرة - لا سيما للفئات الناشئة. ومن أجمل وأحدث الفعاليات برنامج (السياحة الزراعية) في محافظة الطائف، فلعله يحظى بالتوسع والتطوير في مختلف (واحات) المملكة. والراغب في الاصطياف الداخلي لن يعوزه الحصول على معلومات عن الفعاليات والمهرجانات الصيفية في المملكة، فالهيئة قد وفرتها بشكل دقيق ومنظم. على أن فئة من المصطافين لا تروق لهم البيئة الساكنة المحدودة الفعاليات والحركة، ويرون أن الإقامة فيها مدة طويلة قد تكون مملة. فهم يهاجرون بحثاً عن دنيا تصيب العائلة فيها متعة وإثارة وحرية في الحركة، فلا ينحصر نظرهم في بقعة خضراء لا تتغير، أو فعالية تتكرر. وهؤلاء عددهم ليس بالقليل. فقد حزم (عفشه) للسفر جوّاً قاصداًً السياحة خارج المملكة - حسب ما أفاد به نائب رئيس لجنة السفر والسياحة بغرفة الرياض الأستاذ وليد السبيعي - حوالي مليون ونصف المليون سعودي لهذا الموسم. وجاء في رأس القائمة دبي ثم ماليزيا (وكلاهما حارة ورطبة!)، ثم لندن، ثم بلدان أخرى سياحية. فهل يمكن لبعض هؤلاء أن يحوِّلوا وجهتهم للسياحة الداخلية؟ إن الإقامة في منطقة سياحية مدة ثلاثة أسابيع أو أكثر هي طويلة بالفعل. إنها هجرة حقيقية يُفترض أن السائح ينتقل فيها من بيئة سكناه الدائمة وحياته العائلية المعتادة إلى بيئة مختلفة في طبيعتها ومجتمعها، وحياة عائلية جزءٌ كبيرٌ منها خارج جدران السكن في الفضاء الفسيح الذي لا تضيّقه قيود المجتمع المحافظ جداً أو جهات الضبط الاجتماعي. لذلك لا بد من وجود عناصر هذا الاختلاف حتى تكون الإقامة مرغوبة ومبهجة لجميع أفراد العائلة، بمن فيهم فئة الشباب البالغين الذين يتخلف كثير منهم عن مرافقة ذويهم حتى إلى خارج المملكة، ويفضلون السفر (أو البقاء) مع أقرانهم. وعندما يسافرون يقضون من الوقت مع أقرانهم أكثر مما يقضون مع الأهل- لاختلاف المشاربوالرغبة في الاستقلالية والانطلاق. فهل يمكن تحقيق ذلك؟ لا أدعى العلم بما يفكر به الآخرون، ولكنى أظن أن من يفكر في تحويل وجهته السياحية إلى الداخل يتوقع توافر المقومات التالية:

- جو لطيف وطبيعة جميلة، ونظافة تامة في الأماكن العامة كالشواطئ والمتنزهات والطرقات، وكل ما يكفل سيراً آمناً وممتعاً.

- مستوى جيد في المظهر والترتيب والنظافة والخدمة في الفنادق والمنتجعات والشقق المفروشة والمطاعم والمقاهي بأسعار متزنة.

- مواصلات مريحة ومضبوطة المواعيد والأسعار، وبرامج رحلات داخلية منظمة لتيسير الوصول إلى المواقع السياحية (شواطئ وأودية وجبال ومواقع أثرية ...الخ).

- وسائل ترفيه ولهو يرضاها السياح كافة ولا تصطدم بثوابت الدين، مثل صالة عرض أفلام تراقبها الهيئة ولا يكون فيها أي اختلاط، أو - إن تعذر ذلك - نصب شاشة في المقهى أو المنتزه تعرض أفلامًا أو مسرحيات أو حلقات من مسلسلات (طاش ما طاش مثلاً) مما سبق عرضه في التلفزيون السعودي.

- مدينة ملاهي (park) حاشدة بما يناسب الفئات العمرية المختلفة، ومنشآت رياضية - ولو مؤقتة- يمارس فيها الشباب هواياتهم مثل كرة القدم والسلة والطائرة والتنس والسباحة والرياضات المائية تحت إشراف مهني منظم.

- حفلات الفنون المسرحية والغنائية ذات الطابع المحلي عامل جذب سياحي كبير، ومن الخطأ إلغاؤها في المناطق السياحية، فهي لا تختلف عمّا في الإذاعة والتلفزيون وبعض حفلات الزواج، ويمكن تنظيمها بشكل يكون مرضياً للسياح والأهالي.

وفي هذا السياق أنوّه بما أورده الأستاذ عبدالله الكعيد (صحيفة الرياض 16-8-1435) من مفارقة خلاصتها (أنه بينما يكون تكسير الآلات الموسيقية سمة مهرجانات الصيف السعودية (نقلاً عن موقع العربية نت) يعبر جسر البحرين مليون مسافر في أوّل أسبوعين من الإجازة الصيفية وتغص المطارات بالمسافرين للسياحة خارج الوطن).

فهل يسافر هؤلاء بحثاً عن جوّ بارد، أم عن متنفس في بيئة اجتماعية أقل ضغوطاً؟

إن تطوير الخدمات السياحية لن يلغي سياحة الخارج، ولكنه سيضاعف عدد سياح الداخل. ومع استمرار الجهود الموفقة لهيئة السياحة، وبعد صدور نظام الجمعيات المهنية السياحية - الذي هو من ثمار هذه الجهود -لا يبقى إلا أن نتمنى زيادة وعي المجتمع للمتطلبات السياحية، وتشجيع المستثمرين على تنظيم الرحلات وإقامة المنشآت السياحية التي تفي بتلك المتطلبات - ولو من خلال قروض ميسرة تمنحها الدولة، أو شركة متخصصة تسهم فيها الدولة والمواطنون. ويبدو الآن أن الكرة بميدان السياحة الوطنية تتقاذفها ثقافتان:

إحداهما يمثلها المتطلعون إلى بيئة سياحية غير منغلقة، والثانية يمثلها الممسكون بمفاتيح أقفالها. فلتحقيق سياحة وطنية ناجحة، لا بد من التقاء الثقافتين في الوسط وتبادل التحية بينهما بالمصافحة، إن لم يكن بالعناق.

مقالات أخرى للكاتب