Saturday 12/07/2014 Issue 15262 السبت 14 رمضان 1435 العدد
12-07-2014

الدولة المارقة بين النهرين

في إطار العنوان الذي وضعته النيويورك تايمز لموضوعها عن التغيرات السياسية في منطقة الهلال الخصيب، وضعت لفظ «المارقة» في وصف الكيان المعلن في المناطق الخارجة عن سيطرة النظامين الرسميين في كل من العراق وسوريا. وبالرغم من أن هذا اللفظ غريب الاستخدام للحديث عن كيان عسكري وسياسي في طور التشكل، إلا أن الهدف كان واضحاً بإدراج صفة الاختلاف الجذري بين الأنظمة القائمة وهذا الكيان الهلامي الذي يناسب المعارضة أكثر منه تأسيساً لنظام معترف به. كان التحليل متوازناً، وفيه من التحسر على وقوع هذه الأراضي الخصبة بين نهرين عظيمين، في أيدي أناس طارئين على الاستقرار. كما تسمى هذه المنطقة بالذات «مهد الحضارات»، ثم يتحكم فيها الآن أقوام لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بالحضارات الإنسانية.

لكني قرأت هذه الخارطة بصورة أخرى؛ فإحاطة هذا الكيان الجديد بنهرين جاريين، يعني أنها حدود طبيعية لهذا الجسم السياسي الذي يراد وضعه بين كيانين مختلفين عنه أيديولوجياً، لتصبح بذلك منطقة عازلة بين القوى الشرقية والغربية المنضوية تحت جناح التأثير الإيراني. كما أن وضعها بين حدود طبيعية، وفي أرض خصبة من جهة، وفيها مصادر نفط من جهة أخرى (في الموصل وما حولها من الجانب العراقي، وفي دير الزور من الجانب السوري)، يكفل لها القدرة على الحياة ومنع التمدد الإيراني من أحد طرفي الهلال الخصيب إلى الآخر. مثلما أن عدم قدرتها على ضم بغداد يجعل تقوية الطرف المناهض للامتداد الإيراني غير واردة؛ إذ تشكل الكتلة الجنوبية من العراق بنفطها وأرضها الخصبة حاجزاً يمنع الاندماج مع بقية المكونات المتقاربة معها في الأيديولوجيا.

أما قضية الخلافة والخرائط التي نشرت في بعض المواقع لدولة الإسلام الجديدة، وهي تحتل جزءاً كبيراً من الكرة الأرضية؛ يتضمن جزءاً من شرق أوربا وجنوبها (اسبانيا على وجه التحديد، في إشارة إلى استعادة الأندلس)، فهو محض تخيل. وربما أراد واضعوها التندر على أحلام هذه الجماعات المسلحة، ورؤيتها غير الواقعية للعالم، ومصادر التأثير فيه.

فالحديث عن الخلافة طويل ومتشعب، ولا يمكن لفصيل عسكري أو جماعة متطرفة أن تبعثه من التاريخ. الشيء الوحيد الذي يخضع للمنطق في تفكيرهم، هو أنه يتفق مع رؤاهم لطريقة الحكم التي يريدون استخدامها، ووسائل التعامل التي ينوون أن تكون بين كيانهم الناشئ وبقية بلدان العالم وثقافاته. فالخلافة بفوقية مرجعيتها هي السبيل الأقصر لتجاوز الأعراف البشرية في حكم الشعوب، وفي التعاملات السياسية، التي أسست لها تراكمات حضارية طويلة المدى بين دول العالم القديم والحديث. لكن الاعتماد على رأي شخص واحد، هو الخليفة أو أي تسمية استبدادية أخرى، هي ما يجعل الأمر لديهم مبرراً أن يتجاهلوا كل ذلك الإرث البشري، دون استنكار من أتباعهم على أقل تقدير.

لكن يبدو أنهم نسوا أن الزمن قد تغير، فما كان يسهل تبريره بأن خلافة بني العباس خير من خلافة بني أمية، أو أن نسب أشخاص وصلتهم بالرسول تسمح لهم بأن يتولوا الأمر في بلاد الإسلام كلها؛ أصبح صعباً في هذا العصر، الذي صارت الأكثرية، بما فيهم كثير من المتدينين، مقتنعين بمراعاة الرأي العام المحلي والعالمي، وعدم الانفراد بطريق لا يماشيهم فيه أحد. فالمصالح أصبحت متبادلة بين شعوب الأرض، والأفراد أصبحوا مضطرين أحياناً إلى السفر إلى بلاد أخرى، لا بد أن تتهيأ لبلدانهم علاقة طيبة بها؛ فكيف سيكون الأمر، إذا استبد شخص بالسلطة، ونشر أفكاراً عن علاقة الاستعلاء بين كيان سياسي معين، وبقية الشعوب، أو سن تشريعات لم تعد مقبولة في العصر الحديث؟

الرياض

مقالات أخرى للكاتب