08-09-2014

مشاهدات وانطباعات من (مضارب) لندن ! (1-2)

توطئة:

أمضيت جزءاً يسيراً من صيف هذا العام في لندن مستمتعاً بإجازة عائلية محفوفة بالسعادة، ثم عدت منها إلى أرض الوطن الغالي وخاطري مسكون بانطباعات شَتَّى تتجاذبني ذات اليمين وذات الشمال عن هذه المدينة العالمية المنقسمة هويةً بين الماضي والحاضر، ورغم أنها ليست المرة الأولى التي أزور فيها هذه المدينة عبر ثلاثين سنة خلت، ولن تكون الأخيرة -بإذن الله- ولكن، لأمرٍ ما كانت استثناءً من كل ما سبق!

* * *

تساءلتُ داخل أروقة نفسي عدة مرات خلال زيارة لندن وبعد عودتي منها إن كانت (شحنة) الانطباعات التي ازدحم بها خاطري نشأت بسبب (تغيّر) في لندن ذاتها اتساعاً وتنوعاً مشهوداً في مشارب الحياة ومضاربها، أم أن السبب يكمن في «تغيّري» أنا ثقافةً وخبرةً وأسلوبَ حياة، وانتهيتُ إلى تغليب احتمال ثالث يقول إن التغيّر يتّكئُ إلى الاثنين معاً، على نحو أو آخر!

* * *

وأتطوع هنا بالقول إن تغيّرَ المرء منا في سياق حياته بسبب تقدم السن من صوب، وتلوّن وتعدد مشاهد الحياة والتقلب فيها كرّاً وفرّاً بحلوها ومرها من صوب آخر، أمرٌ له من الحقيقة نصيب وافر. وإذا كان حكمُ المرء على شيء جزءًا من تصوره، كما يقول أهلنا الفقهاء، فإن هذا ينسحب بامتياز على مدينة لندن. فحكم العشريني سناً مثلاً على مدينة في حجم وشهرة وهيبة لندن وتعددية أطياف الحياة فيها، ينطلق من ثقافته ومشاهداته وتطلعاته، وهو حتماً يختلف عن حكم من تجاوز ذلك السن بقليل أو كثير، وتلك مفارقة لا تحتاج إلى بحث أو تحليل!

* * *

سن العشرين مثلاً، أمر لم يعد ذا بال لدى من تجاوز هذه السن، وبلغ منه شأوا بعيداً! وترتبط صحة هذه الرؤية بمقدار نضج هذا الإنسان واجتيازه بنجاح المراحلَ الحرجةَ من ربيع عمره، بما في ذلك فترة المراهقة الساخنة، إذ لم تعد تغويه أطياف الحسّ بألوانها وأهازيجها!

* * *

عذراً قارئي الكريم، من الإغراق والاستغراق في طرح هذه الرؤية المتواضعة، لكن لم يكن منها بدّ، لأن الحديث عن لندن يفتحُ مسامَّ العقل عبر منافذ الذاكرة من جهة، ومخزون الخبرة من جهة أخرى!

* * *

ما أود الوصولَ إليه عبر هذه المداخلة القصيرة هو أن المرءَ منّا يتغير مزاجاً وأحاسيسَ وتوقعاتٍ عبر صراط الزمن، وتتغيّر تبعاً لذلك أولوياتُ احتياجاته، بعد أن يجتازَ بوابةَ المراهقة الأولى فكراً وسلوكاً إلى فضاءات المعرفة والتجربة والنضج، ثم تَتَشكّل في وجدانه (سلطةُ ردع) تنهاه عن هذا السلوك، وتحضه على ذاك! وعندئذ تتكون في أعماقه نشوةُ من الرضا الذاتي، أنْ لم يعدْ أسيرَ أُسرتِه ومَنْ له ولايةٌ عليه، أمراً ونهياً، وردعاً واستحساناً، وبات قادراً على التفكير باستقلال بعيداً عن فضاء (الضبط والربط) الأسُري، مع استشعار لمسئوليته فيما يقول ويفعل!

* * *

(وللحديث صلة)

مقالات أخرى للكاتب