08-09-2014

مفهوم التديُّن: معنى ودلالة !

جرت هذه المحادثة في فيلم sunset limited بين ملحدٍ ناجٍ من الانتحار ومنقذه المتديِّن..

المؤمن: ما الذي تؤمن به؟

الملحد: أشياء كثيرة.

المؤمن: ماذا تعني؟ ما هي الأشياء التي تؤمن بها؟

الملحد: أؤمن بأشياء.

المؤمن: اضرب لي مثالاً؟

الملحد: الأمور الثقافية... كمثال، الكتب، الموسيقى والفن، تلك هي الأشياء التي لها قيمة عندي. إنها أساس الحضارة.. أو على الأقل كانت لها قيمة عندي، ليست لها قيمة كبيرة الآن كما أعتقد.

المؤمن: ماذا حصل لها؟

الملحد: توقّف الناس عن تقديرها. لست متأكداً من السبب، ولكن ذلك العالم اختفى بشكل كبير الآن. وقريباً سيختفي بالكامل.

المؤمن: لستُ متأكداً من متابعتي لك أيها الأستاذ:

الملحد: لا يوجد شيء لتتابعه. لا تقلق، الأشياء التي أحببتها كانت ضعيفة وهشة جداً. لم أعرف ذلك، ظننت بأنها غير قابله للتدمير ولم تكن كذلك.

المؤمن: وهذا هو ما أرسلك لطرف الرصيف؟ ما فائدة امتلاك مفاهيم كتلك إذا لم تبقك ملتصقاً بالرصيف أثناء مرور القطار بسرعة 80 ميلاً في الساعة؟!.

علم المعاني «السيمنطيقا» ربط بين اللفظ ومعناه بعلاقة إما طبيعية أو عرفية. والعلاقة التي تنجم عن تراض بين البشر للإشارة ودلالتها (العرفية) هي الأقرب للإثبات. فيكفي أن نقول «فرح» لتتبادر لأذهاننا تلك الحالة المبهجة التي ترفع معدل هرمونات معينة، ونعرف أعراضها على الملامح ولغة الجسد. والسؤال الآن ما الذي يتبادر لأذهاننا حينما نقول مُتدين؟!

في أحسن الأحوال يُستحضر المتدين في الذهنية النمطية كصورةٍ لعابد متنسّك، وفي أسوأها في صورة شخص ذي لباس محدد، يغلب عليه الجمود والتجهم، وغالباً ما يكون هو الشخص الذي يوزع مواعظ ونصائح مجانية على من حوله أو حتى لعابر في الطريق. والصورة هذه هي الأكثر شمولاً وقفزاً للذهن. والمدهش في الأمر أننا مجتمع ذو طابع ديني، وبالمفهوم العقائدي والعبادي كلنا متدينون. لكن صورة الشخص بالصفات المذكورة هنا هي التي تلح على الذهن للربط بينها وبين لفظة «متدين» فلماذا؟!

التضافر الدلالي واللفظي لـ «متدين» التي تشير لهؤلاء خشني الطباع والملبس لم ينجم إلا بسبب تداولية اللفظة مرتبطة بالصورة معاً كمفهوم سيمنطيقي واحد.. فيما بهتت وتراجعت صورة المتدين الحقيقي في ذاكرة المعاني القريبة. وحينما نطرح سؤالاً مشروعاً «من هو المتدين؟» لمحاولة استرجاع المعنى المخطوف لصالح العنف والتطرف والتنطع. ولهذا علينا أن نُرحِّل المعاني الزائفة لنفرد المساحة للمعنى الحقيقي للتدين. كصورة العابد الذي لم تتجاوز عباداته كونها أعباء عضلية لا أكثر. أو صورة الشخص غليظ الطباع، المتوحد، الذي يطل على (عالم العُصاة) من برجه العالي بفوقية المنوط بتطهير العالم بالطرق المباحة أو المحرمة!. بهذا نصل لمبتغانا بطرد تلك الصور المزيّفة للمتدين. فالتدين بجانبه الروحي والعبادي والتعاليمي يقف أولاً على أرضية صلبة من علاقة سامقة بين المخلوق وخالقه، علاقة تبعث في النفس إيماناً قوياً بجدوى الحياة وقيمة النفس وما تبذله من خيرٍ متبادل بينها وبين البشر أو بينها وبين الكون من حولها كمنظومة متكاملة لإعمار الأرض، بعيداً عن الفوضى واللاجدوى المؤدية لفراغ عميق في النفس وشعور باليأس والضياع. لذا وجدتُ في الاقتباس الذي أوردته بداية المقال الذي انتهى بالسؤال الفلسفي: «ما فائدة امتلاك مفاهيم كتلك إذا لم تبقك ملتصقاً بالرصيف أثناء مرور القطار بسرعه 80 ميلاً في الساعة؟!.» نعم هذا هو الإيمان الذي يدفع صاحبه للشعور العميق بجدواه وجدوى الحياة. وهذا وحده كافٍ لأن يشع داخلياً بالحب والتصالح مع ذاته ومع محيطه. ومنه ينبعث لديه الدافع الحقيقي لأن يكون صادقاً، خيّراً، معطاءً، رحيماً، بشوشاً، نظيفاً، ودوداً.. المتدين هو ذلك الشخص الذي يمتلك الشعور العميق بالطمأنينة لأنه بين يديْ الله وتحت عنايته في ملكوت الله وحده حتى في حالات الشدة.

وأجد من المفيد الآن أن أستجلب الفيديو الأخير الذي أثار جدلاً واسعاً للشجار الواقع بين أحد منسوبي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومُقيم بريطاني، يصور فيه انقضاض رجل الهيئة على البريطاني بطريقة أبعد ما تكون عن محاولة أمر بمعروف أو نهي عن منكر. وأبعد ما تكون بالطبع عن آلية عمل جهاز الهيئة الذي يقوده الشيخ عبداللطيف آل الشيخ، آخذاً إياه لتطورات أكثر مهنية. وما قام به منسوب الهيئة هو أحد المعطيات التي ساهمت بتشويه صورة المتدين في ذاكرة المفردات والدلالات القائمة.

kowther.ma.arbash@gmail.com

kowthermusa@ تويتر

مقالات أخرى للكاتب