Friday 18/07/2014 Issue 15268 الجمعة 20 رمضان 1435 العدد
18-07-2014

الكواكبي وكتابه أم القرى

الإنسان يجد في خلوته مع كتبه حباً للقديم، حيث تستهويه أحداث الماضي، ليجد بين أسطر الكتب وصفحات التاريخ متعة وفائدة، وفيما سطّره الماضون ونماذج من مجريات حياتهم، عظة وعبرة، كما جاء في وصف الجاحظ للكتاب، إذ رصد من قبلنا ما دار في زمانهم، ليبرز فيه لمن بعدهم فكرهم وجهدهم، وليبين ما يدور في مجتمعهم، وتمثل نتائجه في أذهانهم، من فكر وما يهم المسلم نحو دينه وأداء حق الله عليه، لأن هذا هو مهمته في الحياة...

.. وفي أيام الطلب كان مدرسونا يحرصون على تنبيهنا إلى نوعيات من الكتب، التي رصدها أناس عرفوا بالأسلوب الرصين، والفكر النير، ويحذروننا من نقيض ذلك. وعبدالرحمن الكواكبي المتوفى بالقاهرة عام 1320هـ ممن حثنا معلمونا على قراءة كتابه: أم القرى، وقد علقت تلك التزكية بذهني فترة طويلة، حتى أتيح لي الاطلاع عليه قبل مدة، فرأيت فيه خيالاً خصيباً، واتجاهاً إسلاميا مفيداً، يريد إبانة أنّ الحلّ لما يقع فيه المسلمون من تخلف، وقصور، في فهم الإسلام يعود إليهم، وإلى ما أدخل على الإسلام من بدع وخرافات، وأمور لم ينزل الله بها من سلطان، وأن الحل في الحرص على اتباع كتاب الله، والعمل وفق سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونبذ ما خالفهما مهما كان مصدره.

وأرى في هذا أهمية التعريف بالكواكبي، وبُعْد الملامح عن كتابه هذا، بقدر ما يسمح الحيّز لهذه الكلمة، يقول كحالة في معجم المؤلفين: عبد الرحمن بن أحمد بن مسعود آل الموقت، المشهور بالكواكبي، ويلقب بالسيد الفراتي، من رجال الدين والاجتماع، والسياسة، ولد بحلب في 13 شوال 1271هـ، ونشأ بها، وتعلم مبادئ اللغات العربية والتركية والفارسية، ثم أدخل إلى المدرسة الكواكبية فقرأ العلوم العربية والدينية، وتلقى العلوم العصرية على خورشيد من أدباء الترك، كما أتقن عليه اللغتين التركية والفارسية، وأسندت إليه مناصب عديدة فكان المحرر العربي والمترجم التركي لجريدة الفرات الرسمية.. إلى أن أنشأ جريدته بحلب سماها الشهباء، ثم رحل إلى مصر، وساح إلى بلاد العرب وشرقي افريقية، وبعض بلاد الهند، واستقر في مصر إلى أن توفي في 6 ربيع الأول عام 1320هـ، وله من الكتب: أم القرى، طبائع الاستبداد، صحائف قريش، والعظمة لله.

ثم أوضح في الهامش أسماء أربعين مصدراً استقى منها ترجمته[5: 115].

أما الزركلي في كتابه الأعلام فاعتبره من رجال الإصلاح الإسلامي، عندما ترجم له فقال: عبد الرحمن الكواكبي ويلقب بالسيد الفراتي، رحالة من الكتاب الأدباء. ومن رجال الإصلاح الإسلامي ولد بحلب عام 1265هـ وتعلم بها وأنشأ فيها جريدته الشهباء. فأقفلت جريدة الاعتدال فعطّلت، ثم ضيّق عليه أعداء الإصلاح فسعوا به فسجن وخسر جميع ماله فرحل إلى مصر، وساح سياحتين عظيمتين إلى بلاد العرب، وشرقي أفريقيا وبعض بلاد الهند واستقر في القاهرة إلى أن توفي عام 1320هـ، له من الكتب: أم القرى مطبوع، وطبائع الاستبداد مطبوع وكان لهما صدى ودوي عند صدورهما، وكان كبيرا في عقله وهمته وعلمه، من كبار رجال النهضة الحديثة، وفي الهامش أشار إلى ثمانية مصادر استقى منها ترجمته [4: 68].

