Saturday 19/07/2014 Issue 15269 السبت 21 رمضان 1435 العدد
19-07-2014

عن الثقة والحقيقة

يعيش العالم اليوم أصعب فتراته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولا غرو أن الشباب والتنمية عاملان لمعادلة واحدة ويجب أن يدمج الشباب في المحافل الفكرية وأماكن أخذ القرار؛

ويقتضي كل هذا زرع الثقة، لأن على الجميع أن يعمل في إطار المؤسسات وفي إطار الدولة الأم ومحاولة الإصلاح من الداخل بعقلية جديدة وبأفكار متنورة جديرة بالمحافظة على القشرة الحساسة الحامية لهيبة الدولة ومبدأ ديمومة المؤسسات، ويمكن أن نستحضر تجربة العراق عندما قامت القوات الأمريكية بحل القوات العسكرية والبوليسية العراقية بعد سقوط نظام صدام كيف تفككت الدولة العراقية في رمشة عين، وأصبحت الدولة ولسنوات مرتعا للتناحر بين الطوائف والملل، والحالة الراهنة لدولة العراق شبيهة بحرب طائفية أهلية قد تأتي على الأخضر واليابس... وكل التجارب السياسية التي مرت بها دول أوربا الغربية والشرقية وأمريكا اللاتينية كانت صعبة وشاقة، ولكن محدد النجاح أو الفشل هو الثقة، الذي يجب أن يغرس ويسقى بماء الذهب في المجتمع وبين المؤسسات بل وبين الأفراد وحاملي لواء تسيير الدولة وأجهزته؛ ولأنه إذا تقوى الشك وانعدمت الثقة بين الفرد والدولة وبين الفرد والمجتمع عمت الفوضى وتلاشت الفضائل السياسية في المجتمع دفعة واحدة، فلا الفرد يثق في المؤسسة ولا المؤسسة تثق في الأفراد ولا المؤسسات الأخرى ولا قدرتها على التسيير والتنمية ولا هيبة الدولة التي تجدع أنوف كثير من المتطاولين للرقبة، فينغمس المجتمع في القيل والقال ويغرق في بحر الهم والجدال، ويبعد رجالات الدولة الأكفاء عن المشاركة في ظل من عز الدولة الذي تبخر ويهترئ النسيج الداخلي الماسك لمقومات الأمن والاستقرار والمسير لقواعد التنمية المستدامة والحكامة الجيدة، ويضيع الوقت الثمين في بناء المؤسسات وتعميم الأمن والاستقرار؛ فدول كمصر وتونس وغيرهما ينبغي على الفاعلين السياسيين فيها حسن الظن بالمؤسسات والأفراد، وطي صفحة الماضي وترك زرع بذور الشك المستمر في أذهان الناس وعقولهم احتياطا من الريبة والسخط وأمارات التوتر والنفور بل الوصول إلى حد التقاتل المشين؛ فالشك مخالف لأدنى شروط العقل والتعقل ومورث للريبة داخل المجتمع ومقوض لأسس تجذير السلم داخل المجتمع، وتصبح قشرة الدولة الحامية مفقودة وسورة الغلب من الكاسر ممنوعة وشارة الغلب معدومة، فترتفع وتيرة المنازعة داخل المجتمع وينتبذ الناس الدولة وأتباعها وهو ما يقع بالضبط في العراق.

ثم إن مبدأ الثقة ليس حصرا على الدول العربية، بل بالإمكان استحضار ما وقع في الفضاء الأوروبي من ثورة شعبية على حكام انتخبوا بطريقة ديمقراطية ولكن ذلك لم يغنهم في شيء، لأن مبدأ الثقة فقد بينهم وبين منتخبيهم بسبب عدم قدرتهم على تسيير الاقتصاد الوطني ومحاربة البطالة وإيجاد مناصب الشغل والحد من المديونية.

فأزمة الديون في اليونان جعلت شرائح المجتمع مجتمعة تخرج إلى الشوارع إلى أن تنحى رئيس الوزراء ببانديريو عن السلطة، وتبعه في ذلك رؤساء أوروبيون آخرون بمن فيهم الملياردير الإيطالي سيلفيو برليسكوني الذي اضطره الغليان الشعبي والديون الإيطالية التي وصلت إلى 1,9 تريليون أورو إلى التخلي عن عرشه، وللذكر هنا فإن نسبة الفائدة على قروض التمويل التي أصدرتها حكومة برلسكوني في شكل سندات إلى 7,35 في المائة لتفوق بذلك نسبة 7 في المائة التي جعلت دولا كاليونان والبرتغال وإيرلاندا تطلب الحماية النقدية الدولية، وما لذلك من تبعات سلبية في المدى المتوسط والبعيد؛ كما أن إسبانيا التي عرفت أشهرا عجافا بسبب البطالة والمظاهرات التي عمت شوارع مدريد وبرشلونة جعلت رئيس الحكومة ينادي بانتخابات تشريعية سابقة لأوانها، كما أن هذا الربيع الرأسمالي وصل إلى قلب العاصمة الفرنسية عندما قررت حكومة ساركوزي التي عوضتها حكومة هولاند اتباع سياسة للتقشف، وذلك بخفض الإنفاق الحكومي بمائة مليار يورو (140 مليار دولار) وحتى سنة 2016 اتقاء لما وقع في إيطاليا. كل هاته الحكومات وصلت عن طريق صناديق الاقتراع؛ ولكن المواطن الأوروبي لم يعد يثق في تلك الزعامات التقليدية الأوربية. ومعنى كل هذا الكلام أن الانتخابات ليست الوحيدة لضمان الاستقرار السياسي، فعامل الثقة من أكبر الركائز في تجذير أصول الحكم وبناء المؤسسات وتحقيق التنمية.

