Saturday 28/06/2014 Issue 15248 السبت 30 شعبان 1435 العدد
28-06-2014

الهياط داء عدم الاتعاظ (1 - 2)

لا نتوقع من الساسة الفاسدين حضور الضمير، أو في أقل الأحوال فهم الأمور، كما يوحي بها منطق الواقع؛ لكن مصيبتنا الآن ليست معهم، بل مع الناس العاديين الذين سرقتهم شهوة الهياط، لينزلقوا في عمليات قلب المنطق، وأعمتهم عن رؤية الأشياء الماثلة أمامهم كما هي، أو في صورة قريبة من واقعها.

في بعض سياقات واقعنا الحالي الأقرب لوصفه بالمرارة، يعلق أحدنا على ما يراه وجهة نظر له في ذلك الواقع أو في بعض جزئياته؛ فتنهال بعض الردود التي تدل على الهوس الشديد بالجدل غير المتحضر في مجتمعنا المعاصر. من تلك التعليقات التي وضعتها ذات مرة، ما يخص الوضع المقلق جداً في العراق في الأحداث الأخيرة المتسارعة، التي لا يمكن أن يسر بها عاقل. وكنت وقتها قد كتبت شيئاً عن مخاوفي من كونها بوادر حرب أهلية في العراق، وهو الأمر الذي سيكون له تبعات كارثية على المنطقة بكاملها وعلى تاريخ العرب الحديث، كما كان الأمر في المنطقة نفسها قبل أربعة عشر قرناً، عندما اندلعت الحرب الأهلية الأولى في التاريخ الإسلامي. فكانت الردود لا تناقش الموضوع نفسه، الذي طرحته، ولا الرأي الذي أبديت من خلاله مخاوفي من تلك البوادر؛ بل اتجهت بعض الآراء المؤدلجة إلى التنافس في شتائم هنا وهناك لبعض القادة السياسيين العراقيين، وللطائفة المسيطرة على الوضع في العراق حالياً، وأمور أخرى لم تكن هي موضوع مخاوفي المرتبطة أساساً بتداعيات الوضع مستقبلياً. وعندها وضحت وجهة نظري، وكوني لا أناقش من المخطئ، ولا أحلل الأسباب التي أدت بالوضع إلى هذا التدهور؛ بل بالدرجة الأولى مخاطر التطورات المتوقعة من اشتعال الفتنة الطائفية بين فئتين كبيرتين جداً في هذا البلد المجاور، ويحمل كل منهما السلاح. فالأمر كما أراه خطير جداً، وربما يتجاوز مخاطر الأزمة الأوكرانية، وحتى الحرب الأهلية السورية الدائرة في الجهة الغربية، والتي ستزيدها اشتعالاً، لتشابك المصالح والجهات بين أطراف النزاع في كلا البلدين. فكانت المبالغات التي تكتنف بعض من شارك في ردود أخرى على توضيحاتي تحمل أمارات الهياط المتزايد في ثقافتنا المحلية. منهم من بدأ يوبخني، بأني لا أصف الأوضاع كما هي؛ فتلك الميليشيات التي سيطرت أخبارها على نشرات الأخبار هي - في نظرهم - مدافعة عن الأعراض والأموال والأوطان، إلى آخر تلك المعزوفة التي يعرفها المتابع للفكر المؤدلج، والذي لا يتبين الأمر إلا في وقت متأخر جداً.

وبعد أسبوع من ذلك الجدل العقيم، ظهرت تصريحات لسمو وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل؛ يصف فيها الأوضاع في العراق بأنها انزلاق إلى حرب أهلية. فلم يعلق أي من أولئك المهايطين على تلك التصريحات. وبعدها بأيام أيضاً وصف وزير الخارجية الأمريكي ومسؤولون أوربيون آخرون الأوضاع في العراق، بأنها مؤشرات لحرب أهلية. كما وصف وزير الخارجية العراقي نفسه الوضع بالخطير، وطالب بتدخل أجنبي لحماية البلد من دخول أتون احتراب داخلي. ولم ينبس أولئك ببنت شفة إزاء آراء أولئك الساسة والمانشيتات العالمية التي تصف الوضع بما وصفته أو قريباً منه.

فلماذا نحن لا نعرف التحاور بالكلمات، بل التقاذف بها؟ ولماذا نصل إلى أقصى مدى في جعبتنا من التنابز، قبل أن نستوضح الأمر، أو نعرف على وجه اليقين؛ ما الوضع، أو ما الذي يريده محاورونا؟ هل هي سمات أنثروبولوجية متأصلة فينا؟ أظن حفاظنا على تلك الثقافة، هو ما يصعب إمكانات تأقلمنا مع الثقافة العالمية في العصر الحديث، ويجعل أساليب «الهياط» هي المهيمنة على خطابنا في بيوتنا وشوارعنا ومؤسساتنا، وفي رؤيتنا للعالم!

الرياض

مقالات أخرى للكاتب