Monday 28/07/2014 Issue 15278 الأثنين 01 شوال 1435 العدد
28-07-2014

خُطْبَةُ العيدِ وأفراحُهُ:

الحمد لله ربنا الذي لا تُعَدُّ نعمه ولا تُحصى، ولا نحصي ثناءً عليه.. هو سبحانه وتعالى كما أثنى على نفسه.. ومِن أعظم نعمه علينا نعمةُ الإسلام، وفِطرةُ النشأة؛ فالحمد لله على ما تفضَّل وأنعم.. والصلاة والسلام على نبيه المصطفى المجتبى محمد بن عبدالله النذير البشير، والسراج المنير، الذي علَّمنا صحَّة الدينونة لله بما بلَّغه عن ربه من الردِّ عند الاختلاف والتنازع إلى الله ورسوله، وأن ما جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم فهو وحيٌ من الله؛ فوجب علينا بذلك الاتِّباعُ، وترْكُ الابتداع في أمور الديانة، ولم يحجر على عقولنا في شؤون دنيانا، ولم يأمرنا باتباعٍ مُجَرَّدٍ عن حضور العقل؛ بل مَنَحَ العقلَ البشريَّ كل دورٍ مَعْرفي في تلقِّي دين الله توثيقاً وفهماً وتمييزاً، وفطره على مواهبَ يُحَوِّل بها المعرفةَ إلى حضورٍ ثم إلى عِلمٍ بالمعروف نفسه، وإلى علم بما لم يدركْهُ الحِسُّ رُؤيةً وسماعاً.. على أن العقل عبدٌ لله مخلوق؛ فإذا فَهِمَ دين اللَّه، وصح له ثبوته: لم يكن له أن يضيف إليه، أو ينقص، أو يقترح، أو يستبدل؛ لأن العقل مفطورٌ على اليقين المسبق (هو براهين تعذُّرُ تفسير نشأة الكون بغير خالق واحد له صفة الأولية والبقاء ووحدانية الكمال والتنزُّه) بعصمة الشرع وعدله ومعقوليته.. وجعل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دلالة على صحة الدينونة لله، وهي الأسوة به صلى الله عليه وسلم وبصحابته رضي الله عنهم؛ لأن قرنهم خير القرون؛ ولأن الله نصب على الأُسوة بهم أظهرَ برهانٍ هو إصابتهم بين المخطئين، ونجاتهم بين الهالكين؛ وذلك يشمل جمهور كل القرون الممدوحة، والنُّزَّاعَ في كل عصر ومصر من الطائفة المنصورة؛ لكونهم على مثل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فكانوا أهل الأسوة برسول الله?، وكانوا مِحَكَّ من جاء بعدهم في سيرتهم العَمليَّة معتقَداً وقولاً وفعلاً.. اللهم صلِّ عليه وسلِّم كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد.. اللهم بارك عليه كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وصلِّ اللهم وسلِّم على آله وصحابته، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارْضَ اللهمَّ عنهم، واجعلنا منهم ومعهم بِمَنِّكَ وفضلك ولطفك وكرمك وإحسانك وغفرانك، ورحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد: فإن الشيخ أبا تراب الظاهري رحمه الله تعالى اختار لشعره الذي جمع بعضه ولا يزال بعضُه مُتَفَرِّقاً عنواناً هو: (كثُّ البثِّ في الغَثِّ والرثِّ)، وقد طلبت منه أن يبادر إلى جَمْعِه، وأن أقوم بطبعه.. وعلى الرغم من استجابته، وإلحاحي في متابعته اخترمه الأجل دون أن يُنجِز وعده.. ولقد اخترتُ بعض عنوانه ليكون عنواناً لمضمون كُتَيِّبٍ من تأليفي لم يُنشر بَعْدُ، وقد اخترتُ خطبتي مِن ثناياه، وأصله أجوبة لي على أسئلة وجَّهتها إليَّ مجلَّةُ اليمامة؛ فلما أنهيتها رأيتها حافلة بهموم فكرية وعلمية تَهُمُّ أبناء أمتي في هذا العصر المتشنِّج، ورأيتُ فيها ما يُطرب الأدباءَ من بثٍّ وجداني؛ ولم تكن من الطرح الصحفي الوقتي الذي ينتهي بانتهاء مناسبته، بل كانت في نصاب التأليف الذي أَرضاني عندما فرَّغتُ نفسي من أجل تهذيب مؤلفاتي والاصطفاءِ منها.. كما