15-08-2014

شخصيات إسلامية: منصور بن عمار

منصور بن عمار بن كثير، الواعظ البليغ، الصالح الرباني، أبو السري السلمي الخراساني، كما قال عنه الذهبي، وقيل: البصري، كان عديم النظير في الموعظة والتذكير..

وقبل الحديث، أحب أن أوضح أنني ذكرت جزءاً من سيرته وتأثيره في الوعظ، ومن ذلك أنه وعظ الناس في الجهاد، وفي الإنفاق في سبيل الله، فبلغ منهم كلامه مبلغاً عظيماً، وتسابقوا في الصدقة من أجل الجهاد، فرمت امرأة ضفيرة شعرها، بعد أن قطعتها، ومعها ورقة فيها: يا منصور بن عمار، إنني لا أملك ما أتصدق به في سبيل الله غير هذه الضفيرة من شعري، فاجعلها قيداً لفرس في سبيل الله فضج المسجد بالبكاء؛ تأثراً من هذه المرأة وما قالته..

قال: وبعد أيام تلقيت رسائل وحكايات، من طلاب علم، وأولياء أمور طالبات، يسأل الجميع عن المصادر التي توجد فيها سيرة هذا الرجل وأخباره؛ لأنّ هناك من يريد الكتابة عنه، ولكن يعوزهم معرفة المصدر.

وإجابة عن تلك التساؤلات وغيرها، أوضح أنّ أخباره تأتي في كتب السير التي تترجم له والتاريخ وفي كتب المتفرقات، ومن تلك الكتب لمن يريد أن يتتبع أخبار هذا القاصّ الكثيرة سير أعلام النبلاء للذهبي الجزء التاسع، حلية الأولياء لأبي نعيم الجزء التاسع، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي الجزء 13، مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر الجزء الخامس والعشرون، الجرح والتعديل للرازي الجزء الثامن، ميزان الاعتدال للذهبي الجزء الرابع، الرسالة القشيرة الجزء الأول، النجوم الزاهرة الجزء الثاني، وفي الكامل لابن عدي، وطبقات الصوفية، وطبقات الأولياء، وفي الضعفاء للعقيلي وغيرها من كتب الجرح والتعديل الذين مالوا إلى تصنيفه؛ لأنه لا يثبت من الأحاديث شأنه شأن القصاصين.

ولم يكن من المتفرغين بالحديث، لكنه كان مؤثراً في الوعظ، ولما قيل له: تتكلم بهذا الكلام ونرى منك أشياء؟ قال: احسبوني درة على كُناسة، والكناسة هي المزبلة. يقول ابن أبي شيبة: كنا عند ابن عيينة، فسأله منصور بن عمار عن القرآن فزجره، وأشار إليه بعكازه، فقيل: يا أبا محمد، إنه عابد، فقال: ما أراه إلا شيطاناً، وهذا من ورع ابن عيينة عن التحدث في القرآن؛ لأنّ فتنة بشر المريسي الذي قال بخلق القرآن، قد خرجت وخشي ابن عيينة منها. وقد كان الليث بن سعد عالم مصر وفقيهها، يستمع أحاديث ويعطيه من المال الشيء الكثير، ويدعوه للحديث عنده، ويبكي من تأثره بكلامه.

يقول منصور بن عمار: قدمت مصر وبها قحط، فتكلمت، فبذلوا صدقات كثيرة، فأتي بي الليث.. فقال لي: ما حملك على الكلام بغير أمر؟ فقلت: أصلحك الله، أعرض عليك، فإن كان مكروها، نهيتني. قال: تكلم فتكلمت، قال الليث: قم، لا يحل أن أسمع هذا وحدي.. وأعطاني ألف دينار.

وقيل إن هارون الرشيد لما سمع وعظ منصور، قال: من أين تعلمت هذا؟ قال: تفل في فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، وقال لي: يا منصور قل.