وفي خضم تسلسل الأحداث الدولية، فإن الشباب عرفوا كيف يستخدمون التكنولوجيا الجديدة ليسمعوا صوتهم. لذا فقد بات واضحا أن الوسائط بشكل عام والإنترنت بشكل خاص من خلال الشبكات الاجتماعية، قد أثرت بقوة في تحول العالم.

وأبرزت الأزمة الاقتصادية تجاوزات الرأسمالية المتوحشة والحاجة إلى دولة ضابطة قوية، دولة قادرة على منع استحواذ الأفراد بكل فوائد اقتصاد السوق على حساب المجموعة ، دولة قادرة على لعب دور الحكم النهائي ما بين المصالح الاقتصادية والمصالح الاجتماعية .

في هذا الصدد أود الاستشهاد بالبروفيسور جيجوش دابليو كوودكوGrzegorg W. Kolodko وهو سياسي ومفكر كبير، وأحد المهندسين الرئيسيين للإصلاحات البولندية وخبير مرموق في شؤون السياسة والاقتصاد؛ وهو أيضاً صاحب العشرات من الكتب التي ترجمت إلى 25 لغة من لغات العالم. عندما كان نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للمالية (1994 - 1997) تمكن من قيادة بولندا لعضوية منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية؛ وعندما شغل نفس هذين المنصبين مرة أخرى في الفترة من 2002 إلى 2003، لعب دورا كبيرا في انضمام بولندا للاتحاد الأوربي؛ كوودكو هو مدير مركز الأبحاث الاقتصادية للتحول والتكامل والعولمة كوزمنسكي؛ وهو في الوقت نفسه عداء ماراثون ورحالة زار أكثر من 150 دولة... ألّف كتابا كبير الدلالة كثير الفائدة سماه «حقائق وأخطاء وأكاذيب السياسة والاقتصاد في عالم متغير»؛ وتعمد البروفيسور دابليو أن يخلو كتابه من الجداول والرسوم البيانية والخرائط كي يصبح أكثر جاذبية للقراء، وهو يخلو أيضاً من فهرس المراجع والمصادر التقليدية المرتبة هجائيا، لأن كل المصادر مذكورة في الحواشي الختامية.

حسب الخبير البولندي تفسر مفاهيم علم الاقتصاد الصعبة أفضل تفسير باستخدام كلمات بسيطة ومعبرة؛ ويفترض أن يصف علماء الاقتصاد ما يجري ويفسرونه. وأفضل هؤلاء العلماء يعرفون ما يحدث وبإمكانهم إقناعنا؛ لأن المشكلات تطرأ عندما:

- يكونون على علم بما يحدث، لكنهم لا يستطيعون إقناعنا.

- أو لا يعلمون، لكنهم يحاولون إقناعنا على أي حال.

- أو يعلمون أن حقيقة الأمور تختلف كما يحاولون إقناعنا بها.

في الحالة الأولى لا يسعنا إلا أن نحاول مساعدتهم في توصيل الرسالة؛ وعلى الرغم من ظاهر الأمر، ليست تلك بالمهمة السهلة، فالجهود في هذا الاتجاه بحاجة إلى دعم المؤلفات والبرامج المعرفية، والتعليم ووسائل الإعلام المستقلة وغير ذلك.

وفي الحالة الثانية، عندما لا يعلم هؤلاء الأشخاص كيف تجري الأمور فعليا ومع ذلك يحاولون إقناعنا بمفهوم مهم، يكونون على خطأ بيِّن؛ ومن الضروري عندئذ أن نناقشهم بهدوء وأن نعير اهتمامنا للرأي الآخر، لأن كل شخص من الممكن أن يكون على خطأ.

عندما زار ألبيرت أينشتاين الولايات المتحدة الامريكية للمرة الثانية سنة 1931، قبل أن يستقر هناك لاحقا بعد عام واحد، طلب أن ينال فرصة مقابلة رمز عظيم آخر من رموز القرن العشرين هو تشارلي شابلن. وبعد عرض رائعته «أضواء المدينة» صفق الجمهور لكلا الرجلين العظيمين، وقال شابلين: «إنهم يحيونني لأنهم جميعا يفهمونني، ويحيونك لأن أحدا منهم لا يفهمك».

مقالات أخرى للكاتب