أن في نشرها استدراكاً لما عساه أن يحصل من تصرُّف أو اختصار أو سقط غير مقصود أو تطبيع.. وتضمنتْ هذه الأجوبةُ اختيار ما لم يختره غيري في بلادنا، مِمَّا حَكَّتْهُ نظريةُ المعرفة والعلم البشريَّةِ والشَّرعية، ولم تُمِتْهُ وتَنزِعْ بَرَكَته قاصِمةُ التقليد للبشَر؛ فهي قاصمةٌ مُتَخَثِّرة من العقل بِحُرِّيَةٍ سلوكية عمياء تَسْلِبُ من العقل نورَه الذي جعله خالقه جل جلاله حَظّْاً مشاعاً، ونوراً هادياً.. ومن الله سبحانه أستمد العون، وأستلهم الرُّشد، والحمد لله رب العالمين، وسلام على عباده المرسلين.. ولقد كان الكُتَيِّبُ الذي أَوْمَأْتُ إليه مِمَّا فرغتُ من تحبيره في منتصف الليلة التي صبيحتها يوم الأحد الموافق 1-3-1426هـ (10 إبريل عام 2005م) بمنزلي بالرياض.. وباعِثُ هذه المعاناةِ أن كثيراً مِن أفاضل العلماء وأئمَّتِهم حاولوا أن يسيروا سيرة أهل الحديث مِن التابعين وأتباعهم مثلِ الإمامِ أبي عبدالله أحمد ابن حنبل رحمه الله تعالى فعَجزوا، وقد أتعب أبو عبدالله مَن جاء بعده بجِدِّه وزهده وعلمه وصبره.. ولا يمتري ذو فضلة مِن عقل وإن رغم أنف القصيمي: أن مثل هذه الحياة هي الحياة الفُضْلى، ولا أخالها تُوجد في عالَمِ المِثال الذي نفخ فيه أفلاطون بوقَ الوهم؛ وإنما أَرْغمتُ أنفَ عبدِ الشُّهرَةِ والتلميع؛ لأنه قال في كتابه (العالَمُ ليس عقلاً) في فصلِ (عن أبي هريرة [رضي الله عنه] عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: (إن اشَتهار مُحَدِّثٍ [يعني مُتْقِناً صنعتَه] أخْطرمن كارثة قُنبلة هيروشيما)!!.. إن حياة هؤلاء حياةٌ تبارك العمر وتزكِّيه.. حياةُ عبادةٍ وتهجُّد، وتدوينِ علمٍ، وترفُّعٍ عن الطيبات المباحة (المُباحةِ من غير تركٍ للعمل بها؛ لأنهم يطمعون فيما هو أبقى وأنْقى في يوم المعاد الذي هو العمر الأبدي)، وجدٍّ لا يشوبه لهو أو مزاح.. والعبد الضعيف كاتب هذه السطور يطمح إلى مثل هذه الحياة، ولكنه لا يقوى عليها، ولعله في بعض تَسَلِّيه معذور إنْ لم يكن مأجوراً، ولعل قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (أفلح إن صدق): مما يُسَلِّي عن بعض الغبن في هذا التفريط.. وأما نحن في هذا العصر المُتْرَف فلا نقوى مطلقاً على جِدِّيات أولئك وعزائمهم؛ فالجمالُ اليوم لم يكن جمالَ مسحةٍ، بل هو جمال يعبث بالعواطف، ويتلاعب بالعقول؛ فهناك عطر وعافية، وهناك أهداب متضامنة متراصَّة تُراش عن بَضاضةٍ وغضارة ورُواء، وللحديث فيها لغة ليس فيها قَعْقَةُ الفصحى، وخشونة شماريخ طويق، بل هي لغة تربَّت على ذكاء العصر الحديث، ونعومة البيئة الحديثة.. وكل ما نلمسه أو نلحسه أو نشمه أو نذوقه أو نسمعه أو نلحظه أو نشعر به لا يثير فينا قَشْعَريرةً مصطنعة، ولكنها تتأجَّج وفق مقاييس ذوقية تَدَرَّبتْ على أعظمِ تفكير فلسفي حديث عن سحر الجمال في الوجدان النفسي، وما هو جميل؛ وهو الموضوع خارِجَ الإدراك النفسيِّ.. وقد خلقنا الله في حزونٍ ونِجادٍ ووهاد وحسك وعِضاهٍ.. وكان الضبُّ (ولا جمالَ فيه) في أرض قومي، وكانوا يأكلونه.. ومع هذا خلق الله لنا عيوناً تدمع، وقلوباً تخشع، وأكباداً تتقطَّع، ونفوساً تتوجع.. وعَهْدنا بزرقة العيون حديث؛ فبربك كيف نذود عن أجفاننا الكرى مع طول السهاد، وشدِّةِ النَّصَب، وحَرْق الهجير؟.. إن من يلومني في مَسمعٍ أو منظر أقول له كما قال لي (أبو تراب: (هدِّع هَدِّع: قتلتك سبنتاةٌ في بخنتاة).