ويقول ابنه سليم بن منصور: كتب بشر المريسي إلى أبي منصور بن عمار: أخبرني القرآن.. فكتب إليه: عافانا الله وإياك من كل فتنة، وجعلنا وإياك من أهل السنّة والجماعة، نحن نرى أنّ الكلام في القرآن بدعة، تشارك فيها السائل والمجيب، وتعاطى السائل ما ليس لَهُ، وتكلف المجيب ما ليس عليه، وما أعرف خالقاً إلاّ الله، وما دون الله مخلوق، والقرآن كلام الله، فانته بنفسك وبالمختلفين معك، إلى أسمائه التي سمّاه الله بها تكن من المهتدين، ولا تسم القرآن باسم من عندك، فتكون من الضالين. ولا شك أنّ هذا موقف يريد فيه بشر المريسي جذب منصور إلى بدعته، فكان جوابه لا يختلف عن كلام أهل السنّة والجماعة.

وموقف آخر: فقد كتب بشر المريسي إلى منصور بن عمار، كما قال الكوكبي: يسأله عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (سورة طه: 5) كيف استوى؟ فأجابه بالقول: استواؤه غير محدود، والجواب فيه تكلف، ومسألتك عنه بدعة، والإيمان بجملة ذلك واجب. وهذا شبيه بجواب الإمام مالك رحمه الله عندما سئل نفس السؤال: فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولا أظنك - يعني السائل - إلا صاحب بدعة.. وأمر به فأخرج من مجلسه.

قال ابن عساكر: ودخل منصور بن عمار العراق، وأقام بها؛ أوتي الحكمة، وكان سبب ذلك أنه وجد رقعة في الأرض، مكتوب عليها بسم الله الرحمن الرحيم، فأخذها فلم يجد لها موضعاً فأكلها، فأُرِي فيما يرى النائم كأن قائلاً قال له: قد فتح عليك باب الحكمة باحترامك لتلك الرقعة. فكان بعد ذلك يتكلم بالحكمة.

ذكر أبو نعيم في الحلية: قال منصور بن عمار: حججت حجة، فنزلت سكة من سكك الكوفة فخرجت في ليلة مظلمة، فإذا بصارخ يصرخ في جوف الليل وهو يقول: إلهي، وعزّتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بنكالك جاهل، ولكن خطيئة عرضت لي أعانني عليها شقائي، وغرّني سترك المرخى عليَّ، وقد عصيتك بجهدي، وخالفتك بجهلي، ولك الحجة عليّ، فالآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أتصلُ إذا قطعت حبلك مني؟ وا شباباه، وا شباباه، قال: فلما فرغ من قوله، تلوت آية من كتاب الله: {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} (سورة التحريم: 6) الآية، فسمعت حركة شديدة، ثم لم أسمع بعدها حسًا، فمضيت، فلما كان من الغد رجعت في مدرجتي، إذا بجنازة قد وضعت، وإذا بعجوز كبيرة فسألتها عن أمر الميت، ولم تكن عرفتني فقالت: هذا رجل لا جزاه الله إلاّ جزاءه مر بابني البارحة وهو قائم يصلي، فتلا آية من كتاب الله، فلما سمعها ابني، تفطرت مرارته، فوقع ميتًا رحمه الله. وعن حضوره إلى مصر ودعائه جاءت بعدة روايات.

