21-09-2014

وطن (الخلود).. بلا (جحود)..!

* كيف تُخلد الأوطان وتُحب، إذا لم يكن بها إنسان غيور مُحب..؟!

* لم يغال من قال: (وطني دائماً على حق)، ولا من قال: (الوطنية تعمل ولا تتكلم)، فالوطنية أرقى منزلة، من أقوال مجردة، وأزهى مكانة؛ من أفعال مجمدة.

* وطن الإنسان؛ حيث ولد وعاش كريماً معززاً، ممزوجاً بتراب أرضه، وطيب هوائه، وصفاء سمائه، وعشرة إنسانه، فكيف لا يكون وفياً مع هذا كله..؟!

* من أقبح ما في الكون؛ أن يخون المرء وطنه، بنكران جميله، وجحود نعمته، والنكوص عن حمايته، ونحن نرى في زمننا ما هو أقبح وأسوأ؛ ألا وهو بيع الأوطان، والمساهمة في تدميرها وتحطيمها وتشويهها، على أيدي الناكرين والجاحدين من أبنائها.

* ينطبق على هؤلاء الكافرين بنعمة أوطانهم؛ ما قال به (تشي جيفارا): مثل الذي باع بلاده، وخان وطنه، مثل الذي يسرق من بيت أبيه ليطعم اللصوص، فلا أبوه يسامحه، ولا اللص يكافئه.

* ماذا ينقص هؤلاء وأولئك ليتمثلوا القيم الحضارية والإنسانية التي تعنيها الأوطان في نفوس أبنائها البررة..؟! ويعرفوا ماذا قدم وبذل آباؤهم وأجدادهم من قبلهم، من تضحيات كبيرة، وأعمال جليلة، لتكوين المكان (الوطن)، وتحصين الإنسان (المواطن)..؟!

* مما وصلنا من كلام الحكماء العقلاء قولهم: حب الوطن من الإيمان. والخروج عن الوطن عقوبة. ونسب بعضهم هذين القولين إلى المصطفى صلوات الله وسلامه عليه.

* ثم مما وصلنا عنهم قولهم: بحب الأوطان عُمّرت البلدان. وعن جالينوس: يتروح العليل بنسيم أرضه؛ كما تتروح الأرض الجدبة ببل المطر. وقال بقراط: يداوى كل عليل بعقاقير أرضه، كأن الطبيعة تنزع إلى غذائها.

* ومن أصدق الأقوال في هذا الصدد؛ ما أثر عن الأعراب الذين كانوا يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء. مرض أعرابي بالحضر- فقيل له: ما تشتهي؟ قال: مخيضاً روباً، وضبّاً مشوياً. وقال آخر: أحق البلدان بنزاعك إليها؛ بلد أمصّك حلب رضاعه. وعن آخر: احفظ أرضاً أرسخك رضاعها، وأصلحك غذاؤها، وارع حمى اكتنفك فناؤه.

* وما زلنا مع الأعراب- (أجدادنا) - نتعلم منهم حب الأوطان. قيل لأعرابي: كيف تصنع بالبادية إذا انتصف النهار، وانتعل كل شيء ظله؟ فقال: وهل العيش إلا ذاك؟ يمشي أحدنا ميلاً، فيرفضّ عرقاً كأنه الجمان، ثم ينصب عصاه، ويلقي عليها كساه، وتقبل الرياح من كل جانب، فكأنه في إيوان كسرى.

* وسئل أعرابي: ما الغبطة؟ قال: الكفاية، ولزوم الأوطان، والجلوس مع الإخوان. وقيل له: فما الذلّ؟ قال: التنقل في البلدان، والتنحي عن الأوطان.

* وحدثوا عن بعض بني هاشم قال: قلت لأعرابي: من أين أقبلت؟ قال: من هذه البادية، قلت: وأين تسكن منها؟ قال: مساقط الحمى حمى ضرية، ما إن لعمر الله أريد بها بدلاً، ولا أبتغي عنها حولاً، حفتها الفلوات، فلا يملولح ماؤها، وتحمى تربتها. ليس فيها أذى ولا قذى ولا وعك ولا لوم، ونحن بأرفه عيش، وأوسع معيشة، وأسبغ نعمة. ثم قيل له: ما طعامكم؟ قال: بخ بخ.. الهبيد والضباب واليرابيع مع القنافذ والحيات، وطالما أكلنا القد، واشتوينا الجلد، فلا نعلم أحداً أخصب منا عيشاً، فالحمد لله على ما رزق من السعة، وبسط من حسن الدعة.

* ومما قالوا في حب أوطانهم التي ولدوا وتربوا فيها: لا تشك بلداً فيه قبائلك. وقولهم: من علامة الرشد؛ أن تكون النفس إلى أوطانها مشتاقة، وإلى مولدها تواقة.

* وقال بعض الأدباء: الغربة ذلة، والذلة قلة. وقال الآخر: لا تنهض عن وطنك ووكرك فتنقصك الغربة، وتصمتك الوحدة.

* وكان يقال فيما مضى: الغريب عن وطنه ومحل رضاعه؛ الذي زايل أرضه، وفقد شربه، فهو ذاوٍ لا يثمر، وذابل لا ينضر. ويقال: الجالي عن مسقط رأسه، كالعير الناشر عن موضعه، الذي هو لكل رام رمية.

* وشبهت الحكماء الغريب باليتيم اللطيم، الذي ثكل أبويه، فلا أم ترأمه، ولا أب يحدب عليه. فقال حكيم: عسرك في بلدك؛ خير من يسرك في غربتك. وكما قال (تشي جيفارا): قد يكون من السهل نقل الإنسان من وطنه، ولكن من الصعب نقل وطنه منه..!

* هذا هو حب الأوطان؛ حين يتغلغل في نفس الإنسان:

وتُستَعذَبُ الأَرضُ التي لَا هَوَىَ بِهَا

وَلاَ مَاؤُهَا عَذبٌ وَلَكِنهَا وَطَنُ

* ومن أصدق وأنصع صور الإحساس بفراق الوطن، والحب لأرضه وأهله؛ ما رسمه الشاعر خير الدين الزركلي في هذه الأبيات:

العَينُ بَعَدَ فِرَاقِهَا الوَطَنَا

لاَ سَاكِنَاً أَلِفَت وَلاَ سَكَنَا

ريانَةٌ بالدَمعِ، أقلَقَهَا

ألاَ تُحِسَ كَرَىً وَلاَ وَسَنَا

كَانَت تَرَى فِي كُلِ سَانِحَةٍ

حُسنَاً، وَبَاتَت لاَ تَرَى حَسَنَا

وَالقَلبُ لَولا أَنةٌ صَعَدَت

أنكَرتُهُ وَشَكَكتُ فِيهِ أنَا

ليَتَ الذَيَنَ أُحِبُهُم عَلِمُوا

وَهُم هُنَالِكَ مَا لقِيِتُ هُنَا

مَا كُنتُ أَحسَبُني مُفَارِقَهُم

حَتَى تُفَارِقَ رُوحِي البَدَنَا

* قلت بعد هذا كله: (لا خلود؛ لأوطان يشيع بين أبنائها الجحود).

alsalmih@ymail.com

assahm@maktoob.com

مقالات أخرى للكاتب