قال أبو عبدالرحمن: هَدِّعْ فِعْلُ أمرٍ من كلمة (هِدَعْ) تُقالُ لصغار الإبل كي لا تَنْفر؛ فهي من الكلمات التي تَفْهم بها الحيواناتُ المرادَ بطول الإلف مِثْلَ (تَحْ) للضأن، والقَسْقسة للكلب، و(حَزَرْ) للبقرة عند الصِّراب و(أَشّْ) للحمار ليقف، و(حَرّْ) و(مَشِيْ) للحمار ليُسْرِع؛ ثم تجوزوا بذلك للعاقل كي يَسْكنَ ولا يتَكَلَّف الحركة والسير.. وسبنتاةٌ الجَرْيُ إذا جاء مُقْبِلاً عليك كقول شاعِرٍ اخْتُلِفَ في اسمه كثيراً:

كأنَّ الليلَ لا يعْسُو عليهِ

إذا زَجر السَّبْنتاةَ الأمونا

يعني ناقته؛ فالبيت كما هو حثٌّ للناقة على سُرْعَةِ الجري؛ فهو أيضاً زجْرٌ للشاعرِ نفسه، وترويضٌ له على تخفيف السُّرْعة؛ لأن عُسُوَّ الليل هو اشتدادُ ظُلْمتِه؛ فيا أيها الزاجرُ ناقَتَه هَوِّن عليكَ؛ فَظُلمةُ الليل ستحولُ بينكَ وبين مُرادك؛ فلن تستطيعَ الجَرْيَ؛ فهذا معناها في سياق أبي تراب إذْ قال آمراً بالهدوء: هَدِّع.. وأبو تراب رحمه الله تعالى مُوْلَعٌ بالغريب، وأما خبنتاةٌ فلم أجد لها شاهداً في المُطوَّلات من متون اللغة، ولا في كتب ابن فارس والراغب الأصفهاني والزمخشري، ولا في الكُتُبِ المستدركة على المعاجم، ولا في المُعْجم الكبير الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فَلَعَلَّ أبا تراب أخذها من (أَخْبت القوم) إذا صاروا في الخَبْتِ، ومِن أنواع الخَبْتِ الوادي العميق الوطيئ الذي لا حِراك فيه لمن يُرِيد السُّرعة كما قال أبو ذؤيب الهُذَلي:

فَكَبا كما يَكْبُو فنيقٌ تارِزٌ

بالخبْتِ إلا أنه هو أسرع

فالفنيق الفحلُ من الإبل؛ فإذا كبا حمار الوحش والفنيق يكبو وهو أسرع من الحمار فأنَّى للحمار السرعة وقد كبا الفنيق؟.. فتكون (خَبنتاةٌ) مثلَ سبنتاةٍ لِمِن يريد السُّرعة؛ فالسياق في كلام الشاعر: هَوِّن عليك؛ فإنك لن تستطيع السرعة.. إلا أنَّ (خبنتاة) لم ترد في لغة العرب بهذا الوزن؛ فلعل أبا تراب جعل ذلك من باب الإتْباع.

قال أبو عبدالرحمن: ودون هذا ما سلَّى غيرنا من العشاق والمترطِّبين باللهو؛ فهذا ابن عمار الجُشَمي وهو من العُبَّاد الزهاد القُرَّاء كانوا يُسمُّونه (القَسَّ) لفرط صلاحه، وكانت طيِّبة الذكر (سلَّامةُ) لا تُعرف إلا بالإضافة إليه.. وهؤلاء فضلاء المدينة وفقهاؤها يتسلَّون بالسماع، وأحد الفقهاء السبعة يقول:

بيضاء باكرها النسيم فصاغَها

بلباقةٍ فأدقَّها وأجلَّها

وهي ذات لحن يأخذ بتلابيب القلوب، وهذا ابن جعفر من السادة الأشراف الفضلاء يلهو بالمباح في العَتَمة، ويخرُّ لله ساجداً في الجُهْمَة.. وأبو السائب المخزومي من الفضلاء الظرفاء، وهذا فقيه أهل العراق (الأعمش) رجلٌ فيه دُعابة، وهذه صبوات محمد بن داوود الظاهري ونفطويه ومنذر بن سعيد (صاحب الهوجل) وأبي بكر بن العربي، وغيرهم وغيرهم من الفقهاء والفضلاء.. وهي صبوات عفيفة نزيهة.. وأنت إذا قرأت وصف ابن قيِّم الجوزية لحور الجنة في نونيته رأيتَ أن الرَّجل ذو قلب عَرِم الشَّبوب، وكل ذي قلب خفاق سيقع في شيئ من اللمم، ولن يبرأ أحد من اللمم.

قال أبو عبدالرحمن: وكتب إليَّ الأخ زايد بن سويد بن براك العصيمي يقول: «أخي الكريم عندما اطلعتُ على مقدمة كتابكم (كيف يموت العشاق؟) وجدت لديَّ رغبةً في الكتابة لكم.. لماذا وبماذا وكيف وأنا لا أُجِيد الكتابة؟.. لا أدري.. قلت: أبدأ بما يُمْلِيه الخاطر، وعُدْت مرة أخرى، وقلتُ: أُوجِز.. وأكون قد حقَّقتُ رغبتي، وتخلَّصتُ من هذا الإلحاح الذي لم يفارقني حتى اليوم.. أعجبني تبرُّع معالي الدكتور غازي القصيبي بطباعة الكتاب، وإرساله المبلغ مسبقاً، وتبرعه كذلك بتكاليف ترجمته إلى الإنجليزية، وما بدا لكم من إشباع الكتاب، وتوسعكم بالمبلغ، والتزامكم به ديناً للكتاب.. واليدُ المشقوقة، وتكفُّل صاحبِ السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بالكتاب بعد علمه.. إلخ!!.. أُهنِّئكم على كرمكم، وعلى هذا التكاتف.. ويا حبذا لو كان تعاونكم فيما فيه مصلحةُ هذا الوطن وأهله بدلاً من تعاونكم في البحث في موضوع الحب.. كأننا قد صَلُحَتْ جميع أمورنا، وتفرَّغنا للحب وشؤونه؟!.. فيا أخي الفساد ينتشر في بلادنا.. تعاونوا على شَجْبِه أحسن للجميع.. حفظكم الله».

