20-09-2014

هل الأزمة المالية جعلت الولايات المتحدة تتراجع عن العولمة؟

هناك ثلاثة نماذج هي عالمية الإسلام والاشتراكية وعولمة الرأسمالية، بالطبع عالمية الإسلام تركز على تحرير العباد من عبادة غير الله إلى عبادة الله وحده لا شريك له كمرتكز أساس: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (28) سورة سبأ..

وعالمية الإسلام تقوم أساساً على التعاون والتكامل فيما بين البشر {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (13) سورة الحجرات..

وأوضحت عالمية الإسلام كيفية هذا التعاون والتكامل المبني على توزيع وتفاوت الموارد من خلال تسخير الناس بعضهم لبعض وفق سنن الله سبحانه وتعالى {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} (32) سورة الزخرف، لأن من عدل الله سبحانه وتعالى ألا يساوي بين من يعمل وبين من لا يعمل، وبين من يجتهد وبين من لا يجتهد.

بينما النموذج الاشتراكي يخالف فطرة الله والعدل الذي فرضه الله سبحانه وتعالى بين البشر، وحاول هذا النموذج أن يلغي التفاوت قسرياً بين البشر فيكون قد ألغى السعي نحو الابتكار فتختفي القدرات وتتلاشى وتذوب بين السكان، في حين أن في النظام الإسلامي الفقير يحتاج للغني والغني يحتاج للفقير، أي أن حكمة الله وعدله اقتضت تسخير كل واحد للآخر لتستقيم الحياة وتتواصل المسيرة وفق قدرات وإبداعات كل شخص، وبالطبع أثبت النموذج الاشتراكي فشله كنموذج تطبيقي بديل للنموذج الرأسمالي المتوحش وتخلت الدول التي تطبقه قبل أن يتخلى عنه العالم.

الأزمة المالية التي ألمّت بالولايات المتحدة عام 2008 قائدة العولمة، اضطرت الولايات المتحدة إلى تغيير سياساتها، وتنحو نحو التحول المفروض عليها بعد التفاهم الاقتصادي الذي أتى بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تستوعب الولايات المتحدة أن العولمة التي قادتها استفادت منها القوى الصاعدة بشكل كبير جداً والصين بشكل خاص، وهذا النظام استفادت منه أوربا بشكل خاص بعد الحرب العالمية الثانية وانتشلها من الدمار الذي ألمَّ بها نتيجة الحرب العالمية الثانية، صحيح أنه ضمن للولايات المتحدة الهيمنة والسيطرة على العالم وتحالفت الولايات المتحدة مع أوروبا نتيجة تحديات فرضت عليها مع الاتحاد السوفيتي حتى تم تفكيك الاتحاد السوفيتي واتجه إلى الانهيار والزوال.

وتتجه الولايات المتحدة اليوم هي الأخرى نحو التراجع والانتقال بشكل عام من العمل كضامن للقوانين متعددة الأطراف إلى تفضيل تحالفات صغيرة أو تحالفات تفضيلية وصفقات استثمارية مع بلدان مشابهة، أي أنها تراجعت عن النظام الليبرالي (العولمة) الذي وضعته بعد الحرب العالمية الثانية، وهي تستبدل جانب الأطراف المتعددة والاتفاقيات التجارية الشاملة لمصلحة الصفقات الثنائية والإقليمية، وتُعتبر الولايات المتحدة الشراكة المقترحة عبر الباسيفيكي والأطلنطي، وللحلف الاستثماري إطارات بالعيون الأمريكية أقرب إلى إستراتيجية سد الطريق في وجه الصين، بينما هي تدّعي أنها جسر في العودة إلى التجارة متعددة الأطراف.