وكان العصر الذي حفزه للإصلاح يعج بما يعيشه المسلمون من جهل، وما تكالب به المستعمرون على ديار الإسلام في أنحاء العالم، والدولة العثمانية، التي تمثل الرمز الإسلامي، قد بدأها الضعف، فسجل أفكاره في كتابه أم القرى، وقد كنت اطلعت عليه فترة الدراسة، ولم أرعه اهتماماً كبيراً، شأنه شأن كثير من الكتب والصحف التي تقرأ لتزجية الوقت والمتعة، والإفادة من أسلوب الكاتب الإنشائي، ليستعين القارئ بمسلك المؤلف، وسلاسة أسلوبه، وطريقته في تركيب العبارات وسبكها. لكن بعد أن وجدت لفتة في إحدى الصحف إلى الكواكبي وأسلوبه الذي يغاير أسلوب عصره من حيث السجع المتكلّف، والعبارات التي تنسي المتابع عن الفكرة التي طُرحت، أحببت العودة لكتابه أم القرى، حيث وجدت فيه متعة في المنهج الكواكبي العلمي، وغيرته الإسلامية، وخياله الخصب.

كانت الطبعة التي تناولت أخيراً حديثة الصدور، ومتميزة عن الأولى من حيث الإخراج، وحسن الطباعة والتنظيم، وتقع في 265 صفحة من القطع المتوسط مع الفهارس.

وقد جاء في الغلاف الداخلي: تحت اسم الكتاب عبارة: «العرب من أحرص الأمم على احترام العهود، واحترام الذمة إنسانية، واحترام الجوار شهامة، وبذل المعروف مروءة» ولست أدرس هل هذا الكلام للكواكبي أم للناشر، لأن الطبعة الأولى غير متوفرة بمكتبتي.

وقد تصدر الطبعة المتوفرة صورة لعبد الرحمن الكواكبي بلباسه العربي، ثم تقديم حفيده، وشريكه في التسمية ومما قاله: هذه طبعة جديدة للكتاب أم القرى، قوبلت على الطبعات المختلفة التي صدرت له، مما يجعلها لا تختلف عن الطبعة الأولى التي أصدرها المؤلف لأول مرة، ولا بد في هذه المناسبة من الإشارة إلى حقيقة تاريخية، تلقي ضوءاً على موضوع الكتاب، هي أن جدي رحمه الله ألف: «أم القرى» و»طبائع الاستبداد» قبل هجرته إلى مصر، وكان عمي الدكتور أسعد، يتولى تبيض أم القرى، وهو في حلب، كما أخبرني أيضا عالم حلب الثقة الشيخ راغب الطباخ، أن المؤلف أطلق قبل سفره إلى مصر عليه، ولما كان «السيد الفراتي» لم يغادر حلب خلال مقامه فيها، إلا إلى استانبول، ولم يقم بجولاته إلى العالم الإسلامي إلا بعد رحيله إلى مصر، فإن المؤتمر الذي عقده في مكة، والذي يدور عليه موضوع الكتاب إنما هو مؤتمر تخيله المؤلف، ليعرض فيه آراءه الإصلاحية، في قالب جذاب يستهوي النفوس، ثم بعد ذلك يبدأ المؤلف مقدمته بقوله: أقول وأنا هو الرحالة المتكني بالسيد الفراتي: إنه لما كان عهدنا هذا، وهو أوائل القرن الرابع عشر، عهداً عم فيه الخلل، والضعف كافة المسلمين، وكان من سنة الله في خلقه أن جعل لكل شيء سبباً، فلا بد لهذا الخلل الطارئ، والضعف النازل من أسباب ظاهرية غير سر القدر الخفي عن البشر، فدعت الحمية بعض أفاضل العلماء والكتاب والسياسيين، للبحث عن أسباب ذلك، والتنقيب عن أفضل الوسائل للنهضة الإسلامية، فأخذوا ينشرون آراءهم في ذلك، في بعض الجرائد الإسلامية الهندية، والمصرية والسورية والتاتارية، واتبعت أثرهم بنشر ما لاح لي في حل هذا المشكل العظيم، فخرجت من وطني لأداء فريضة الحج، وطفت الآفاق، وقررت استطلاع الأفكار، وتهيئة الاجتماع، في موسم أداء فريضة الحج لعام 1316هـ[4].