قال أبوعبدالرحمن: إنها كلمة غيور بلا ريبٍ يُشكر عليها دنياً وآخرة ما صَلُحتْ النية، والأصلُ في المسلم صلاحُ القصد، ولكن فات الأخ الكريم أمور:

أولها: - وهو أهمها -: أن كتاب (كيف يموت العشاق) ليس على نَسَقِ (رجوع الشيخ إلى صباه)، أو (الهَيْك)، أو كتاب النَّفْرِي.. وليس روايةً في نَسَقِ (في بيتنا رجل).. وليس هو دعوة لِلَّمَمِ.. ودعك من الظن بأنه دعوة إلى الرذيلة؛ وإنما هو كتاب على نَسَقِ كتب الفقهاء العلماء الأجلاء مثلِ ابن الجوزي، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية، والشيخ مرعي.. ذكرت لك هؤلاء العلماء من فقهاء الحنابلة قبل أن أذكر لك كتابَيْ: محمد بن داوود وابن حزم الظاهريين، ومغلطاي الحنفي، وإبراهيم البقاعي الشافعي، وغيرهم من علماءَ وأدبَاء.. ذكرتُ لك قائمةً من مؤلفاتهم في الحب بفصلٍ من كتابي المذكور، وبحثتُ موضوع الحب وُحْكَمه بالمنهج الفقهي والوعظي الذي سلكوه، بل زدتُ ذلك بتأصيلات نظرية.

وثانيها: الكتاب بالشرح السابق كان أعظم مساهمة في شَجْبِ الشر.

وثالثها: اِعْلَمْ يا أخي أن الشرور لا تعدو أحد أمرين: إما ما فوق السُّرة من المآكل والمشارب، وإما ما تحت السرة من ابتذال الحب بالشهوة العارمة.. واعلم أن المصطفى صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه ما خشي على أمته فتنةً أعظمَ من فتنةَ النساء، واعلم ثالثةً أن مُعْظَمَ وسائل الإعلام الحديثة لتهييج العواطف: من الأغنية.. إلى مسلسل القُبَل.. إلى عرض الأزياء.. إلى أبعد من ذلك.. وكتابي أدواء شرعية وفكرية للمنع من المحظور، أو فقد القدرتين أو إحداهما (العقلية، والبدنية).

ورابعها: أنه علاج شرعي وفكري بدون جفاف أو نسك أعجمي يحول دون المباح من التظرف والتفتِّي، وقد فصَّلْتُ فيه بين الحقيقة والأسطورة.. ونحن أمة أصحاب مشاعر وعواطف: نلتذُّ بالغزل والهجر والحرمان حتى لا نُفرِغ شجوننا في الإباحية.. وهذا شعر العرب والفقهاء أمامك.. وأما النُّسُك الأعجمي فقد قال الشيخ عبدالحق التركماني في تحقيقه (مختصر طوق الحمامة) ص406-407 تعليقاً على قول الإمام ابن حزم: «ولا أنسك نُسُكاً أعجمياً» : «هذه كلمة قديمة وردت عن السلف.. قال الأصمعي: قيل لسعيد بن المسيب: ههنا قومٌ نُسَّاك يعيبون الشعر؟.. قال: نسكوا نُسُكاً أعجمياً.. ذكره الجاحظ في البيان والتبيين، ورواه الدينوري في المجالسة وجواهر العلم (2312) بإسناد ضعيف: عن مسلم بن يسار قال: سمعت سعيد... فذكره، وزاد: ثم تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «شر النسك نسك أعجمي».. قلت: هذه الزيادة باطلة، لم أجدها في شيء من كتب الحديث مع كثرة البحث والتفتيش.. [قال أبوعبدالرحمن: الدينوري وضَّاع]، وروى الحافظ ابن عبدالبر في التمهيد 14-209: عن الحارث بن مسكين قال: سمعت أشهب بن عبدالعزيز يقول: خرجنا مرابطين إلى الإسكندرية؛ فمررنا بجِنان الليث بن سعد؛ فدخلنا، فأكلنا من الثَّمر، فلمَّا أن رجعتُ دعتني نفسي إلى أن أستحِلَّ من الليث؛ فدخلت إليه، فقلت: يا أبا الحارث: إنَّا خرجنا مرابطين، ومررنا بجنانِك، فأكلنا من الثمر، وأحببنا أن تجعلنا في حِلٍّ.. فقال لي الليث: يا ابن أخي لقد نسكتَ نسكاً أعجمياً.. أما سمعت الله عز وجل يقول:

{أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [سورة النور- 61]؛ فلا بأس أن يأكل الرجلُ من مال أخيه الشيء التافه الذي يَسُرُّه بذلك.. وذكر أبوالوليد الباجي في المنتقى في شرح الموطإ: أنَّ إبراهيم بن أدهم قال عن رجلٍ - تنسَّك فلبس الصوف -: رأيته نسك نسكاً أعجمياً.

قال أبو عبدالرحمن: لما كان العرب أهل الفطرة السليمة، والبيئة البسيطة الخالية من الفلسفات، واجتمع لهم الكمال بالقوة المخلوقة فيهم، والكمال الذي أنزل الله إليهم؛ إذ اصطفاهم الله تعالى، وفضَّل جنسهم على سائر الأجناس، وجعل رسالته الخاتمة بلسانهم؛ فهم أقدر الناس على فهمه والفقه فيه: صاروا هم القدوة في ذلك علماً وعملاً وسلوكاً، وبالمقابل صارت الأعاجم؛ لِما ورثوه من الفلسفات والأفكار، ولبعدهم عن فهم اللسان العربي على الوجه الذي يفهمه العربي بفطرته مظِنَّةً للنقص والانحراف والتكلُّف.. هذا هو المقصود من هذه الكلمة، وإلا فإنَّ الأعجمية ليست مذمومة في نفسها عند الله تعالى، وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، وعند عباده المؤمنين.. كما أن ابن تيمية في كتابه (اقتضاءُ الصراط المستقيم مخالفةَ أصحاب الجحيم) بحث رحمه الله هذه المسألة بحثاً نفيساً يُكتب بماء الذهب [ص- 142-169 - ط م الفقي].