رغم أن الصين تشعر بالقلق وتدرك أن مماحكات الولايات المتحدة وسجالاتها هي مصدر قلق بالنسبة لها على الأمد القصير، وتدرك الصين كذلك أن استدامة الرفاهية لا بد أن تعتمد بالدرجة الأولى بالوصول إلى ملعب متكافئ على المستوى العالمي، وحتى وقت قريب كان الإجماع قائماً على أن القرن الحالي هو قرن البلدان الناشئة، ولكن بعد تراجع الولايات المتحدة عن العولمة التي استفادت منها الدول الناشئة وخصوصا الصين فهناك تساؤل حول مدى السرعة التي قد تنمو بها الأسواق الناشئة؟.

لكن لا يزال الفارق كبيراً بين نصيب الفرد ما بين الدول الناشئة والدول المتقدمة الغنية، فالولايات المتحدة هي إحدى الدول العشر التي يرتفع فيها نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي نحو 46 ألف دولار، والدول التي تسبقها دول صغيرة جداً مثل قطر ولكسمبرج وسنغافورة، والنرويج الدولة الوحيدة التي تُعتبر دولة كبيرة تسبق الولايات المتحدة ثم بروناي فدولة الإمارات فالولايات المتحدة وهي تسبق هولندا وبريطانيا وألمانيا واليابان وفرنسا.

بينما نصيب الفرد في الصين وصل إلى 6 آلاف دولار مرتفعاً من 2,5 ألف دولار قبل خمس سنوات فقط، يدل على نمو ارتفاع نصيب الفرد في الصين بشكل سريع جداً، وكذلك ارتفع نصيب الفرد في السعودية من 16 ألف دولار إلى 25 ألف دولار أيضاً خلال خمسة أعوام فقط.

وهناك تقارير متشائمة جداً تبث الخوف والرعب لدى الدول الغنية والمتقدمة مثل تقرير صادر عن بنك إتش إس بي سي يشير هذا التقرير إلى أن ناتج الدول الغنية البالغ 27 تريليون دولار، بينما يصل ناتج الدول الناشئة إلى 10 تريليونات دولار في عام 2012، يمكن أن يصل الناتج المحلي للدول الناشئة عام 2050 نحو 55 تريليون دولار مقابل 49 تريليون دولار للدول المتقدمة الغنية وستصبح 19 دولة ناشئة من أصل 30 دولة كأكبر اقتصاد في العالم، بينما الواقع لا يدل على ذلك بسبب أن الفرق بين نصيب الفرد في الدول المتقدمة والناشئة كبير جداً.

أي أن المستقبل غير مؤكد، والتقارب والتعاون لن ينتهي، بل مسار العالم يتجه نحو التقارب والتعاون وهو أقوى من ذي قبل، ولكن لن يستمر التقسيم التقليدي السابق.. عالم مصدر للسلع والمواد الأولية أي عالم مستهلك وعالم صناعي مصدر، وستكون الاقتصادات المتنوعة سمة مشتركة بين جميع دول العالم، نتيجة إحراز مزيد من التقدم التكنولوجي والتنوع، ولن تستمر الفجوة كبيرة ما بين الشمال والجنوب.

وسيظل اللحاق بالتكنولوجيا المحرك الأساس للتقارب، ورغم أن التقارب لم تستفد منه كل الدول الناشئة والنامية، ولكنه أسفر عن تغيير طبيعة وبنية الاقتصاد العالمي، وبخاصة من حيث الفجوة التقليدية بين الشمال والجنوب، وسيستمر هذا في المستقبل نتيجة الترابط المالي والاعتماد المتبادل للتجارة العالمية، وإذا حدث تباطؤ كبير في الاقتصادات الناشئة فمن شأنه أن يؤدي إلى تباطؤ أيضاً في النمو الاقتصادي في الاقتصادات المتقدمة.

فإن النمو في الفترة القادمة سيتوقف على تكديس القدرات التكنولوجية والمؤسسية ونوعية السياسات الوطنية، وستظل هذه السياسات الوطنية تشكّل أساس التقارب والتعاون العالمي، ويجب علينا ألا نسمح للتقارير المتشائمة والمخاوف أن تسيطر على التوقعات المستقبلية.

Dr_mahboob1@hotmail.com

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة

مقالات أخرى للكاتب