وقد تخيل الكواكبي اجتماعه الأول، الذي بدأ كما يقول في يوم الاثنين خامس عشر ذي القعدة سنة 1316هـ، بأعضاء جمعية الوهمية، وعددهم اثنان وعشرون من الفضلاء الذين يحسنون العربية، وسماهم برموز تربطهم بالبلاد التي اختار وهم: السيد الفراتي، والفاضل الشامي، والبليغ المقدسي، والكامل الإسكندري والعلامة المصري، والمحدث اليمني، والحافظ البصري، والعالم النجدي والمحقق المدني، والأستاذ المكي والحكيم التونسي، والمرشد الفاسي، والعيد الإنجليزي، والمولى الرومي، والرياضي الكردي والمجتهد التبريزي، والعارف التاتاري، والخطيب القازاني، والموفق التركي، والمدقق الأفغاني، والصاحب الهندي، والشيخ السندي، والإمام الصيني. فاعتبر نفسه زائداً عن العدد ثم قال: وبعد التعارف بادرت لإخوان جاهراً بكلمة: شعار الأخوة التي يعرفونها مني من قبل وهي: (ألا نعبد إلا الله)، مسترعيا سمعهم. وقد اختاروا للرئاسة الأستاذ المكي، واخترت لنفسي لخدمة الكتابة، تفادياً عن إتعاب غيري في الخدمة التي يمكنني القيام بها، واستأذنت الأفاضل الأعجام منهم، بنوع من التصرف في تحرير بعض ألفاظهم، فأظهر الجميع الرضا والتصويب.

ثم واصل حواره ونقاشه مع أعضاء خلال ثلاثة عشر اجتماعاً، وقد بدأ الأستاذ المكي وهو الرئيس حديثا بقوله: الحمد لله عالم السر والنجوى، الذي جمعنا على توحيده ودينه، وأمرنا بالتعاون على البر والتقوى، والصلاة والسلام على نبينا محمد القائل: «المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً» وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في الله انتصاراً لدينه، ولم يشغلهم عن إعزاز الدين شاغل، وكان أمرهم شورى بينهم، يسعى بذمتهم أدناهم، اللهم إياك نعبد ولا نخضع لغيرك، وإياك نستعين لا ننتظر نفعاً من سواك، ولا نخشى ضراً، اهدنا الصراط المستقيم الذي لا خفيات ولا ثنيات فيه، صراط الذين أنعمت عليهم بنعمة الهداية إلى التوحيد، غير المغضوب عليهم بما أشركوا، ولا الضالين بعدما اهتدوا، سبحانك ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدا، وبعد: فإن مسألة تقهقر الإسلام بلغت ألف عام أو أكثر، وما حفظ عزّ هذا الدين المبين كل هذه القرون المتوالية، إلا مكانة الأساس، مع انحطاط الأمم السائرة عن المسلمين في كل الشئون إلى أن فاقتنا بعض الأمم في العلوم والفنون المنورة للمدارك فربّت قوتها، ونشرت نفوذها عن أكثر البلاد والعباد، من مسلمين وغيرهم، ولم يزل المسلمون في سباتهم إلى أن استولى الشلل على كل أطراف جسم المملكة الإسلامية، وقرب الخطر من القلب -أعني جزيرة العرب- فنبهت أفكار من رزقهم الله بصيرة العواقب، ووفقهم لأجر المجاهدين، فهبوا ينشرون المواعظ والتذكرة، والمباحث المنذرة..

ثم بدأ يصف حالة المسلمين في ذلك الوقت، وكان مما ركز عليه الجهل الذي يراه سبب الخلل، ودعوته إلى ترك التعصب لاختلاف المذاهب، واعتماد كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل أمر، وفي العقيدة فإن مذهب السلف هو الأصل.