وخامسها: أنني كنتُ رومانسياً مُنْدلِعاً مع التخت الشرقي والأفلام غير ذات الأصباغ؛ فتقوقعتُ، ثم فسد الفن بأصباغه وإباحيته؛ فزاد حنيني إلى رومانيستي القديمة التي هي أوهام وأحلام يتظرَّف بها طالب العلم ليتقوى على العزائم.. إن في غزل العرب عافية مما هو في حياتنا الفنية الإعلامية من تبذُّلٍ مكشوف يختفي فيه اسمُ الحبِّ العُذْري، ويظهر العهر الدَّنِس المكشوف الذي يميت العَواطِفَ ويُثير الغثيانَ؛ لهذا أدْعُو بألفِ رحْمةٍ للعباس بن الأحنف، والدكتور ناجي صاحب الأطلال، وأحمد رامي، وما يتبعه مثل الطير المسافر!!

وسادسها: أن كتاب (كيف يموت العشاق) أثر واحد - واحد فقط - بين آثاري الكثيرة الجادَّة.

وسابعها: أنني مُتَجنِّب في حياتي العلمية غالباً الأسلوب الوعظي.. لا زهادة فيه، ولكنْ لأنني أحوج الناس إلى أن أتَّعِظ، وإنما يعظ من كان جاداً وليست له صبوة، وهم قلة من مشايخي؛ فلمّْا تَرَقَّتْ أحوالي صرتُ أَعِظ بما أفعله مما استقرَّت عليه الحال، وفي آنٍ أعظ وَأَتَّعِظ بما وعيته في وجداني من تجرِبة مُباركة.

وثامنها: أنك لم ترني ولن ترني إن شاء الله داعياً إلى إثم بحول الله وقوته، وأما الجماليات والمباحات فضرورة في عصرنا الراهن المعقَّد؛ فما أحسن الظرافةَ والتفَتِّيَ مع الورع، والإمساكِ عن المحرم، وأداءِ الواجب.

وتاسعها: أنني واحد من طلبة العلم قمتُ بما أقدر عليه من الآثار الجادة، والعزائم المطلوبة، والجماليات المباحة؛ فلتقم أنت وأمثالك بما تقدرون عليه من وعظ، أو أداء علم، أو تضفيرِ مرائرِ فكرٍ.. وههنا فلسفة لا بأسَ بها في تحليل رومانتيكية الحب؛ فكلٌّ مِنْ (لوك) الإنجليزي، و(كونورسيه) الفرنسي قرَّرا في فلسفتهما العاطفية: أن العقلاء دون ذوي العواطف؛ لأن هناك أفكاراً صحيحة لا حصرَ لها ولا سبيلَ للوصول إليها؛ لأنها محصورة في نطاق العاطفة؛ حتى ليمكن أن يقال: (إن القلب له أفكاره الخاصة به [الرومانتيكية ص33]؛ فكانت حقيقة هذه الفلسفة العاطفية باعثاً للحب الرومانتكي، ولها باعث آخر من الحب الأفلاطوني أترك للمختصين بحثه في مأدبة أفلاطون التي ترجمها وليم الميري، أو في مائدة أفلاطون التي ترجمها محمد لطفي جمعة؛ فإن كنتَ تريد معرفة خصائص وسمات وظاهرات الحب الرومانتيكي فَهَاكَها: إن الدموع في الحب لا تليق إلا بالأبطال كلِّ الأبطال: يُتَوِّجُون بالحب مسرحيات الرومانتيكيين، وأما الكلاسيكيون (قبل القرن الثامن عشر) فيقدِّسُون أبطالهم عن (ضلال الحب)؛ لأنه آية الضعف (الرومانتيكية للدكتور محمد غنيمي هلال ص10).

قال أبو عبدالرحمن: وأنا أرفض رفضاً لا مراجعة فيه هذا الزعم الكلاسيكي الأرعن؛ فالرومانتيكي لا مرتين مُتدفِّق الحماس - وأنف الكلاسيكية راغم -؛ لأنه أنقذ جولياه من الغرق، ولقد وقفتُ عند هذا المَشهد في رواية رفائيل؛ ففعلتْ أعظمَ مما تفعله طبول العازفين على ألحان الموت في ساحات الوغى، واستقر في نفسي أن مواقف (البطولة الحُبيَّة) تُهذِّب النفوس وتثب بها.. والحب عند الرومانتيكي طريق إلى الفضيلة، وهذا بعكس نظرتنا الشرقية عند مثلِ الإمام ابن الجوزي.. قال أحدهم (سيدتي أصغي إليِّ: عندي أحلام لا عِداد لها.. أحبك من قريب ومن بعيد وفي جوف الظلام، ولا أجرؤ على لمس طرف أُصْبُعَكِ)؛ فاْلمُهِمُّ في هذا أنه لا يجرؤ على لمس طرف أصبعها، وكثيراً ما يُشبِّهون السِّحنة بالقداسة.. وملحمة لا مرتين المعروفة بالرؤى عبارة عن قصة ملاك يعاف السماء؛ ليرتبط بامرأة فانية، ويعمل على العيش أبداً فوق الأرض حتى اليوم الذي تُسلم فيه المرأة الروح إلى خالقها، فالعبرة ههنا بأثر الحُبِّ في الإيثار والمرحمة، ونحن في منعةٍ من ديننا بحمد الله من الإساءة إلى ملائكة الرحمن عليهم السلام.. واكتسب الحب قدسيته من ناموس الله الذي أوقد الشعلة بين قلبيهما، والعاطفيون من الرومانتيكيين يقدمون العاطفة على العقل؛ لأن فيها (صوت الضمير)، (ووحي الناموس).. ومن مظاهر القدسية أنك تجد في عباراتهم عند عثور الحب الأمل بالاجتماع أمام الله؛ لأن نُظُم المجتمع فرَّقت بينهما، ويُعَبِّرون عن الحبِّ بأنه ضوء سماوي، وقد ثارت الفاسقة (جورج صاند) على قيود الزواج الدائم عند المسيحيين وسمَّتها قوانين البؤس والعبودية، وفي هذه النصوص تجديف؛ لأنها أفرغت الرومانتيكية المَليحة من الرضا والصبر والعِفَّة والإيمان بالقيود الكريمة؛ إذن النعيم إنما هو في الحب والسعادة به، وهذا السر في كونه طريقاً إلى الفضيلة.