فقد ذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: أن منصور بن عمار قال: لما قدمت مصر، كانوا في قحط، فلما صلوا الجمعة، ضجوا بالبكاء والدعاء، فحضرتني نية، فصرت إلى الصحن، وقلت: يا قوم، تقرّبوا إلى الله بالصدقة، فما تقرّب بمثلها، ثم رميت بكسائي. فقال: هذا جهدي فتصدقوا، حتى جعلت المرأة تلقي خرصها حتى فاض الكساء، ثم هطلت السماء، وخرجوا في الطين، فدفعت إلى الليث وابن لهيعة، فنظرا إلى كثرة المال، فوكلوا به الثقات ورحت أنا إلى الإسكندرية، فبينا أنا أطوف على حصنها، إذا رجل يرمقني. قلت: ما لك؟ قال: أنت المتكلم يوم الجمعة؟ قلت: نعم. قال: صرت فتنة، قالوا: إنك الخضر، دعا فأجيب. قلت: بل أنا العبد الخاطئ، فقدمت مصر، فأقطعني الليث خمسة عشر فداناً، ومثله ابن لهيعة وكان يقول: المتكلمون ثلاثة: الحسن بن أبي الحسن، وعمر بن عبد العزيز، وعون بن عبد الله بن عتبة، فقال له علي بن خشرم: وأنت الرابع.

ويقول عنه علي بن خشرم، كما ذكر أبو نعيم في الحلية بأنه سمعه يقول: رأيت كأني دنوت من جحر، فخرج عليّ عشرُ نحلات فلدغنـني، فقصصتها على أبي المثنى المعبر البصري، فقال: الجد ما تقول؟ أعطني شيئاً. قَالَ: إن صدقت رؤياك تصلك امرأة بعشرة آلاف، لكل نحلة ألف. قَالَ منصور: فقلت لأبي المثنى: من أين قلت: هذا؟ قَالَ: لأنه ليس شيء من الخلق ينتفع ببطنه من ولد آدم إلا النساء، فإنهن ولدن الصديقين، والأنبياء. والطير ليس فيها شيء ينتفع ببطنه إلا النحل، فلما كان من الغد وجهت إلي زبيدة بعشرة آلاف درهم.

يقول الخطيب البغدادي: كان في كلامه شيئاً عجباً، لم يقص على الناس مثله؛ ولذا قالوا عنه: إنه يأتي الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وقد ذكر نماذج ثلاثة منها الذهبي في سير أعلام النبلاء، وحكم بموجبها على ضعف منصور، ولكنه أثنى عليه وعلى عبادته ووعظه.

وقال محمد بن موسى: شهدت منصور بن عمار القاص، وقد كلمه قوم، فقالوا: هذا رجل غريب، يريد الخروج إلى عياله، فقال لابنه أحمد بن منصور: يا أحمد امض معهم إلى أبي العوام البزاز، فقل له: أعطه ثياباً بألف درهم، بل بأكثر من ذلك، حتى إذا باعها صح له ألف درهم.

وكان سبب ذهابه إلى مصر، أن المكاسب قد أعيته، وأن المعيشة قد ضاقت عليه، فأخذ بهذا الحديث الذي كان يحدث الناس به، ورواه عن ابن لهيعة، عن أبي قبيل، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أعيته المكاسب فعليه بمصر، وعليه بالجانب الغربي منها...» كما حدث عنه أيضاً بسنده إلى عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل طعام لا يذكر اسم الله عليه، فإنما هو داء، ولا بركة فيه، وكفارة ذلك، إن كانت المائدة موضوعة، أن تسمي وتعيد يدك، وإن كانت قد رفعت أن تسمي الله وتلعق أصابعك...» وقد تكلم في هذين الحديثين كما تكلم في غيرها.

وكان كريماً: فلا يبقي له شيئاً في رمضان، لا كسوة ولا دراهم، ولا طعاماً حتى يبعث به إلى إخوانه المتقللين.

وحدث الصيدلاني بجرجان فقال: سمعت سليم بن منصور بن عمار يقول: رأيت منصوراً في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: إن الرب تعالى قرّبني وأدناني، وقال لي: يا شيخ السوء تدري لما غفرت لك؟ قلت: لا يا إلهي. قال: إنك جلست للناس يوماً مجلساً فبكيتهم؟ فبكى فيهم عبد من عبادي لم يبك من خشيتي قط، فغفرت له ووهبت له أهل المجلس كلهم، ووهبتك فيمن وهبت له.

mshuwaier@hotmail.com

مقالات أخرى للكاتب