واختتم حديثه الذي وصل إلى اثنتي عشرة صفحة تقريباً، بالمسائل الأساسية التي تدور عليها مذكرات جمعيتهم هذه ومنها: ما هو الداء؟ ما وسائل استعمال الدواء؟ كيف يكون التدين بالإسلامية؟ ما هو الشرك الخفي؟ كيف تقاوم البدع؟

وكان من رأي المحقق المدني الذي شارك به ص 39: أما أنا فالذي يجول في فكري، أن الطامة من تشويش الدين والدنيا على العامة، بسبب العلماء المدلسين، وغلاة المتصوفين، الذين استولوا على الدين فضيعوه، وضيعوا أهله، وذلك أن الدين إنما يعرف بالعلم، والعلم يعرف بالعلماء العاملين، وأعمال العلماء قيامهم في الأمة مقام الأنبياء في الهداية، إلى خير الدنيا والآخرة، إن لمثل هذا المقام في الأمة شرفا باذخاً يتعاظم على نسبة الهمم في تحمل عنائه، والقيام بأعبائه، فبعض ضعيفي العلم وفاقدي العزم، تطلعوا إلى هذه المنزلة، التي هي فوق طاقتهم، فصار هؤلاء المثاليون يدلسون على المسلمين بتأويل القرآن، بما لا يحتمله محكم النظم الكريم، وأخذوا من الديانات المخالفة للإسلام، ما أفسد صورته، وجعل الجهلة يهتمون بالقشور المباعدة عن الدين، ويتركون لب الدين في العقيدة والعمل والفهم، وختم كلامه المكون من ست صفحات بقوله: فهؤلاء المدلسون قد نالوا بسحرهم نفوذاً عظيماً به أفسدوا كثيراً في الدين، وبه جعلوا كثيرا من المدارس تكايا للبطالين، الذين يشهدون لهم بالكرامات المرهبة. وقد علق عليه المولى الرومي قائلاً: ما بال زماننا يضنّ علينا برجال ينبهون الناس، ويرفعون الالتباس، يفتكرون بحزم، ويعملون بعزم، ولا ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون، فينالون حمداً كثيراً، وفخراً كبيراً، وأجراً عظيماً.

وفي الاجتماع الرابع ص 75 تكلم العالم النجدي، وركز على سلامة العقيدة، وأطال في شرح حقيقة الوحدانية بالله جل وعلا، في فهم دلالة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتنقية العمل من الشرك الجلي والخفي، ووضح مظنات الإشراك في الملك، ويدخل تحتها اعتقاد اختصاص بعض المخلوقين بتدبير بعض شئون الكون، ومظنات الإشراك في الصفات، التي هي الاعتقاد في المخلوق أن يتصف بشيء من صفات الكمال من المرتبة العليا، التي لا تنبغي إلا لله جل شأنه، والمظنة الثالثة: الإشراك في الذات القائمة في اعتقاد الحلول، وهو أنه تعالى شأنه عما يصفونه، أفنى أو يفني بعض الأشخاص في ذاته كقول النصارى في عيسى ومريم عليهما السلام، وقول بعض علمائنا في وحدة الوجود. واستمر في حديثه الذي بلغ ثلاثين صفحة، وأن بعض الناس ينتقدوننا على هذا الاعتقاد، فعلق مرتين عليه: إن أخانا العالم النجدي يعلم أن ما أفاض به علينا لا غبار عليه بالنظر لقواعد الدين وواقع الحال.. والانتقاد على الاعتقاد هو شديد الوقع والصدع على التائهين في الوهلة الأولى..

وفي ص 217 كان من التوصيات القرار رقم 6 الذي جاء فيه: وحيث إن الجمعية لا يعنيها غير أمر النهضة الدينية، بناء عليه رأت الجمعية من الضروري ربط آمالها بالجزيرة العربية ومن يليها وأهلها ومن يجاريهم، ثم وضع 26 سببا لذلك منها: أن الجزيرة هي مشرق النور الإسلامي، وفيها الكعبة المعظمة، والمسجد النبوي، وهي أنسب المواقع لتوسطها بين أقصى آسيا وأقصى أفريقيا، والجزيرة أسلم الأقاليم من الأخلاط جنسية وأدياناً ومذاهب والجزيرة أبعد الأقاليم عن مجاورة الأجانب، وعرب الجزيرة هم مؤسسو الجامعة الإسلامية لظهور الدين فيهم، ومستحكم فيهم الدين والتخلق به، لأنه مناسب لطبائعهم الأهلية أكثر من غيرهم، وهم أكثر المسلمين حرصاً على حفظ الدين وتأييده، وأمراؤهم جامعون بين شرف الآباء والأمهات إلى غير ذلك من المزايا ص 218.

mshuwaier@hotmail.com

مقالات أخرى للكاتب