وعن العفة والطهر: يقول فيكتور هيجو على لسان عاشق الملكة: أحبك حباً صادقاً.. واأسفا !.. إني أحلم بك حلماً.. أمَّا عند الشرقيين فابن الجوزي مثلاً تجد مجرد عنوان كتابه الضخم (ذم الهوى) يدل على أن الحب لم يكن طريقاً إلى الفضيلة.. وهو عند الرومانتيكيين هادٍ صادقٌ لمعرفة الواجب والعمل به، ومنه أم الفضائل؛ لأنه طُهرة من الأدناس كما في (غادة الكامليا) لأسكندر دوما، ولأنه قدسية مبرَّأةٌ من الأغراض.. ألا ترى أن لا مرتين رأى جولياه عارية الأشاجع قد تطرَّحت من السقم، وهي أشبه ما تكون بتمثال الموت، ومع هذا يرى فيها نقلة من أودية الهموم إلى أنحاء النور والحب في حياة خالدة!!.. ولو كان لا مرتين شرقياً لشفع له عند العاذل (أنفُ أغريقي أشم حلو القنا).

قال أبو عبدالرحمن: ومذهبي أن القدسية والفضيلة في حب الله، وحُبِّ ما يحبه الله، وأما حبُّ مَن خفَّف الله بهنَّ علينا متاعبَ الحياة: فنعيم لا يتحقق، وعذاب مرغوب فيه.. ولا أنكر ما يبعثه من الأريحية، وصقل النفس.. والمحبون أخفُّ عباد الله نفوساً، وألينهم حديثاً، وأعذبهم نبرة، وأصفاهم عشرة، وأَءْنسهم مجلساً»، لقد احتجَّ الإمام أبو محمد لنفسِهِ في الترطيب بالجمال مع العفة في قصيدته التائيَّة بقوله في مختصر طوق الحمامة ص202 :

