Friday 08/08/2014 Issue 15289 الجمعة 12 شوال 1435 العدد
08-08-2014

لأنك إنسان!

ما من بشر إلا وقد نابته نوبة، ومسته محنة، وألمّ به سوء، ونزلت به ملمة، وطرقه الدهر، وعضته الليالي، فأُورث بعد هذا هموماً يؤوده ثقلها، وينوء بحملها، وغموماً تتوجع لها القلوب رقة، وتنفطر لها الأفئدة رحمة، فاستسلم للوجد، وبات لا يملك دمعاً ولا قلباً!

ماذا يريد هؤلاء عند توالي الرزايا وتتابع المآسي غير قلب ينبض لهم، وروح تئن لهم، ويد تمتد لهم لتحملهم، ولسان عذب رقيق يدعو لهم ويواسيهم؟!

ومنْ مِن الناس الذي لم يجترح الأخطاء، ويجر الخطايا، ويقترف الآثام التي ربما أورثته صغاراً وذلاً؟!

وكم هي حاجة هؤلاء لمن يقيل العثرة، ويغتفر الزلة، وينقذ من الهفوة، ويستر الجرم!

ونحن في هذه الحياة عرضة للخطأ والزلل والاعتداء على الآخرين بفعل أو كلمة أو حتى نظرة، ربما جرحت مشاعرهم، وكدرت خواطرهم، وكسرت نفوسهم.. فكم من زوج نال من زوجته نقداً جارحاً، وكم من زوجة استطالت على زوجها بكلمات مؤذية!

ومع هذا لا دمع يُراق، ولا آهة تُزفر، ولا خاطر يُجبر.. بشرٌ بفكر ضيق، وقسوة موجعة، وفظاظة أليمة، وطبع غليظ! وبعض الناس غاية ما تتمنى منهم كف أذاهم وشرهم، فلا يتورعون عن النيل من منكسر أو الشماتة بمبتلى! وأحسب أن من يتشفى ويسخر من مبتلى أو مكلوم هو شخص لئيم النفس خبيث الروح، لم تسعفه مروءة على فعل الخير، وما صده ورعٌ عن توقي الشر، يفري الأعراض، هوايته هتك الأسرار، وتجريع السموم، وفات عليه أن ما يفعله دَيْنٌ سريع السداد!

يقول المنفلوطي: ليتك تبكي كلما وقع نظرك على محزون، ثم تبتسم سروراً ببكائك واغتباطاً بدموعك؛ لأن تلك الدموع إنما هي سطور من نور تسجل لك: أنك إنسان!

إن جبر خواطر المنكسرين والتنفيس عن كربهم وإطفاء حر كبودهم والتقلب معهم في الشدائد ومشاطرتهم الجهد.. درب ميسر للألفة، وسبيل للود، وطريق للحب، فربما يصبح المريض الذي أعياه الألم صحيحاً سليماً معافى بعبارة مشرقة يُنفس له بالأجل فيها، ودعوة طيبة بطولة العمر، وبابتسامة عذبة وموعظة جميلة قد يصبح المسرف على نفسه صالحاً مصلحاً، وقد تمسح على رأس طفل يتيم فُجع بفَقد والده فيبقى يلهج بالشكر لك طول عمره، وقد تقف إلى جنب مكلوم بفقد حبيب فلا ينسى لك ذلك الموقف ما عاش. ولنعلم أن الجميع يحتاجون لرقيق الكلمات وجميل المواساة، بل إن احتياج الناس اليوم إلى الحضن الدافئ والكلمة الحانية أمر يرتقي لأن يصبح ضرورة، وبخاصة في هذا الزمن الذي تحالفت فيه القسوة مع الحرص، وتعانق فيه حب النفس مع الجهل! وهذا الأدب مطلوب حتى مع الخصوم!! يقول ابن القيم رحمه الله: «جئت يوماً مبشراً لابن تيمية بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني، وتنكر لي، واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسروا به ودعوا له».

وعندما تهفو نحونا تلك الأفئدة التي تفيض رحمة وحناناً، وتفيض رقة في هاتيك اللحظات التي تكاد أنفسنا فيها تنفجر ضيقاً ووجعاً، تبدو لنا حينها الدنيا بهيجة والناس طيبين والغد مغرداً ألقاً!

إن مواساة المنكسرين وتطييب خواطرهم لا يقتصران على الكلام فقط، بل قد يكونان بالمال، وقد يكونان بالجاه، وقد يكونان بالتوجيه، وقد يكونان بالدعاء والاستغفار لهم، وقد يكونان بقضاء حوائجهم، وربما كان لهدية بسيطة دور عظيم في لمّ الشمل وتطييب النفوس، وتصفية القلوب من الأدغال والأحقاد.. والاعتذار بعد الخطأ من وسائل تطييب النفوس، وكذلك البشاشة وإشراقة الوجه فهي مصيدة المودة، فقد تصادف شخصاً وهو مهمومٌ مغمومٌ حزينٌ فتبتسم في وجهه، فربما يزول همه ويرحل حزنه، وكذلك قضاء حوائج الناس وزيارة المريض حال مرضه، ومنه السعي في حاجات الفقراء والمستضعفين، ففي صلتهم تطييبٌ لخاطرهم وجبرٌ لمصابهم. وممن يحتاجون إلى تطييب خواطرهم اليوم أهل المصائب والابتلاءات، ومنه لطيف التعزية، فإن الكلمة الطيبة للمصاب يثبَّت بها - بإذن الله - ويغدو صبره عليها ممكناً ميسراً، فإن الإنسان ضعيف بنفسه قوي بإخوانه، فإذا وجد هذا يعزيه، وذاك يسليه، سهلت عليه عظائم الأهوال.

يقول الأديب الراحل خالد محمد خالد: من يزرع البغضاء يحصد القطعية، ومن يزرع المحبة يجن الحياة.. لقد استقام الميزان تماماً، ولن يعتور كفتيه اضطراب من أحب الناس صادقاً. لن يكرهوه أبداً! ومن وُفّق لتطييب النفوس ومواساة المحتاج فيبشر بالخير فهو أجمل في الذكر، وأحسن بالعاقبة، وأطيب في السمعة! عليك بجبر الخواطر، ولك من ربك يد واقية وعين كالئة وجنة تنتظر!

ومضة قلم:

للعظيم قلبان: قلبٌ يتأمل وقلبٌ يتألم!

khalids225@hotmail.com

مقالات أخرى للكاتب