يلومُ رجالٌ فيكِ لم يعرفوا الهوى

وسِيَّانِ عندي فيكِ لاحٍ وساكتُ

يقولونَ جانبتَ التَّصاونَ جُملةً

وأنتَ عليمٌ بالشَّريعةِ قانِت

فقلتُ لهم هذا الرِّياءُ بعَينه

صُراحاً وَزِيٌّ لِلْمُرَائينَ ماقت

متى جاءَ تحريمُ الهوى عن محمَّدٍ

وهل مَنْعُهُ في مُحْكَمِ الذِّكْر ثابتُ

إذا لم أواقعْ مَحْرَماً أتَّقي به

مَجِيئيَ يومَ البَعْثِ والوجهُ باهت

فلستُ أبالي في الهوى قولَ لائمٍ

سواءٌ لعمري جاهرٌ أو مُخافت

وهل يَلزمُ الإنسانَ إلا اختيارُه

وهل بخَبايا اللفظِ يُؤْخَذُ صامتُ

وقال رحمه الله تعالى ص 404: «وأنا أستغفر الله تعالى مِمَّا يكتبه المَلَكَانِ، ويُحْصِيه الرَّقيبان من هذا وشَبَهِهِ.. استغفارَ مَنْ يعلمُ أنَّ كلامه من عمله، ولكنَّه إن لم يكن من اللَّغْو الذي لا يؤاخَذُ به المرءُ فهو - إن شاء الله - من اللَّمَم المَعْفُوِّ، وإلا فليسَ من السَّيِّئاتِ والفواحش التي يُتَوَقَّعُ عليها العذابُ. وعلى كلِّ حالٍ فليسَ من الكبائر التي ورد النصُّ فيها.. وأنا أعلم أنَّه سينكر عليَّ بعضُ المتعصِّبينَ عليَّ تأليفي لمثلِ هذا ويقول: (إنه خالفَ طريقته، وتجافَى عن وجهته)، وما أُحِلُّ لأحدٍ أن يظنَّ فيَّ غير ما قصدته.. قال الله عزَّ وجلَّ:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، وحدَّثني أحمد بن محمد بن الجسور قال: ثنا ابن أبي دليم قال: ثنا ابن وضَّاح عن يحيى بن يحيى عن مالك بن أنس: عن أبي الزَّنَاد: عن الأعرج: عن أبي هريرة [رضي الله عنه] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إيَّاكُمْ والظَّنَّ فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحديث».. وبه إلى مالكِ: عن سعيد بن أبي سعيد المقبريِّ: عن أبي شُرَيْجٍ الكَعْبِيِّ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت. .، وحدَّثني صاحبي أبو بكر محمد بن إسحاق قال: حدَّثنا عبد الله بن يوسف الأَزْديُّ قال: حدَّثنا يحيى بن عائذ قال: حدَّثنا أبو عديِّ عبد العزيز بن علي بن محمد بن إسحاق بن الفرج - الإمام بمصر - قال: حدَّثنا أبو عليٍّ الحسنُ بن القاسم بن دحيم المصريُّ، قال: حدَّثنا محمد بن زكريا الغلابيُّ قال: حدَّثنا العباس قال: حدَّثنا أبو بكر: عن قتادةَ: عن سعيد بن المسيِّب: أنَّه قال: وَضَعَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنَّاس ثمانيَ عَشْرَةَ كلمةً من الحكمة منها: (ضَعْ أمرَ أَخِيكَ على أحسنه حتَّى يأتيَكَ على ما يغلبك عليه.. ولا تظنَّنَ بكلمةٍ خَرَجَتْ مِنْ في امرىءٍ مسلم شَرَّاً وأنت تجد لها في الخَيْرِ مَحْمَلاً)؛ فهذا أعزك الله أدبُ الله، وأدبُ رسوله صلى الله عليه وسلم وأدبُ أميرِ المؤمنين.. وبالجُمْلَة فإنِّي لا أقول بالمُراآةِ، ولا أَنْسُكُ نُسْكاً أعجمياً.. ومن أدَّى الفرائضَ المأمور بها، واجتنب المحارمَ المنهيَّ عنها، ولم ينسَ الفَضْلَ فيما بينه وبين النَّاسِ: فقد وَقَعَ عليه اسمُ الإحسان، ودَعْنِي مِمَّا سوى ذلكَ، وحسبي الله.. والكلامُ في مِثْلِ هذا إنَّما هو مع خَلاءَ الذَّرْعِ [لعله يريد ضيق التصرف بقصور الذراع عن غايته]، وفراغِ القَلْب [يعني من الهموم].. وإنَّ حِفْظَ شيئ، وبقاءَ رسم، وتذكُّرَ فائتٍ لمِثْلِ خاطري: لعَجَبٌ على ما مضى ودهمني؛ فأنتَ تعلمُ أنَّ ذهني متقلِّب، وبالي مُهَضَّمٌ بما نحن فيه من نُبُوِّ الدِّيار، والجلاء عن الأوطان، وتغوُّل الزَّمان، وَنَكَباتِ السُّلطان، وتغيُّر الإخوان، وفسادِ الأحوال، وتبدُّل الأيام، وذهاب الوَفْر، والخروج عن الطَّارف والتَّالد، واقتطاع مكاسب الآباء والأجداد، والغُرْبة في البلاد، وذهاب المال والجاهوالفِكْرِ في صيانة الأهل والولد، واليأس من الرُّجوع إلى مَوْضع الأهل، ومُدَافعة الدَّهْر، وانتظارِ الأقدار.. لا جعلنا الله من الشَّاكِينَ إلا إليه، وأعادنا إلى أفضل ما عَوَّدَنا.. وإنَّ الذي أبقى لأكثرُ مِمَّا أَخَذَ، والذي تَرَكَ أعظمُ مِنَ الذي تَحَيَّفَ، ومواهِبُهُ المحيطةُ بنا ونِعَمُهُ التي غَمَرَتْنا لا تُحَدُّ، ولا يُؤَدَّى شكرها، والكلُّ مِنَحُهُ وعطاياه، ولا حُكْمَ لنا في أنفسنا ونحن منه وإليه مُنقَلبنا وكلُّ عاريةٍ فراجعةٌ إلى مُعِيرها، وله الحَمْدُ أولاً وآخراً وعَوْداً وبدءاً.. وأنا أقول:

جَعَلْتُ اليأسَ لَيْ حِصْناً ودِرْعاً

فلَمْ أَلْبَسْ ثِيَابَ المُسْتَضَام

وأكثرُ مِنْ جَمِيع النَّاس عِندي

يَسِيرٌ صانَنِي دونَ الأنام

إذا ما صَحَّ لي دينيِ وَعِرْضي

فلستُ لِمَا تولَّى ذا اهتمام

تولَّى الأَمْسُ والغدُ لَسْتُ أدري

أَأُدْرِكُهُ ففي ماذا اغْتمامي

جعلنا الله وإيَّاك من الصَّابِرين الشَّاكرين الحامدين الذَّاكرين، آمين آمين».

قال أبو عبدالرحمن: هذا بثٌّ وكث مُؤلمان، وشُكْرٌ وابتهال، ومواعظُ نفيسة.. ولا ريبَ أن ما في القرآن الكريم والسنة النبوية من حِكَم ووصايا مواعظ: حقائق يقينية ينصرها العقل والتجربة، ولكنها وردت بصيغ تخاطب العواطف، ولم تكن قوالبَ عقليةً جامدة.. ولا ينبغي لمسلم تشرَّب الإيمانَ قلبُه، وبهرته آياتُ ربه: أن يشكك في معقولية تلك المواعظ؛ لأن الوصايا والحكم والمواعظ تدعو إلى السمو بالنفس وتطهيرها وإراحتها بالوئام؛ وهو الوئام بين السلوك والعقيدة، وبين العقل والقلب، وبين الإنسان وغيره من البشر والحيوانات وشتى مظاهر الكون.. والله سبحانه خالق البشر بعقولهم وغرائزهم، وهو خالق الحيوانات والكون كله، وهذه المواعظ (وهي وصاياه) اليقينيَّة التي صدرت عن الخالق جلَّ جلاله، وخالق الخلق أعلم بما يُصلحهم وما يَصْلح لهم؛ وإنما خاطب الله العواطف؛ لأن مواعظ القرآن مستقرة في القلوب، ونحن نعلم أن الفكر والتأمل يسبق المعتَقَد.. ومقرُّ الفكر العقلُ، ومقر العقيدة القلب، وإيمان القلب هو أقوى درجات الإيمان؛ لأن الإيمان لا يَقرُّ في القلب إلا بعد اقتناع العقل ومن ثم يتحوَّل الإيمان إلى عواطف تبدو في سحنات الوجه؛ فترى المؤمن بطريق القلب تحمر وجناته، وتنتفخ أوداجه إذا أُهين في عقيدته.. وأما إيمان الفيلسوف فلا يتحول إلى عاطفة؛ لأن إيمانه مجرد غطرسة عقلية لم تتحول إلى القلب؛ إذن فما أوصى به القرآن من أخلاق فاضلة قد وقرت في القلوب؛ فاستحث الله عواطفهم للتعصب للحقِّ والأخلاق الفاضلة؛ لأن إرادة الإنسان أسرع استجابة لإيمان القلب؛ بل إن الإرادة ضعيفة أمام عاطفية جبارة وعقلٍ مُتغطرس.. ولا مجال بعد هذا القول بأن مواعظ القرآن المتعلِّقة بالحقِّ والأخلاق ليست حقائق يقينية إذْ لم تردِ بقوالب المنطق الجافة؛ وإنما أكَّدت على هذه الناحية؛ لأن بعض الناشئة في بعض البلاد العربية تستهين بالمواعظ وتقول: (لسنا في حاجة إلى وُعَّاظ)، وإذا سمعوا المواعظ قالوا: (هذه موعظة، وليست فكرة)، وقد يكون عذرهم في هذا الادعاء الظالم أنهم يسمعون وُعَّاظاً منافقين: يفعلون خلاف ما يقولون، وَيُهَوِّلون بما لا يُعقل، وبما لا يصحِّ نقُله بدعوى أنه من عند الله، فضعفت الثقة بالمواعظ عند كثير من الناس.. وقد يكون عذرهم أن بعض الوُعَّاظ أسرفوا في حشد الحكايات الكاذبة، والأساطير الخيالية، والأحاديث المدسوسة ولا سيما أن بعض علماء مصطلح الحديث يرى التسمح في رواية الحديث الضعيف والموضوع في الوعظ ترغيباً وترهيباً.. ولكنْ هذه العواملُ يجب أن تُسوِّغ لهم إساءة الظن في بعض المواعظ لا كلها، ويجب أن لا تسري عَدْوَى الشك إلى القرآن وصحاح الأحاديث؛ لأنها قطعية الدلالة والثبوت، وما كان من تنزيل الله فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. والمُفكِّرون الجادِّون لو أنهم أعظملوا فكرهم لردُّوا كل موعظة إلى برهانها العقلي، وأضربُ المثلَ بقول الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة فصلت-34] وبقوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [سورة آل عمران-134]، وقوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [سورة الأعراف-199] وقوله صلى الله عليه وسلم (لا تخن من خانك)؛ فهذه نصوص تحثُّ على الصفح والتسامح، وأن لا يردَّ المسلم السيئة بسيئة.. وبرهان هذه الوصايا الكريمة أن المسلم لو ردَّ السيئة لما وقفت الإساءة عند حد، ولظلَّ رد السيئة بسيئة تراشقاً متبادلاً مستمراً؛ وفي هذا تنغيص الحياة؛ فلا بد من فضيلة تقطع دابر العدوان وهي العفو والصفح؛ ولابد من فاضل يعفو ويصفح؛ فهذا برهان عقلي على إحدى المواعظ، وكل موعظة سماوية لا يندُّ عن العقل برهانُها.. والنهي عن خيانة من خان استسلام للشرع المُطهَّر؛ فلا يستبيح المحرَّم شرعاً بالمقاصَّة؛ لأن المُقاصَّة على عمومها إلا ما استثنى الشرع تحريمَه كخوف التَّعدِّي، وكتحريم المُثلة مع أن الشرع في المُقاصة المُباحة أذِن بالمُباح، وفضَّل الصبر والعفو إذا لم يكثر الاعتداء ويركن الجاني إلى عاقلته، أو تكون الجناية تكرَّرت منه، فالصبر والعفو غايةُ الخضوع للرب جل جلاله، وغاية الاستسلام للأفضل في شريعة مولاه.. والإعراض عن الجاهل زجرٌ وتعليم له، وتَرَفُّعٌ بالنفس أن تكون جاهلة؛ فإن من المستقبح في العقل الإنساني المُشْتَرَك أن تنبح الكلبَ إذا نبحك.. هذه نبذة موجزة عما يليق بأفراح العيد على النقاء، وتشخيص لما يقتضيه الشكر لله بما سلف من مواعظ، والله المستعان.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب